من يهدم الأنفاق قبل أن تختنق البلاد
منعتها الرقابة من النشر في صحيفة الصحافة
Mohamed Elsharif [mohamedelsharif22@yahoo.com]
لقد تاهت الأمة السودانية عن حقيقة ذاتها وعن طريق غدها ، وعن موقعها في العالم ، وبدأت تتشرذم على مدى أرضها الواسعة تفصل بين أشتات أقاليمها وقبائلها أنفاق من الخصومات والعدوان والضياع في بحور دمها الذي يهدر في حروب عبثية ومعارك وهمية ضد الذات أولا وأساساً . هكذا أصبحت الأنفاق التي حفرت بين أبناء شعبها ثم أقاليمه تكاد تجعل منه دولاً عدة. والاشتباكات بين الأطراف ، سياسية أو حربية ، أنهكت كاهله ، ومن المؤكد أن مستقبله كدولة يغوص عميقا في نفق لا مخرج واضحا منه ، وربما من المتوقع مخارج عدة بينها تقطيع أوصال هذه الدولة الغنية بمواردها وبطيبة شعبها إلى دول عديدة قد تفصل بين الواحدة والأخرى خنادق من العداوة المفتوحة، كما بدأت بين دولتي السودان وجنوب السودان.
الكاتب البريطاني باتريك سيل أورد في إحدى مقالاته عن بلدنا ، إن مشاكل السودان (الشمل والجنوب) كثيرة إلى حد أنه لا يمكن تركها ليحلها السودانيون ، أو الأفارقة ، أو العرب. والمطلوب مبادرة دولية كبرى( التدويل )، ربما بقيادة مشتركة بين الولايات المتحدة والصين ، لإنقاذ البلدين من الأمر الذي قد يخلف عواقب وخيمة على استقرار المنطقة المحيطة بالدولتين. و لكنه بالمقابل يفضل ويصر على أن يقوم السودانيون أنفسهم بحل المسائل المتعلقة بمستقبل بلديهما.
لقد جاءت الحركة الإسلامية للحكم عبر الانقلاب العسكري في نهاية يونيو من القرن الماضي(إنقلاب عسكري أبيض بتسلمها السلطة من حكومة الصادق الصديق المهدي المنتخبة ديمقراطيا، حيث سلم إمام الأنصار و رئيس حزب الأمة زمام الحكم للعسكر المرة الثانية بعد إهدائه جعفر نميري مقاليد تسيير أمر الوطن في المرة الأولى < 25.05.1969> ، وكان يمكنه تجنب هذا الوضع القائم اليوم برفض القبول والتوقيع على إتفاقية كوكادام لحل مشكلة الشمال والجنوب، الموقعة بين الحركة الشعبية وأغلب الأحزاب السودانية في 20 مارس 1986). نعم، أعلنت حكومة الحركة الإسلامية(الإنقاذ) في بيانها رقم واحد ، أنها جاءت من أجل << إنقاذ الوطن ، ومن أجل استمراره وطنا موحدا حرا كريما ، وعدم التفريط في شبر من أراضيه >>. بلا ، استهلت حكومة الإنقاذ إدارة السودان بمخطط عكسي تماما يرمي إلى تفتيت أرض الوطن، بطرح حق < تقرير المصير أي بمعنى آخر الانفصال > للإقليم الجنوبي في بداية مفوضاتها مع الحركة الشعبية في أبوجا لحل وتسوية المشكلة . وكان المقصود هو التخلص من جنوب الوطن ، و بالتالي تحقيق المشروع الحضاري الذي كانوا يهدفون إليه بإقامة الجمهورية الإسلامية نواة الحكم لكل العالم الإسلامي. وبالفعل طبق حزب المؤتمر الوطني الحاكم حلمه بالتخلص من الجنوب، هذا الحزب المنفرد بأحادية القرار في كل ما يتعلق بشئون الوطن، والذي يهميش كل القوى الوطنية الأخرى ، طبق هذا بإعطاء الإقليم الجنوبي حق الانشطار من تربة البلاد، وفق اتفاقية نيفاشا التي وقعتها مع الحركة الشعبية التي تحكم دولة جنوب السودان بإنفراد أيضا، وفتحت بذلك أبواب حق المناداة بالتشرذم للأقاليم المهمشة الأخرى، وفق سياسة اللامبالاة المقرونة بنكوص العقود الموقعة وعدم تنفيذها. وكان من المنتظر أن تكون العلاقات والتعاون بين الدولتين الشقيقتين السودانيتين واحدة من أزهى أنواع التعاون الأخوي لشعبين، ولكن حدث العكس بدخول العلاقات في نفق معتم لأسباب لا تقنع العاقل. نعم، كل دولة تعارك الدولة الأخرى وتعمل على زيادة الوضع تعقيدا ، والأنفاق عمقا وتحويلها إلى مقبرة أزلية بين الشعبين.
لقد أدت التنمية غير المتوازنة، والإهمال، والحزبية الضيقة، وتسلط طبقة إقليمية معينة، وإقصاء الآخر في السودان منذ بزوغ فجر الإستقلال وحتى اليوم إلى إشعال الحرب في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. وكان من الممكن احتواء الأوضاع بإتباع سياسة الحكمة والطرق السلمية والحوار بين أطراف النزاع (لهدم هذه الأنفاق)، ولكن إستمرار هذه السياست واستخدام العنف (الحل بقوة السلاح) أدى إلى تفاقم المشاكل، واندلعت الحروب المحلية التي أزهقت فيها الأرواح، وشرد السكان من مساكنهم، وأصبحوا نازحين ومشردين في العراء ولاجئين في الدول المجاورة، والتلهف نحو لقمة العيش من بزنامج الغذاء العالمي، في دولة كانت ترجى منها أن تكون سلة الغذاء للعالم العربي. وازداد الموقف سوءا بانفصال الجنوب وفقدان مورد الدخل الرئيسي (النفط)، وتردي الوضع الاقتصادي بسيطرة الغلاء الفاحش على أسعار السلع الاستهلاكية لانعدام الرقابة، وتفشي الفساد والمحسوبية في أجهزة الدولة، والدخول في حوض < الفجوة الغذائية > مع انتشار العطالة والبطالة، بل الأفظع استمرارية سياسة التهميش للقوى الوطنية والأحزاب السياسية المعارضة، ليظل الوطن والمواطن دائما الخاسر الأول.
ذكرت في مقالة سابقة إن النظام الذي يلغي حق المواطن كأساس للسلطة وهدفها، ويوظف السلطة، لا كسلطة مؤسسات وإنما سلطة فرد أو زمرة ، يؤدي إلى إنفصال بين المجتمع والحاكمين والدولة(مستويات ثلاثة لوجود التكامل السياسي لتحقيق أمن وحماية الوطن من الحروب والتفكك، بل السلاح الأمضى لهدم أنفاق السودان). وتواجه البلاد أخطر مراحل المحافظة على بقاء ما تبقى من وحدة أراضيها. لابد من ابتداع مخارج للعودة إلى النور، إلى الصواب والحياة... فطول الإنتظار في الأنفاق لن يؤدي إلا إلى الاختناق.
ليس أمبيكي ولا قطر ولا زيناوي ولا غيرهم من المجتمع الإقليمي والدولي أكثر حرصا على إزالة أنفاق السودان من أهله، والصومال والعراق هما الشاهدان الشهيدان على شماعة التدويل، بل إنفصال الباكستان عن الهند وارتيريا عن اثيوبيا يخلدان في التاريخ أبشع مآسي خلافات أشقاء الأمس. لابد للقابضين على زمام الحكم في البلاد من إلغاء سياسة الإنفراد الأحادي للقرار والاعتراف بالخطأ ، لأن فيه الحكمة والتواضع. نعم لابد من اتباع سياسة الحوار المفتوح المقرون بحرية الرأي، بل إشراك القوى السياسية المعارضة في إتخاذ القرار، وتجنب السودان من مصير التفكك الأكثر الذي يلوح في سمائه، وبها يمكن هدم الأنفاق.