آخـــــر الانقــــلابـــات، آخـــــر الخـــــطايــا

 


 

 

يستطيع عبدالفتاح البرهان أن يستولي على السلطة، ولكنه لن يستطيع أن يحكم. ومشكلته الحقيقية هي أنه ظل يريد أن يجعل من نفسه وصيا على شعب لا يريد الوصاية عليه من أي أحد.

أفهل أخطأ فهم هذه الحقيقة البسيطة؟ ألم ير أن السودان لم يعد (كمبو) يحكمه إقطاع عسكري؟ ألم ير أن المشروع “الانتقالي” لم يكن شأنا خاصا بالسودانيين وحدهم، بقدر ما أصبح التزاما للذين تعهدوا بدعم البلاد بالمساعدات والإعفاء من الديون؟ أم أنه لم ير أن عالم الاستبداد بالسلطة قد ولّى، وأنه مشروع فاشل من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، دع عنك الحكومات والمؤسسات الدولية الأخرى؟

أم تراه يعتقد، أنه عندما يقيم حكومة على هواه، ويتخذ قراراته منفردا، سوف يقنع العالم بأنه يقود البلاد إلى الجنة؟ ومن قال إن الجنة بالعصي مرغوب بها أصلا؟ ومن قال إنها ستكون إلا جحيما آخر من تكرار الفشل؟ وهل يُقاد شعب، على هذا المقدار من التعدد والتنوع، إلا باختلاف الرأي؟ ومن قال إن الصراعات السياسية والمنافسات الحزبية، شيء سيء؟ من قال؟ أم أنه يريد أن يقود قطيعا من الخراف، كلما قال له “هش”، رد عليه بـ”بآآآع”؟ أم أن قائد الـ”بآآآآع” لم يدرك أن السودان ليس معسكرا، وأن قواته المسلحة إنما تسلحت بمال الناس، لا بمال ورثه من أحد؟

العصيان المدني ما يزال بوسعه أن يشل كل شيء في البلاد. وساعتها سيعرف أنه أخطأ في الحساب. وأن هناك شعبا لم يعد يتحمل أن يُساق بالعصي والإرهاب وتهديدات السلاح. السودانيون الذين أسقطوا سلطة العسكر مرة واثنتين، يستطيعون أن يسقطوها ثلاثا. وهذا ما سوف يحصل.

يستطيع أن يعتقل رئيس الوزراء ثم يعود لإطلاق سراحه، لأنه أدرك بعد أن تبخرت النشوة، بأنه لا يستطيع أن يطلق عليه النار. ولكن، بدلا من الإطاحة بالحكومة، فقد أطاح البرهان بنفسه، بل وبالجيش السوداني كله، الذي لن تقوم له قائمة في السياسة بعد هذا الانقلاب. سوف يرى بأم عينيه أنه لم يعد له مكان في السلطة، وما لم يقم واحد من ضباطه بإطلاق النار عليه، فإنه سوف ينسحب مخزيا إما إلى ثكنة تؤويه ليختفي عن الأنظار، وإما إلى الوقوف أمام محكمة عسكرية لتحاكمه على ما ارتكب من جرائم بحق المؤسسة الانتقالية التي كان يرأسها بنفسه.

هذه المؤسسة كانت مؤسسة توافقات وطنية. وهي مؤسسة اتفاقات ملزمة لكل الأطراف التي وقعت عليها. وتقوم على تعهدات، جزء كبير منها قائم على الثقة والاحترام المتبادل، ومنع الانفراد بالسلطان. ولقد خانها البرهان. خان توقيعاته نفسها، كما خان الثقة. وهو بخيانته هذه، أذل نفسه قبل أن يحاول إذلال شعبه والفرقاء السياسيين الذين عاملوه باحترام. وككل خيانة أخرى فإنها لا تحفظ لصاحبها أي احترام.

ويوم يعود الشعب السوداني ليقتحم عليه مركز قيادته، فلا أدري إن كان سوف يتدبر لنفسه الفرار. ولكن ستظل تلاحقه اللعنات. وسيكون عبئا ثقيلا على مَنْ يؤويه.

يستطيع البرهان أن يقطع الإنترنت وخطوط الاتصالات. ويستطيع أن يقطع الطرق، ويقيم حواجز بين مدن البلاد. يستطيع أن يقطع الماء والكهرباء. كما يستطيع أن يعطي الأوامر بإطلاق النار على المحتجين، وأن يوقع بينهم عشرات، بل ربما المئات والآلاف من القتلى، بدافع الرعب الذي ترتعد به أوصاله، إلا أنه لن يستطيع أن يغير شيئا من النهايات التي سينتهي إليها. الذين يرتكبون جرائم بحق شعوبهم سوف يُلاحقون بها ولن يفلتوا من العقاب. ليس لأن هناك محاكم دولية، بل لأن هناك أولياء دم من أبناء شعبه. ومثلما لم ينس أحدٌ الذين سقطوا شهداء في ظل نظام عمر حسن البشير العسكري السابق، حتى أبعدهم في الزمان، فإن أحدا لن ينسى الذين يسقطون في ظل نظام البرهان العسكري.

يستطيع البرهان أن يلغي فقرات من الوثيقة الدستورية ويزعم أنه “ملتزم” بها، زورا وبهتانا، ويستطيع أن يمارس الزيف بالقول إنه سيوف ينشئ برلمانا لشباب الثورة، وأن نظامه سوف يلتزم بالمواثيق الدولية، إلا أن أحدا لن ينخدع به. ولن يشتري التزاماته بقرش. لأنها لا تساوي قرشا واحدا من الأساس.

المقاطعة الدولية، ووقف المساعدات، سوف تخنق نظامه، ليبدو كمن وضع حبل المشنقة بنفسه حول عنقه. وسيخرج من القصة كلها ذليلا مهزوما وقد تمرغ أنفه بالتراب.

الجيوش لا تحارب شعبا ثائرا، حتى ولو كانت جيوش غزاة. لأنها ستجد نفسها وسط “عش دبابير”، ولأن الواقع سوف يضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانسحاب على هزيمة، وإما ارتكاب المجازر. هذا درس يعرفه القادة العسكريون. أما الانكشاريون فيمكنهم أن يفعلوا كل شيء. ولكنهم إنما يفعلونه لأنفسهم في النهاية.

التراجع عن الخطأ فضيلة. أما الإمعان فيه، فإنه عندما يبلغ الفشل أو الجريمة، أو يجر وراءه سفكا للدماء، فإن العاقبة أوخم من وخيمة

والشعب السوداني ما يزال ثائرا. وثورته لم تهدأ، ونيرانها ظلت تضطرم لأن القيادة العسكرية لمجلس السيادة الانتقالي هي التي غذت الانقسامات بين الأطراف السياسية، لكي تتخذ منها ذريعة للبقاء في السلطة.

هذه اللعبة انكشفت الآن، عندما انشق جانب من قوى الحرية والتغيير ليطالب، بمنتهى الفضيحة والوقاحة، بإقامة حكومة عسكرية، نكرانا منه لكل معنى من معاني الديمقراطية والسلطة المدنية.

السودان بحاجة لكل دعم، من الوقود إلى الطحين، ومن الدواء إلى أبسط المعدات. ولا شيء في مشاريعه لإعادة البناء إلا ويحتاج تمويلات. الآن، وبعد توقف هذه المساعدات، لا أحد يعرف كيف سيمول البرهان تحريك عجلات الحياة، أو ماذا سيقول لشعبه عندما يفشل في توفير الخبز.

والفقراء صبورون عادة، ولكن فاض بهم الكيل. وكيْلهم ما يزال على فيضه. فبأي معنى يمكن للبرهان أن يزيد عليه فيضا؟

يستطيع البرهان أن يتغطرس. فيركب رأسه كما فعل عمر حسن البشير حتى آخر ساعة من بقائه في السلطة. ولكن البرهان يرى على الأقل أن ركوب الرأس لم يعد ببلاش.

بعض الذين وقعوا اتفاقات السلام في جوبا، ما يزالون بأسلحتهم. ويعرف البرهان أنه وانكشاريته لا يقوون على العودة إلى خوض حروب أهلية أخرى. يستطيع أن يجرب، ولكنه لن يحصد إلا ما حصده الذين سبقوه..

ولكنه يستطيع أن يتراجع. لن يفلت من الخزي، ولكن بقدر أقل مما يمكن أن ينتهي به. يستطيع أن يقول إنه فعل ما فعل، لأنه ضاق ذرعا بامتداد الأزمة السياسية، وأنه أراد أن يهز الركود فيها، وأنه يريد أن يعود الجيش إلى ثكناته بعد عشر دقائق من عودة حمدوك إلى إدارة السلطة.

يستطيع أن يبتدع أي كذبة أخرى. فقط من أجل أن يفتح لنفسه طريقا للفرار مما فعل، أو حتى أن يقول إن انقلابه هو آخر الانقلابات وآخر الخطايا، فيُسلم السلطة لأهلها، ويمضي إلى أبعد نقطة في الحدود ليزعم أنه يحميها. التراجع عن الخطأ فضيلة. أما الإمعان فيه، فإنه عندما يبلغ الفشل أو الجريمة، أو يجر وراءه سفكا للدماء، فإن العاقبة أوخم من وخيمة.


mido34067@gmail.com

 

آراء