التوثيق للجنيه ودخوله مرحلة الندرة -3- … بقلم: حليمة محمد عبد الرحمن
halimam2001@yahoo.com
ذكرنا في المقالة السابقة بعنوان: (القيمة الاقتصادية للجنيه في القرية !!) وكيف انه كان يؤمن للعريس زوجة ومسكناً وحفلات (رابة) ، يخالطها تقديم خدمات فندقية ممتازة لأهل العريس لمدة أربعين يوما.
وحتى تكتمل الصورة، ننتقل (بسيرتنا) هذه المرة، إلى الحضر ونقف على موقف الجنيه والمواقف الكاريكاتورية المصاحبة لتعامل الرأسمالية معه والاحتفاء به.
المدخل الثاني: مقاطع من أغنية المهيرة..
*المهيرة عقد القصيص..
انت الملكة
والحرس انجليز
حكومة يا عروسنا.
*المهيرة عقد الجلاد النار يا عروسنا
العريسك غلبو الثبات
*المهيرة البيت فرشو
ديل نسابتك بالبيجو جو..
النار يا عروسنا..
*سدوا مالك مية مدبسة
الكورس: الله لـَيْ يا الله
والمهندس جا ورسم البنا
قمت بتقسيم أغنية المهيرة إلى ثلاثة أجزاء.. الجزء الأول خاص بالمكانة الاجتماعية للعروس من حيث إنها (بت عز ورضاعة بز)، كما يقول المثل (المنجور) حديثا لتمجيد وضع مقلوب. ومثل هذه الزيجة أحدثت ترهلا كبيرا في القيمة الاقتصادية للجنيه وأوجدت بنود ما انزل الله بها من سلطان من حيث المسميات والاحتفالات وكله بثمنه. فهناك فتح (الخشم) وهو مبلغ من المال خارج المهر، يدفع لام العروس، بعد زيارة مفاجئة (لمسح) الأسرة وتكوين فكرة مبدئية عن الطلبات المستقبلية.. ويقع هذا الفتح (الخشومي) غير المعلن، تحت بند طلب يد العروس. والواقع أن الغرض منه الاطمئنان من ناحية والدة العروس و(جَبْ) أي بوادر عدم رضا قد تعرقل (دفن الليل أب كراعا برا) هذا ، فضلا عن انه يدلل على المكانة الاقتصادية للنسابة الجدد وكرمهم (المقلوع قلع).
ثم يخصص يوم لسد المال و(قطار الشيلة)، الأول تكلفته تضاهي تكلفة العرس من حيث أعداد المعازيم وكميات المأكولات والمشروبات التي تعد لهم، والثاني طالع من (ود عين) العريس وأهله. ثم تلى الطامة الكبرى وهي فطور أم العريس.. وهذه قصة أخرى وميزانية بلغت الملايين، هذا إن تكن أم العروس (تفتيحة) ورفضت الخطوبة السابقة لرمضان وفضلت الواقعة بين العيدين، تحاشيا للسيد رمضان وميزانية (موياته).
حد يعرس الحكومة يا ناس..!!
اما المقطع الثالث فيصف الدابة التي وصل بها العريس ورهطه إلى منزل العروس و هي عربة البيجو الفرنسية.. ومعهم مهرهم مائة جنيه (صُرة وخيط).
ضاعت جنيه جدي وضاع فرح جدتي اللحظة التي قررت فيها ركوب الزلط والاتجاه شمالا(نحو الخرطوم) للمضاهاة بين الاثنين.. الله غالب.
المهم...
يبدو أن حريق المائة جنيه كان قوياً بحيث تعدي ذلك الكوبليه الذي يردده الكورس، وأجبرنا علي الوقوف والمقارنة ما بين " النسابة" في القرية الذين ساروا (كداري) وهؤلاء الذين ترجلوا عن عربات البيجو الفرنسية الصنع..
وكلمة بيجو تعني الجوهرة باللغة الفرنسية، بالتالي لا يمكن تحاشي الرمزية في هذا المقطع سواء أرادت المغنية أم لا.
لا تخبر الأغنية عن الكيفية التي دخلت بها هذه الكلمة الفرنسية الأصلية إلى المفردات السودانية ولكن ذكرها يؤرخ للمظاهر الاجتماعية التي بدأت تطل برأسها بقوة..
وضح جلياً ان المال يذهب حيث يكون المال..
والمقارنة الأخرى أن جدي امهر جدتي جنيهاً واحداً وتكون فرشه من برش احمر ومخدة وربما مخدتان توضعان على عنقريب (القـِدْ النفيرابي) اليتيم- نسبة إلى عائلة النفيراب التي اشتهرت بصنع العناقريب في ود مدني - بينما العريس الثاني (نُجِدت) له المراتب وفرشت الاسِرَّة..!! هذا إن لم تجلب له مراتب Sleep High الشهيرة لاحقا..
يبدو أن هذه المقارنة تؤسس لتدني القيمة الاقتصادية للجنيه. ولعل ذلك يسجل بداية ظهور الرأسمالية الوطنية مع تفاوت ونسبية درجة غناها. فقد كان في السابق من يملك غرفة من الطوب الأحمر أو (الضانقيل) يصنف بين الاثريا، أما من يكون له أكثر من غرفة واحدة من الطوب الأحمر آنذاك، فيستحق لقب بيل غيتس السودان، بجدارة..
وللتأكيد على ذلك فقد غنى الفنان العظيم محمد الأمين في الرثاء متطرقا إلى المظاهر العمرانية التي غزت الأرياف والحضر...
تبكيك الجوامع الإنبنت ضانقيل
لقراية العلم وكلمة التهليل
دوبة حليل ابوي اللي العلم دراس
كان ذلك المبلغ المذكور أعلاه المائة (جنيه)، من الضخامة بحيث يصير الاحتفاظ به داخل المنزل نوعاً من أنواع المخاطرة. لذلك كان لابد من وضعه في البنك.
وعبارة (مدبسة) تضع أهل العريس في مصاف الأثرياء، الذين يقلبون (العَوَجة) فتصير عديلة، بمقاييس ثراء هذا الزمان، الاجتماعية، ثم إن أهل العريس لابد أن يكونوا من قاطني المدن الذين يعرفون التعامل بالوسائل الادخارية الحديثة. -العريس ود مدينة وكده- ويجوز أن تكون العروس وأسرتها كذلك، خاصة وان الزواج دخل فيه قرب وبعد المناطق الجغرافية من بين أشياء أخرى. إذ إن عبارة (مدبسة) تفيد أن أهل العروس لم يضطروا إلي عد المال للتأكد من تمامه، وذلك إما أن أهل العروس لهم دراية بقراءة الرقم المتسلسل. فضلا عن معرفة الفلوس السليمة من المزورة، أو أنهم هم الآخرين عينهم ليست (طايرة).
اذا كان مهر جدي جعل من زواجه، زواج الموسم، فمما لا شك فيه أن صاحب المائة جنيه يستحق بجدارة أن تسير بقصته الركبان.
أما العروس فهي (السعيدة الحظ)، التي تم تسديد مهرها (كاش) بدلاً عن التقسيط المريح، أو عرس (الكورة) أو الزواج الجماعي، في زمن صعر فيه الدولار الخد للجنيه..!!
ناري أنا المهندس جا ورسم البنا
تعكس الفقرة السابقة أن العريس له حق التمتع بتملك غرفة مساحتها 4x 4.. و ربما بيت عديل..ينتدب له المهندس خصيصاً حتى يكون المنزل او الغرفة مطابقا لمواصفات صحة البيئة. بالتالي ينزاح عن كاهله هاجس الإيجار ويصفو له الجو فيبيض ويصفر. ويزيد امة محمد إلى يوم يبعثون.ّ!!
أما المقطع: ناري..ناري..ناري أنا..الله لي يا زول، فيعكس مدى الغيرة التي تحس بها باقي الحسان من مثل هذه الزيجة.
الغريب في الأمر أن مبلغ المائة جنيه يتردد ذكره كثيراً. ففي احدي أغاني (الربوع)، يردد احد المغنين أغنية سمسم القضارف:
يا سمسم القضارف
الزول صغير ما عارف..
قليب الريد كل ما هديتك شارف..
يا أماتو ماتْدُقَنُو..
العُقَر ما بـِلْدَنُو..
ميتين جنيه من امو ما بجيبنو
لقد تكرم ذلك المغني الذي لا اذكر اسمه الأن، ورفع المبلغ إلي مائتين جنيه ، ثم لاحقا الى الفين جنيه ويبدو ان الدولار سيأخذ نصيبه هو الآخر. ومن لفظ "من أمه ماب بجيبنو"، يتضح لنا انه طفل عزيز. لعله جاء بعد طول انتظار، علي الرغم من انه قد لا يكون رأي النور علي يدي د. حامد النعيم، أشهر أختصاصي الأجنة في السودان، أو في مستشفي الراهبات بالخرطوم..!!
أما سبب الشراء، فتلك قصة لا نستطيع الإفتاء فيها لأنها تحتاج إلي بحث طويل وتقصي. ونتمنى ألا يصب هذا في توطيد دعاوى الرق والاسترقاق أو بيع الأعضاء البشرية أو التبني القسري..أو غيره من مشتقات العصر الحديث..
اللهم جنبنا المزالق والمغالق وسؤ الطالع وفتح (الخشم الاصلو بالع).. وكشف الستار عن جميع الأحوال وتسديد مهور أولادنا الذكور بالدولار.
إيه يا مولاي إيه
من حديث اشتهيه
ما زال للحديث بقية..