مشاكلنا مع العقيد القذافي بدأت مع “كتيب الرائد عوض حمزة”
كانت بداية تعامل العقيد معمر القذافي مع الشأن السوداني، في مايو 1970، عندما زار الخرطوم برفقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للمشاركة في أعياد "ثورة مايو الظافرة" كما كان يطلق عليها الإعلام الرسمي في تلك الفترة.
قبل وصول العقيد القذافي إلى الخرطوم، أوفد الرائد عوض حمزة عضو مجلس قيادة الثورة، ليتحاور مع قادة الحزب الشيوعي السوداني، الذين تحفظوا على فكرة قيام وحدة فورية ثلاثية بين السودان ومصر وليبيا. ذلك الحوار لم يفض إلى نتيجة ايجابية.
ووزع الليبيون وقتها منشوراً في شكل كتيب على ورق صقيل بعنوان "نحن والحزب الشيوعي السوداني" ينتقدون فيه موقف الشيوعيين السودانيين من "الوحدة الفورية". وحرص الرائد عوض حمزة أن يوزع ذلك الكتيب على نطاق واسع في الخرطوم .
كانت تلك أول مرة يدس فيها العقيد القذافي أنفه في شؤوننا الداخلية.
ساد فتور شديد علاقات العقيد القذافي مع الحزب الشيوعي السوداني، وكان القذافي يقول لبعض زوراه إن السودانيين يريدون الوحدة الفورية، وإن جعفر نميري متحمس لها، لكنه يواجه ضغوطاً من الشيوعيين السودانيين. بعد ذلك توالت أحداث مهمة في علاقاتنا مع العقيد القذافي. علاقات وأحداث سأعود إليها تفصيلاً، بيد أنني سأنتقل إلى بداية التسعينيات، إلى واقعة غير معروفة على نطاق واسع، واقعة تبين كيف ظل العقيد القذافي ينظر إلى "الشأن السوداني". كانت سياسة القذافي تجاه بلادنا تعبيرات مشاعر، فيها الحب والكره، وفيها الإقبال والصد، وفيها رغبة جامحة بأن نخضع لوصايته، وفيها النصيحة والنميمة، بل ودخل فيها القتل والمؤامرات والحروب بالوكالة.
أما الواقعة التي بصددها، فقد كانت بعد حرب الخليج الثانية.
فوجئت السعودية،خلال تلك الحرب، بحجم التعاطف الذي حظي به العراق في الشارع العربي على الرغم من اجتياح الكويت في بادرة لم تعط وزناً لأية اعتبارات سياسية أو تاريخية. لعل أكبر ما فاجأ السعوديون والخليجيون هو تلك التظاهرات والمسيرات التي انطلقت في شوارع مدن وعواصم عربية تعد من الدول الحليفة..
بعد أن سكتت مدافع الحرب، راح السعوديون يبحثون عن أسباب ذلك التعاطف، فلاحظوا من بين ما لاحظوا وجود ثغرات وأحياناً أخطاء في مجال الإعلام. قرر السعوديون اتخاذ مبادرات ملفتة في المجال الإعلامي.
بعد مضي سنوات على اندلاع حرب الخليج الثانية، وما أفرزته على الصعيد العربي من تداعيات أدت في بعض جوانبها إلى تنامي حركات أصولية اتسع مداها حتى داخل منطقة الخليج، كان من أبرز تلك الحركات ما سيعرف لاحقاً "بالأفغان العرب". أولئك المتطوعون الذين ذهبوا في وقت من الأوقات إلى أفغانستان لمحاربة الشيوعية، أي الاتحاد السوفييتي، بتشجيع من دول المنطقة، لكنهم عادوا "ليحاربوا" الولايات المتحدة. عاد أولئك المتطوعون إلى العالم العربي بعد أن تحول الأمر في أفغانستان إلى اقتتال داخلي وصراع على السلطة. عندما عاد المتطوعون، كان الوجود الأمريكي في المنطقة قد تعزز، وأصبحت القوات الأمريكية منتشرة في المنطقة بكثافة، وشرع هؤلاء العائدون في مناهضة ذلك الوجود، نفذوا تفجيرات في عدة دول عربية من بينها السعودية. هذه المعطيات جعلت السعوديين يفكرون في إطلاق مبادرات تعزز مكانتهم وسط شارع عربي اختطفه متشددون .
كانت هناك ثلاثة خيارات مطروحة أمام السعودية في العالم العربي، القيام بمبادرة في الصومال لإنهاء الحرب الأهلية، أو التحرك لإيجاد حل لمشكلة جنوب السودان وبالتالي إنهاء الحرب الأهلية ، أو مبادرة ثالثة لتسوية قضية لوكربي.
تم استبعاد موضوع الصومال خصوصاً أن الولايات المتحدة جربت بنفسها هناك وخرجت بخسائر جسيمة من المستنقع الصومالي. بالنسبة لمشكلة الجنوب السوداني لم يكن في الواقع متاحاً إيجاد حل للمشكلة إلا على قاعدة "حق تقرير المصير"، لكن من غرائب السياسة أن المصريين والعقيد معمر القذافي عارضوا أي اقتراب من قضية جنوب السودان.
موقف المصريين كان معروفاً، إذ اعتبروا دائماً أن بلادنا هي حديقتهم الخلفية، أما العقيد القذافي فكان موقفه أنه غير مسموح لأية جهة الاقتراب من مشكلة جنوب السودان، وفي ظنه أنه الوحيد المؤهل لذلك، وفي اعتقاده أن علاقاته الوثيقة مع بلادنا وعلاقاته المتينة مع الحركة الشعبية تجعله مؤهلاً لإيجاد الحل، ليس الحل الواقعي والمنطقي، بل الحل الذي يجعل هيمنته مطلقة في بلادنا، سواء عبر "بوابة الجنوب" أو "صراعات دارفور".
كان يتعذر على السعودية تبني مبادرة تغضب المصريين الذين تحالفوا مع دول الخليج أثناء الأزمة الكويتية، ثم أن مصر وعلى الرغم من أخطائها القاتلة والمتكررة في السودان بعد رحيل جمال عبد الناصر الذي حظي بمكانة خاصة لدى السودانيين وربطته علاقات صداقة متينة مع رموزهم السياسية من رئيس الحكومة محمد أحمد محجوب إلى عبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي، ظلت شديدة الحساسية من اقتراب أية دولة عربية من مشاكل السودان. لهذه الاعتبارات وجدت السعودية أن الاقتراب من قضية لوكربي ممكناً، بل خياراً صائباً.
كانت الولايات المتحدة وبريطانيا لا تعارضان اقتراب السعودية من قضية لوكربي، على الرغم من أنهما تعتقدان أن الحل يجب أن يقود في النهاية الليبيين عبد الباسط المقرحي ومحمد الأمين فحيمة إلى قاعة المحكمة. وكانت ليبيا مستعدة للبحث عن حل، خصوصاً بعد أن وافقت على محاكمة الليبيين المتهمين في بلد ثالث محايد.
وهكذا جرى الإعداد لصفقة ستؤدي في نهاية المطاف إلى تعليق العقوبات ضد ليبيا، وهي الصفقة التي جعلت من لاعبين أساسيين يطلان على المسرح. لاعبان لم يكونا في الحسبان. لاعبان سيرفعان الستارة بمهارة وذكاء. وهما رئيس جنوب إفريقيا الأسبق نيلسون مانديلا والأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز السفير السعودي في واشنطن أيامئذٍ.
كانت الأمور تتدافع في مختلف الاتجاهات عندما قرر السعوديون والليبيون عقد اجتماعات سرية في مدينة الإسكندرية عام 1998. بحث الليبيون والسعوديون في الإسكندرية "إمكانية التعاون". كانت طرابلس تملك معلومات قيمة حول "الأفغان العرب" من خلال علاقة العقيد معمر القذافي مع اليمن، الذي انتقل إليه عدد كبير من أولئك الأشخاص، وكذلك مع حسن الترابي في السودان الذي كان القناة التي عبر من خلالها عدد كبير منهم إلى السودان بما في ذلك أشهرهم وهو المنشق أسامة بن لادن. خلال اجتماعات الإسكندرية اتفق الجانبان على "التنسيق" حول قضية لوكربي وكذا موضوع "الأفغان العرب".
بعد عدة أشهر من لقاء الإسكندرية، وفي مارس 1999 سيدلي الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران في المملكة العربية السعودية بتصريح يقول فيه "إن السعودية تهدف إلى خدمة الأمة العربية عبر محاولتها التوسط لإيجاد حل للخلاف حول محاكمة المتهمين الليبيين في تفجير طائرة بانام فوق لوكربي"، مشيراً إلى أن دور السعودية هو الوصول إلى العدالة ووضع نهاية للمشكلة قدر الإمكان. اتفق السعوديون أن يتولى رئيس جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا تهيئة الأجواء الدولية لهذه الوساطة .
بلغت تلك الاتصالات نتائج حاسمة. زار نيلسون مانديلا المملكة العربية السعودية والتقى الملك عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد آنذاك) واتفق الجانبان أن يتولى الأمير بندر بن سلطان استكمال مساعي الوساطة.
كان الأمير بندر يعمل ولسنوات سفيراً للمملكة العربية السعودية في واشنطن. كان دبلوماسياً قادراً على فتح جميع الأبواب في العاصمة الأمريكية، بل كان يدخل البيت الأبيض بدون موعد ويجد باستمرار من يستمع إليه، ووجد السعوديون وجنوب إفريقيا أنه الرجل المناسب لهذا الدور. قبل الليبيون بهذا الاقتراح، وعلى الرغم من ذلك كانت تنتظره مقابلة عاصفة مع العقيد معمر القذافي عندما زار طرابلس لأول مرة. كان العقيد القذافي يبحث في الواقع عن جميع التفاصيل. والأهم أن العقيد كان يرغب في الاطمئنان أن الأمور لن تتعرض لأية انتكاسة. أراد العقيد القذافي الذي كانت تحيط به الظنون والشكوك من كل جانب، أن يتأكد أن السعوديين سيسايرون خططه بشأن إنجاح الصفقة. واطمأن العقيد معمر القذافي. ومن الأمور التي ظلت طي الكتمان أنه اشترط عدم اقتراب السعوديين من مشكلة جنوب السودان.
لكن لماذا اشترط ذلك؟ علينا أن نعود من جديد إلى السبعينيات.
عن"الاخبار" السودانية
talha@talhamusa.com