شيخ العرب وخليفة الأمير: أحمد عوض الكريم أبو سن شاعر المسادير
1-2
asaadaltayib@hotmail.com
البطانة تلك الأرض التي كونت الحس الجمالي والمزاج الفني للشاعر السوداني كانت كريمة ومعطاءة، كدأبها عندما أنجبت لنا شاعر دوبيت في قامة أحمد عوض الكريم أبو سن الذي لا نشك في أنه خليفة الحاردلو أمير الشعر الشعبي وملك قوافيه.
إنه أحمد عوض الكريم ابن حمد ابن الشيخ عوض الكريم أحمد بك أبو سن الملقب بشيخ العرب و بأب رأس، والدته السيدة ستنا ابنة علي الهد ابن الشيخ عوض الكريم، ولد في عام 1908 بمنطقة ريرة بالبطانة، وفيها نشأ وترعرع، وهو ينتمي أباً وأماً إلى فرع السناب من قبيلة الشكرية المعروفة.
وأصاب شاعرنا أحمد عوض الكريم شهره واسعة وصيتاً لا مثيل له، فالقاصي والداني في أرض البطانة وغيرها من المناحي ذات الصلة بشعر الدوبيت يعرفه، كما تعرفه أوساط المثقفين وطبقات المجتمع العليا، لما تميزت به أشعاره من عمق وجزالة وفرادة، ولما اتسمت به روحه من طيبة وشفافية ووضوح ولطف، يقول عنه الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن: (الشاعر أحمد ود عوض الكريم رجل لطيف المعشر مهذب السلوك يحبه الناس جميعاً ويحرصون على حضور مجلسه والاستماع إلى شعره في جلسات مسائية تأخذ الليل كله أو جله. وهو رجل ضحوك بشوش له صوت مدوٍ عميق، ويلقاك دائماً بالابتسامة التي تعلو شفاهه، ويضحك بملء فيه للطرفة والنكتة والتعليق الناقد لشعره. ويستمع إلى نقد الناقد لشعره بإصغاءٍ شديد، ويتأمل ذلك النقد وقد يرد عليه في حينه، وقد يتقبله راضياً غير ساخط. يقول عنه الأستاذ الباحث العالم ميرغني ديشاب في مخطوطه معجم شعراء البطانة أن في شعره تحضر وله ولع باستخدام الفصيح من اللفظ عن ثقافة متمكنة ضافة إلى فخامة وجزالة مع ميل إلى المحسنات البديعية.
وكان شاعرنا أحمد عوض الكريم يحترف الشعر في حياته احترافاً فلا شيء سواه كان يشغله، غير أننا نشير إلى أنه عمل في فترة من فترات شبابه شيخاً لمنطقة "بدنة" وهو منصب أعفيَّ منه لنزوعه لقول الشعر، وعدم إهتمامه بواجباته الإدارية التي كانت تفرضها عليه الشياخة. وعندما أنشئ مشروع خشم القربة تأثرت به حياته وارتبط به، إذ هاجر إليه من منطقته ريرة ليجرب حظه في الزراعة، وسكن تبعاً لذلك في قرية "عريضة" وهذه النقلة أشار إليها الشاعر الصادق حمد الحلال في مربعه القائل:-
اللَيلَهْ الحَـواوِيشْ جَـدَدَّنْ بـيْ جَـدِيدَه
جَـابَنْ عَـشَّه مِنْ دَنْبُو ونَواحِي سَعِيدَه
فَـرَقَتْنِي أُم سَـرابْ مِـنْ القَلِبنَا بِرِيـدَا
وَدْ الحَارْ عَقَبْ رَيرَه وسَكَنْ فِي عَرِيضَه
وبدأ شاعرنا أحمد يقرض الشعر وهو دون العشرين من عمره، وكم كان عجيباً أن أنشأ مسداره "المفازة" الذي بلغ به حد الروعة والإبداع وهو في التاسعة عشرة من عمره.
بالدربة العالية والتجربة العميقة والخبرات المتراكمة، طار أحمد عوض الكريم بأشعاره وبلغ بمكانتها عنان السماء، وطرق بها أبواباً مختلفة، كالوصف والغزل والحماسة والرثاء، وولج بها ثلاثية الدوبيت الخالدة ولوجاً غير مسبوق، ولعل مساديره العشرة تعتبر من أهم آثاره الشعرية، فعندما وضع رجله في وقت مبكر في بطون أوديتها طواها دون عِثار، وتسلق جبالها ليحط على سفوحها دون وعثاء أو تعب، لأنه نظر جيداً إلى الأوائل الذين أثاروا إعجابه من الشعراء، لا سيما أن تجربة الحاردلو كانت ماثلة أمامه بكل ألقها ورائديتها التي بلغت بالدوبيت إلى كمال نضجه ومنتهى رونقه، كما كان ينظر إلى أشعار المجيدين ممن نظموا الدوبيت بعـد الحاردلو، كالشاعر الفحل محمد ود السميري الذي لم يخفِ شاعرنا تأثره به، والمعروف أن شاعرنا كان يمتلك ذاكرة قوية أتاحت له أن يحفظ جميع أشعاره على كثرتها عن ظهر قلب وكل ما يقع عليه من شعر الآخرين، وهذا ما يفسر لنا غزارة مخزونه اللغوي وجزالته وأساليبه الفنية وتراكيبه الشعرية البديعة المرفودة بموهبته القوية التي اشتد عنفوانها بتلك المعطيات الثرية.
وكان شاعرنا عليه رحمة الله نجماً ساطعاً في المجتمع، فقد تشابكت علاقاته مع كل فئاته، فكان صديقاً للفقراء والبسطاء وللأغنياء والأثرياء ولرجال السلطة وأهل القانون، وإن أنس لا أنس تلك الصداقة التي جمعته بوالدي الذي يقدر الشعر القومي حق قدره، وكان آنذاك القاضي المقيم بمدينة حلفا الجديدة في العام 1968م، وأنا لم أتجاوز بعد العقد الأول من عمري، وكم كنت أجهل قيمة هذا الشاعرالعظيم الذي ألفيته أسمر اللون مشرب بحمرةِ يحمل وجهاً مليحاً يتوسطه أنف أشم كمنقار الصقر، وله ذقن خفيفة مستديرة تتواءم تماماً وشاربه المهذب، مربوع القامة غير أنه يميل قليلاً إلى الطولِ مع امتلاء يسير في الجسد وضخامة في الكراديس، ويتزيأ دائماً بثوبه البدوي السنابي الذي يحوطه وينتهي كالوشاحين عند كتفيه. كنت استغرب ذلك الاحتفاء الذي كان يبديه والدي للرجل، وكنت اتعجب من إقامته معنا في منزلنا لمدة تطول أحياناً لأيام، وكان علينا شقيقي الراحل الزبير وأنا أن نقوم على خدمته منذ الصباح الباكر بأمر الوالد، وهو أمر لجهلنا ما أحببناه، وكم كنا نتوجس كلما طرق أحمد عوض الكريم باب منزلنا، فهذا يعني أن الخدمة الصباحية الباكرة التي تستأنف بعد عودتنا من المدرسة ستعود من جديد، وليت الزمان عاد بي لتلك الأيام لأكون خادماً مطيعاً ومخلصاً لهذا الشاعر العبقري. ويظل الأسى يغمرني كلما أذكر تلك المسودة الضخمة المفقودة التي سجل فيها والدي بخط يده كل أشعار أحمد عوض الكريم في تلك الجلسات المسائية والصباحية التي كانت تجمعهما، وكان شديد الحرص عليها، يضعها في مكتبته الخاصة ويرجع إليها من حين إلى حين، وبسبب تنقل الوالد لأغراض العمل من مدينة إلى مدينة فقدت تلك المسودة الكنز، ولم استطع حينها أن استوعب ذلك الغضب العنيف الذي اجتاح والدي على إثر ضياع تلك المسودة. كنا نسأل والدنا عن كنه الرجل فيقول لنا إنه شاعر عظيم، فنعلق متسائلين أهو أعظم منك ومن جدنا العباسي ؟! فيقول لنا إنه لا يقول الشعر الفصيح مثلنا إنما يقوله بلغة الدوبيت، وهو في ذلك متفوق جداً. وأذكر أن والدي كان يطلب منا أن نردد خلفه بعض رباعيات الرجل، وكنا نجد مشقة بالغة في ذلك، بل كان الأمر يثير ضحكنا وتهكمنا، وقد استطعت رغم ذلك أن أحفظ رباعيتين عاليتي الرنين لأحمد عوض الكريم ظلتا تجلجلان في ذاكرتي منذ أيام الطفولة وإلى اليوم هما قوله:-
عِقَـيدَاتاً بِبينَنْ مِـنْ كِتَـيرْ النُـصْ
جَاهِنْ كَفُو زَيْ مَكَـنْ الخياطَـه يِرُصْ
عَليْ المُرْنَاعْ بِرَيرِيبْ اللَرَايلْ الحُـصْ
عَجَلَكْ تِرو عَينَك في الشَقَيقْ لا تْبُصْ
وقوله:-
إِجـمعْ بَعـدْ شَـرفْ الحِريحِيرْ طَــارْ
دَانى بَعيدو بى المَصَعِي وجَرِي الحَارْحَارْ
عَليْ جِريعـةَ البِنَوني ومِسكَةْ أَبْ مُحَارْ
لَولَحْ رَاسُــو واتمرْعَـفْ بَلا السَحَّارْ
وكنت أردد هاتين الرباعيتين باستمرار وزهو دون فهم أو استيعاب لما تحملانهما من معانٍ، واستمر تردادي لهما هكذا لسنوات كلما وجدت المناسبة والمتلقين كزملائي التلاميذ وبعض أهلي، وفي كل مرة أرى في أعينهم دهشة وإعجاباً لا يُخفيان وكنت سعيداً بذلك، والآن أجزم بأن تلك الرباعيتين كانتا البذرة التي أنبتت في قلبي حب الدوبيت.
ورغم أن هذا الشاعر العظيم كان محلاً لدراسات عديدة منذ منتصف القرن الماضي ولا يكاد يخلو كتاب صدر عن الأدب القومي، إلا وكان أحمد عوض الكريم أحد عناصره، وقد أفرد له الأديب الكبير حسان أبو عاقلة سفراً كاملاً1 كما ذكر نماذج من شعره في كتاب آخر، غير أننا لا يمكن أن نغفله لأهميته وشاعريته الفذة التي تفرض علينا أن نسلط المزيد من الضوء على حياته وشعره.
ذكرنا أن المسادير العشرة التي أنشأها شاعرنا تعتبر من أهم آثاره الشعرية، وقد جاءت جميعها بالمعنى الأدبي للمسدار، وهو وصف رحلة الشاعر المحب من موضع انطلاقه على ظهر مطيته إلى ديار المحبوبة عدا مسداري " الصيد" و "المطيرق" اللذان جارى فيهما الشاعر الحاردلو، وجاءت مساديره الثمانية الأخرى تحت أسماء " القضارف" " المفازة" " رفاعة" " القمري" "العديد" " البقر" " الصباغ" " تمثال العرب" ويمكن للمتلقي أن يرجع إليها كاملة في المصادر التي توثق لأدبنا الشعبي، ككتاب فن المسدار للأستاذ الدكتور سيد حامد حريز وكتاب تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة للأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن. وقد قمنا بشرح هذه المسادير في كتابنا "شرح مسادير الشاعر أحمد عوض الكريم أبو سن" والمؤمل أن يصدر قريباً. وسنقوم الآن بإيراد بعض النماذج الشعرية من مساديره والتي توضح لنا أي شاعر كان شيخ العرب.