ظلام دامس يتربص مصير الوطن

 


 

 



تشير بوصلة الأحداث ان قطاعاً واسعاً من الكتاب والصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء، إضافة للمعلقين السياسين، تفاعلوا ويتفاعلون مع الأزمات القائمة في السودان .ان نبرات التحليلات العالية وخاصة في دهاليز السلطة الرابعة، قامت وتقوم بشفافية عالية لإيصال (وأوصلت) هذه المعلومة الإعلامية الدسمة إلى أرض الواقع، وفرضت وتفرض نفسها كالطود  الهادر مادة يومية في الأجندة الإعلامية.
نعم ان لغة السلاح، هي المخلفة للدمار والخراب، وأدت إلى تفكك الوطن(ضياع الربع من مساحة السودان وسكانها والموارد الغنية و فقدان الجيرة التاريخية مع كينيا، أوغندا، وكنشاسا، بل الموقع الاستراتيجي كأكبر قطر في أفريقيا وجسر تمازج الحضارتين العربية والأفريقية) ، أصبحت اللغة السائدة للتحاور والتفاوض في هذا البلد. هذه المسلمة المستخدمة من قبل السلطة الحاكمة وأطراف النزاع ، قادت إلى إشعال نار الحرب الدائرة في دارفور، وأبيي، وجنوب كردفان، والسؤال المطروح: ماذا يحدث غداً في القنبلة القابلة للانفجار، ولاية جنوب النيل الأزرق؟
لقد كان يرجى من الدولة السودانية، ان تكون مثالا يحتذى به في التطور الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ السياسي في القارة الأفريقية كما هو الحال في دولة ماليزيا الآسوية. لقد تخطت ماليزيا جميع العقبات من اجتماعية(تقاطع الأعراق وذوبانها في هوية الدولة الواحدة)، واقتصادية(تحويل النمو غير المتوازن لأقاليمها الى نمو عادل بتوظيف استثماري سليم)، وسياسية(ديمقراطية الاتفاق والتراضي)، لتصبح  في عداد أهم الدول الناهضة صناعيا في العالم، والسودان بقي متقوقعًا في محور التخلف و مرحلة التفكك، حتى أصبح يصنف من قبل المحللين برجل أفريقيا المريض.
ان ما يدور في المنطقة العربية من انتفاضات ثورية أطاحت وتطيح بأنظمة تسلط الحكم الفردي، وما يتطلبه الوضع الدولي الراهن، يحتم على السلطة الحاكمة التفكير ملياً وبجدية النظر في إعادة نمطه في حكم البلاد. ان السحابة القاتمة التي تلوح في أفق الوطن، تستدعي التخلص من أسلوب النهج السطحي الاستعراضي القائم على الخطب الحماسية النارية وإلصاق تهم الخيانة بالذين لا يواكبون المسيرة، والتخلي عن سياسة النكوص بالعقود الموقعة دوليا(سمة بارزة للنظام)، بل لابد من احترام الرأي الآخر بإتباع سياسة الوفاق والتراضي الوطني.
ان الأزمات الحادة الجاسمة على صدر البلاد، تستدعي أيضا عدم مناطحة المجتمع الدولي وخاصة القوى العظمى، وإعطائه الذرائع والمبررات للتدخل في شئون الوطن(الفوضى الخلاقة) والمؤدية لتفكك أكثر لأوصاله. نعم ان الصين قوة عظمى وصديق، ولكن يجب عدم النسيان، أنها تضع في المقدمة  مصالحها مع المجتمع الدولي فوق الصداقات. ومن اجل المحافظة على ما تبقى من أرض الوطن، لابد من إيجاد مخرج لحل القضايا العالقة مع المجتمع الدولي، ولو استدعى ذلك تقديم تنازلات تحتوي على جرعة العطرون، لأن وحدة التراب فوق الجميع ويقتضي التضحية. ان سلطة اللاخطاء القاتلة، والجهود المبددة، والفرص المضيعة، تجعل من شعب بلد ما يدفع ثمنا غاليا نتيجة الاستبداد والإحجام عن التعلم من التجارب والوقائع، وعن إدراك الحقيقة أنه سيكون هناك دوما من هو أقوى منها، وأكثر سلاحا من جيشها، وأشد عدوانية من قادتها، وأن ممارستها العنيفة تشجع غيرها على العنف وتعطيه الضوء الأخضر لتدميرها والقضاء عليها.
أن سلطة الأخطاء القاتلة والمشفوعة بعدم الوفاق الوطني، هي أصبحت أيضاً من السمات الرئيسية لسياسة المتنفذين في البلاد، وأصابت المواطنون باليأس والإحباط لتبلور العقم في حل مشاكل الوطن الملحة العاجلة(اجتماعيا، اقتصاديا، وسياسيا)، والبوصلة تتجه نحو تشرذم قادم. 
ذكرت في مقال سابق، أن لدينا الكثير مما لا نستفيد منه، وهو الهدر الذي يكاد المرتبط بالخراب. لدينا أرض زراعية وافرة خصبة، لكنها لا توفر متطلبات الأمن الغذائي، وتخيم على البلاد سمة الفجوة الغذائية<< المجاعة>>، علما بأن السودان كان يرجى منه أن يصبح " سلة غذاء العالم العربي ". ولدينا المياه الجوفية والسطحية، بل النيل بفرعيه الأزرق والأبيض، ولكن الكثير من شبكات المياه تظل خارج العمل، والعطش يسود أرجاء البلاد. ولدينا عدد هائل من المستشفيات والمراكز الصحية، لكنهم لا يوفرون خدمة الجماهير الفقيرة، والأمراض متفشية في جميع أرجاء البلاد، بل هجرة الأطباء والكوادر الفنية المتخصصة هي السمة السائدة. ولدينا ظاهرة تفشي الفقر والبطالة والعطالة وهجرة الكفاءات الماهرة ولا علاج لهم سوى الازدياد المضطرد. لدينا طاقة كهربائية تفي حاجة البلاد، بل تتجاوزها للتصدير، لكن هنا إنقطاع  دائم للتيار الكهربائي والظلام الدامس يخيم في ليالي السودان(كهربة سد مروي والتوربينات ومقولة مكاوي المشهورة: لن يدخل حتى يلج الجمل في سم الخياط). ولدينا الكثير من دور العلم في مختلف مراحلها، لكنها تنتج جيوشًا جرارة من العطالة، والسلم التعليمي وصل أقصى درجات الانحدار. ولدينا الكثير من الكفاءات العلمية النادرة في بلاد المهجر، ولا مكانة لهم في أرض الوطن. ولدينا الكثير من المال يصحبه فقر مدقع واسع الانتشار للغالبية الساحقة للمجتمع السوداني. ولدينا أيضا ثروات ضخمة لا تستخدم للإنتاج بل للاستهلاك وخاصة المضاربات العقارية. ولدينا جهاز مصرفي دائمًا يطمئن بالثقة دون أن يشرح لنا ماهيات آليات النظام المالي والاستفادة منها. ولدينا سكك حديدية كانت الشريان الرابط لأجزاء البلاد, لكنها أصبحت معطلة، وخارج الخدمة. ولدينا الطرق التي لا علاقة لها بالبنية التحتية المطلوبة. ولدينا نظام اتصالات هاتفية والكترونية كثيرا ما تكون معطلة. ولدينا الكثير من السلاح الفتاك الذي لا يستعمل للدفاع عن الوطن، إنما يتبارى به في سفك دماء أبناء الوطن الواحد، بل لدينا الكثير من الأجهزة الأمنية ولا أمان! ولدينا أحزاب سياسية مجهولة العدد، لزيادتة عددهم كل يوم بالتشرذم.
نعم، ان المواطن يريد دولة المواطنة القوية ، التي تقود سياسة اقتصادية واجتماعية تصب في مصلحة الفئات المسحوقة، وهي التي تطبق القانون بالتساوي على الجميع، وتعترف بالحق في الاعتراض السياسي، وتضمن حرية الرأي والتعبير مع منعها التمييز على أساس العرق، أو الجنس، أو الدين.ان الوطن مفكك الإرادة تائها يتخبط بدوره في صحراء سياسات قاحلة، تتقاذفه أهواء ورغبات الحاكمين  والمعارضين فيه، دون ان ينجح في إيقاف تدهوره أو بلوغ هدف من أهدافه. ولم يعرف التاريخ أمة نهضت بغير أفكار جامعة، أيقظتها وحفظت روحها ودفعتها إلى تغير واقعها.
ينبغي على القابضين على زمام السلطة في البلاد التركيز أولاً وليس آخراً، المحافظة على ما تبقى من تراب الوطن، بتنفيذ الاتفاقيات وعدم النكوص بها( التخلي عن التصريحات العنترية في الجو والمساجد)، بل يجب في المقدمة إتباع سياسة التوفيق والتراضي مع القوى السياسية الأخرى وإشراكها في اتخاذ القرار،أي الحصول على إجماع التوافق الوطني المغيب، لحل مشاكل السودان الملحة العاجلة المتمثلة في دارفور، جنوب كردفان، أبيي، والمسائل العالقة مع دولة جنوب السودان،  وإلا فالقائمة تتبع...
Mohamed Adam [abu_suli@hotmail.com]

 

آراء