أزمة السودان الراهنة: أزمة حكومة أم أزمة معارضة ؟

 


 

 


Ibrahim Karsani [shiba1949@hotmail.com]


لقد كتبت هذا المقال ونشرته بصحيفة الخرطوم الغراء فى شهر سبتمبر من عام 1996، أي قبل سبعة عشر عاما بالتمام والكمال. ونظرا لتطابق مضمونه مع واقعنا السياسي الراهن، أعيد نشره كما هو، وأترك للقارئ الكريم التأمل كثيرا فيما ورد به.

أزمة السودان الراهنة: أزمة حكومة أم أزمة معارضة ؟
حينما أجهض انقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989 التجربة الديمقراطية الوليدة والتي لم يتجاوز عمرها بالكاد الثلاثة أعوام، لم تكن معظم قياداتنا السياسية تعتقد أن هذه المغامرة سوف تستطيع الصمود لأكثر من صيف ذلك العام!! لكن واقع حالهم ذاك كان ينطبق عليه المثل الشعبي البليغ القائل " الناس في شنو والحسانية في شنو !!" لقد أثبتت حقائق التاريخ الماثلة أمامنا إن هؤلاء القادة كانوا يعيشون في واد آخر بمعزل عن الشعب السوداني بأكمله ، ما عدا القلة القليلة منه التي تدور في فلكهم والمنتفعة – بصورة أو بأخرى – من المواقع القيادية التي كانوا يحتلونها داخل أجهزة الدولة .

إن انقلاب الثلاثين من يونيو يجسد في واقع الأمر مستويين للأزمة التي تميز قياداتنا الحزبية. المستوى الأول لها يتمثل في ممارساتهم المجافية تماماً لأسس النظام الديمقراطي والتقاليد الديمقراطية المعروفة والراسخة ، وكذلك فشلهم التام والكامل في حكم البلاد وإدارة شئونها مما عمق من حجم الأزمة الموروثة من النظام المايوي بدلاً من كنس آثاره ، والذي قاد بالضرورة إلى فتح الباب على مصراعيه لتدخل من خلاله دبابة الجبهة . بهذا المعنى فإن قياداتنا الحزبية هي المسئولة أولاً وأخيراً عن الجريمة التي ارتكبت في حق الوطن في الثلاثين من يونيو وما نتج عنها من خراب ودمار على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية .الخ.خ . وأظنه من باب العدل تماماً، بل من حق الشعب السوداني عليهم أن يساءلوا عما ارتكبوه.

فشل قياداتنا

أما المستوى الثاني من الأزمة ، وهو الأخطر في تقديري ، فيتمثل في فشل قياداتنا الحزبية التام في المحافظة على النظام الديمقراطي الذي كافح من أجله شعبنا الأبي لفترة ستة عشر عاماً ، هي عمر النظام المايوي البغيض ، وقلده لهم أمانة في عنقهم عن طريق انتخابات أبريل 1986 ، كان الواجب  يحتم عليهم أن يعضوا عليها بالنواجذ . لكن التجربة التاريخية قد أوضحت كذلك أنهم قد فشلوا فشلاً ذريعاً في التصدي للانقلاب وهزيمته في مهده، وهو ما كان ممكناً بالفعل كما أوضحت جميع القرائن بعد ذلك ، وبالتالي حرموا الشعب السوداني من فرصة تاريخية في المضي قدماً لترسيخ نظامه الديمقراطي الوليد .

إن السهولة التي نجح بها الانقلاب ، والتي تمثلت ليس فقط في عدم مقاومته من قبل السلطة الشرعية الحاكمة ، وإنما في اعتماد نجاحه على أضعف الحلقات العسكرية داخل الجيش السوداني كسلاح الموسيقى والسلاح الطبي –على سبيل المثال – وعلى ثلاثمائة جندي فقط لا غير ، تدل على احتمالين لا ثالث لهما . الأول هو المعرفة التامة بحدوث الانقلاب ليس بناءاً على الظروف السياسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت فقط، وإنما ربما المعرفة ببعض تفاصيله. الاحتمال الآخر هو أن بعض قياداتنا الحزبية الحاكمة كانت تعلم بالفعل بمخطط الجبهة الرامي إلى الإطاحة بالنظام الديمقراطي ولكنها غضت الطرف عن كشفه، ناهيك عن مقاومته وإجهاضه، لأسباب سنتناولها لاحقاً في هذا المقال.

الصادق والترابي

توجد هنالك عدة عناصر يمكن من خلالها الاستدلال على وجود شيء من التفاهم بين بعض قياداتنا الحزبية الحاكمة والجبهة للإطاحة بالنظام الديمقراطي. سنأخذ حالة السيد الصادق كنموذج يتم تحليله لاستخلاص النتائج والعبر باعتباره يمثل قمة هرم السلطة التنفيذية عند قيام الانقلاب وبالتالي فهو المسئول قانوناً عن الذود والدفاع عن النظام الديمقراطي وعدم التفريط فيه مهما كان الثمن غالياً. إن هذا الهدف يفترض بالضرورة تناول التاريخ السياسي والفكري للسيد الصادق باعتباره العنصر الأهم والحاسم لإثبات هذا الافتراض .

إن المنهج النظري الذي يميز فكر السيد الصادق لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي يميز فكر الترابي وبالتالي الفكر السياسي للجبهة الإسلامية. إننا لن نهدر الكثير من الوقت أو الجهد لإثبات هذا التماثل الفكري حيث أغنانا السيد الصادق عن كل ذلك حينما قال في معرض دفاعه عن إدخاله للجبهة كشريك له في الحكم أبان الديمقراطية الأخيرة فيما معناه، " إن الاختلاف فيما بيننا وبين الجبهة الإسلامية ليس خلافاً فكرياً بأي حال من الأحوال، وإنما هو خلاف سياسي في المقام الأول . وكأي خلاف سياسي سيمكننا دائماً التوصل إلى صيغة معينة تكون مقبولة لدى الطرفين، وتهدف إلى تقليل الفوارق وتقريب وجهات النظر، وبالتالي تقود إلى انسجام المواقف " !!

جسد هذا التماثل بين المواقف السياسية للسيد الصادق والجبهة الترابية إصراره العنيد على إدخالها كشريك له في الحكم . لم يكتف السيد الصادق بذلك ، بل قام بتعيين الترابي نائباً له ونائباً عاماً ووزيراً للعدل في أكبر تحد لإرادة الشعب السوداني وغير عابئ بموقفه التاريخي حينما قام بإلحاق الهزيمة به في انتخابات أبريل 1986 . ألا يمكن اعتبار هذا الموقف بمثابة الاستهانة بانتفاضة الشعب في مارس / أبريل المجيدة والتي أطاحت بحكم جعفر محمد نميري وأذنابه من الأخوان !!.
إن إدخال الجبهة إلى الحكم وتعيين الترابي في تلك المناصب الهامة إنما يجسد في واقع الأمر مواقف السيد الصادق غير المكترثة بالديمقراطية وغير العابئة بإرادة الشعب كما سنرى لاحقاً. إن التاريخ السياسي للسيد الصادق حافل بالمواقف العديدة التي تؤيد وتؤكد هذا الزعم ، وسنكتفي بإيراد ثلاثة منها فقط كأمثلة نعتبرها تقف دليلاً ساطعاً لا يقبل أدنى شك في تأكيد صحة ما ذهبنا إليه .

أول هذه المواقف يرجع إلي عام 1977 حينما كان النظام المايوي يمر آنذاك بأخطر أزماته السياسية في أعقاب الهجوم العسكري الذي شنته قوات الجبهة الوطنية المعارضة عليه في ذلك الوقت تحت قيادة السيد الصادق نفسه خلال شهر يوليو من عام 1976 وهزمته هزيمة عسكرية لفترة ثلاثة أيام كاملة كادت أن تطيح به تماماً . لقد عرى ذلك الهجوم النظام المايوي أمام أعين الشعب السوداني تعرية كاملة وأدخله في حرج سياسي وأزمة عميقة لم يكن أمامه من سبيل للخروج منها سوى عن طريق إبداء تنازلات إسمية على الصعيد السياسي لاجتذاب بعض القيادات  والتنظيمات الحزبية بهدف توسيع قاعدته الاجتماعية فيما أصبح يعرف في الأدب السياسي السوداني بالمصالحة الوطنية .  

المصالحة الوطنية

أوضحت  تلك المصالحة المواقف الحقيقية للأحزاب المكونة للجبهة الوطنية وقياداتها من الديمقراطية. ففي الوقت الذي رفض فيه الحزب الاتحادي بقيادة الشهيد الشريف حسين تلك الصفقة باعتبارها تتناقض تماماً مع مبادئ الحزب ومواقفه المعلنة، فقد قبلها حزب الأمة والأخوان المسلمين، باعتبارها تنسجم تماماً مع مبادئهم غير المعلنة من النظام الديمقراطي !! وفي الوقت الذي ذهب فيه الشريف حسين شهيداً للمواقف المبدئية دفاعاً عن حرية الشعب السوداني ذهب السيد الصادق والترابي ليحتلوا أرفع المناصب في التنظيم السياسي الحاكم – الإتحاد الاشتراكي سيئ الصيت – كأعضاء في لجنته التنفيذية . 

هذا الموقف أصبح دليلاً آخر نسوقه على تماثل مبادئ ومواقف الصادق المهدي مع مواقف الجبهة الترابية من قضية الديمقراطية . ليس هذا فحسب ، بل أن السيد الصادق قد ذكر في تبريره لذلك الموقف بأنه كان على قناعة تامة بعدم صلاحية ديمقراطية " وستمنستر " للسودان وبأن البديل العملي لها هو التنظيم السياسي الواحد الذي سينجح في تجميع طاقات الأمة وصقلها في بوتقة واحدة !! كان السيد الصادق يعتقد في ذلك الوقت بأنه سيتمكن من إزاحة الديكتاتور نميري من على قمة السلطة السياسية ليتربع هو في مكانه . بمعنى آخر كان السيد الصادق يحلم في وراثة النظام المايوي بجميع أركانه ومقوماته ولكن من دون ربانه الرئيسي !! فهل هناك موقف ازدراء للديمقراطية وإرادة الشعب أكثر من هذا ؟!!

الموقف الثاني الذي يؤكد تماثل مواقف السيد الصادق مع الجبهة الترابية هو موقفه من كنس آثار مايو بعد انتصار انتفاضة الشعب في عام 1985 . لقد وعد السيد الصادق أثناء حملته الانتخابية إبان الفترة الانتقالية جماهير الشعب السوداني بإزالة جميع آثار النظام المايوي ، ويأتي في طليعتها إلغاء قوانين سبتمبر والتي قال فيها قولته الشهيرة بأنها " لا تساوي الحبر الذي كتبت به " ! لكن عندما تربع السيد الصادق على سدة الحكم لم يعمل على إزالة آثر واحد من تلك الآثار إلى أن أطيح به ، فما هو تفسير ذلك يا ترى ؟

الصادق ومايو

إن التفسير الوحيد لذلك فيما نعتقد ، هو أن السيد الصادق كان يؤمن في قرارة نفسه بأن تلك الآثار ما هي إلا انجازات ايجابية يجب المحافظة عليها وبالتالي فإنه يعتقد بتوفر القدرة لديه لإدارة النظام المايوي الموروث أكثر من الكوادر المايوية المدربة على ذلك نفسها !! ألم أقل لكم بأن السيد الصادق كان يحلم بوراثة النظام المايوي ولكن من دون جعفر نميري بغض النظر عن الأسلوب الذي سيمكنه من تحقيق هذا الهدف كان ذلك عن طريق المصالحة أو الانتخابات النيابية !!

لقد سعى السيد الصادق بالفعل للمحافظة على تلك الآثار أثناء سنوات حكمه الثلاث إبان فترة الديمقراطية الثالثة إلى أن سلمها كاملة غير منقوصة كهدية للجبهة الترابية حينما أطاحت به في الثلاثين من يونيو 1989 مما قاده إلى أن يختبئ لفترة أسبوع حتى يتبين إن كان وراء الانقلاب ضباط وطنيون أم أياد أجنبية مشبوهة !!

إن هذا الموقف يعني تحديداً إما المباركة – في حالة الضباط الوطنيين – أو المقاومة في حال وجود الأيادي الأجنبية !! ولسخرية الأقدار فقد جعل من السيد عبد الرحمن فرح – مستشاره لشئون الأمن – وسيطاً بينه وبين الانقلابيين خلال ذلك الأسبوع الحاسم حتى أكد له السيد المستشار بأنهم ضباط وطنيون لا يبتغون شيئاً غير مرضاة الله حيث قام بتسليم نفسه إليهم !! لو كان للسيد الصادق موقفاً مبدئياً مؤيداً للديمقراطية لتمكن من الإجهاز على ذلك الانقلاب المشئوم وهو في مهده. لكن ماذا نقول في تفسير ذلك غير التماثل الواضح بين مواقف السيد الصادق ومواقف الجبهة الترابية . إن هذا الموقف هو بمثابة الدليل الذي نسوقه لإثبات معرفة السيد الصادق بالانقلاب المشئوم ، وهو يجسد أحد احتمالين لا ثالث لهما . الأول هو موافقة السيد الصادق، ولو بصورة ضمنية، على هذا الانقلاب قبل وقوعه وهو ما يفسر لنا عدم مقاومته له وإجهاضه. أما الاحتمال الثاني فهو الصمت المطبق حيال الانقلاب انطلاقا من قناعة السيد الصادق بعدم ملائمة ديمقراطية " وستمنستنر " لظروف المجتمع السوداني . يمكن اعتبار كلا الاحتمالين أسوأ من الآخر وهو ما سوف يقودنا إلى الموقف الثالث والأخير الذي ندلل به على عدم إيمان السيد الصادق بالنظام الديمقراطي والاستهانة التي واجه بها إرادة الشعب الغلابة. يتمثل هذا الموقف في أهمية احترام التقاليد الديمقراطية المتوارثة والمعروفة والتي أصبحت تراثاً إنسانيا عاماً تنهل من معينه جميع شعوب الأرض وتساهم في إثرائه وتطويره عن طريق إضافتها له عبر كل ما هو ايجابي من تجاربها الذاتية . إن أحد أهم هذه التقاليد الموروثة يتمثل في تحمل رئيس الوزراء المنتخب كامل المسئولية عن أداء مجلس وزرائه وتقديم استقالته ، أو طرح صوت الثقة في حكومته في حالة إخفاقها في تطبيق البرنامج الذي التزمت به أمام البرلمان المنتخب . لكن السيد الصادق قد أتى لنا بتقليد غريب على تلك التقاليد الايجابية الموروثة حينما قام بتقديم استقالة مجلس وزرائه ، لكن دون أن تشمل رئيسه ، في خطوة برلمانية غير مسبوقة !! ولم يزد جرح الشعب السوداني نزفاً إلا عندما علم بأن الهدف من كل ذلك " اللف والدوران " هو التخلص من عضو واحد  بذلك المجلس وهو الدكتور أبو حريرة لخلافات سياسية بينه وبين السيد الصادق !!

الخلاصة التي يمكن استنتاجها من تحليل هذه المواقف هو قناعة السيد الصادق المعادية لاتحادات المهنيين والنقابات العمالية . وقد تجسد هذا الموقف في أوضح صورة عندما عارض السيد الصادق صراحة مبدأ تمثيل القوى الحديثة داخل البرلمان إبان الصراع حول قانون الانتخابات خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت الانتفاضة. إن هذه المعارضة تدل على أن السيد الصادق يطمح في حكم الشعب السوداني ولكن في غياب تنظيماته المهنية والنقابية. بمعنى آخر يود السيد الصادق حكم مجتمع مدني ولكنه خال من تنظيماته المدنية !! هذا هو الفرق الجوهري ، في اعتقادنا ، بين الديكتاتورية العسكرية والديكتاتورية المدنية !! لقد حدث بالفعل بعد انقلاب الثلاثين من يونيو وخلال سنواته السبع العجاف المنصرمة . إضعاف تنظيمات المجتمع المدني كثيراً من اتحادات ونقابات ، إن لم يكن تم القضاء عليها إلى حد بعيد عن طريق مختلف وسائل البطش والإرهاب التي اتخذتها الجبهة نهجاً تتعامل به مع الطلائع المستنيرة من أبناء وبنات شعبنا البطل التي تتصدى لقيادة تلك التنظيمات . إن هذا " الإنجاز " قد كان طفلاً شرعياً لهذا النهج النظري القاصر الذي تمثل في الهضم التام والكامل لحقوق الإنسان الأساسية وإستشراء الفساد المفضوح في جميع صوره وأشكاله وتشييد المعتقلات وبيوت الأشباح لإذلال الشرفاء من أبناء وبنات شعبنا .

موقف الجبهة من النظام الديمقراطي التعددي ، قد أصبح واضحاً ومعروفاً للجميع وليس من الحكمة في شيء إضاعة المزيد من الوقت والجهد في إثباته حيث يمكن تلخيصه في أنهم يمثلون النقيض تماماً للديمقراطية ويدعون إلى إرساء دعائم النظام الديكتاتوري الشمولي الذي يستند على نظام الحزب الواحد الداعي إلى عدم الاعتراف بالرأي المعارض ونفي الرأي الآخر . إن نظام " الإنقاذ " الظلامي الراهن ، يقف دليلاً صارخاً لكل ذي ميوعة فكرية ، أو من تسول له نفسه إيجاد مخرج نظري أو " فتوى " دينية – سياسية" لتبرئة هؤلاء القادمين من خارج التاريخ ليجعلوا من الشعب السوداني حقل تجارب لما تنتجه نفوسهم وعقولهم من فتاوى فقه الضرورة حينما تحين ساعة الخلاص ، التي قد أوشكت ، من الجرم الكبير الذي ارتكبوه في حق الشعب والوطن . في حقيقة الأمر إن قادة الجبهة لم يتركوا ثغرة يتسلل من خلالها حتى من يود التعاطف معهم لمخارجتهم من هذا المأزق بفضل تلك الفظائع التي ارتكبوها وبفضل عنجهيتهم حينما أعلنوا بأنه ليس من سبيل آخر لكل من أراد السلطة السياسية سوى المنازلة العسكرية !!

بعد كل ما ذكرنا يا ترى هل لا يزال السيد الصادق يطمح في حكم وطن سوداني خال من مؤسساته المدنية ؟!! .  نود أن نشير في هذا الصدد إلى حقيقة هامة وهي أن تكلفة إضعاف تلك المؤسسات ، بل تمزيقها تماماً ، قد كانت عالية للغاية وتمثلت في إهدار دم أنبل بنات وأبناء شعبنا العظيم ، حينما استشهدوا دفاعاً عن تلك الحريات والمؤسسات وكذلك تمثلت في تدمير كل ما هو ايجابي داخل الاقتصاد والمجتمع مما قاد إلى إذلال المواطن وقتله جوعاً ومرضاً فوق أرضه المعطاءة في سابقة لم تحدث له طيلة تاريخه الطويل .

تكلفة بهذا الحجم تقود إلى حقيقة أخرى في غاية الأهمية ألا وهي إن شعبنا الأبي لن يكون على استعداد، بعد دفعه لهذه الفاتورة الباهظة، بتسليم أمره لأناس غير عابئين بإرادته ومصالحه. شعبنا لا يود أن يستبدل أشخاصاً بآخرين أو مجرد قيادات بأخرى بغض النظر عن تاريخها ومواقفها. تجربة شعبنا المريرة قد صقلته تماماً وجعلته يفرق بصورة سليمة بين الغث والسمين وأوصلته إلى مستوى من النضج السياسي يريد فيه استبدال برنامج الجبهة  " وتوجهها الحضاري " المتقدم إلى الخلف بخطى حثيثة ببرنامج آخر وطني ديمقراطي مستنير من جميع جوانبه السياسية ، الاقتصادية ، الاجتماعية والثقافية تتحمل مسئولية تنفيذه قيادات آتية من صلبه تستمد التزامها بذلك البرنامج من واقع جذورها العميقة الراسخة في رحم ذلك الشعب العظيم وليس من واقع المناورات السياسية .

العام الثامن لماذا ؟

هذا هو السر وراء دخول سلطة " الإنقاذ " عامها الثامن وهي تفتخر بتحقيق " الإنجازات " التي كلفت بها وعدم انتفاضة شعبنا عليها حتى الآن على الرغم مما ذاقه على يدها من أمرين وذل وهوان ، هذا هو الثمن الذي يبدو أن شعبنا على أتم استعداد لدفعه خلال فترة المخاض التي تسبق ولادة البرنامج الوطني الديمقراطي المستنير وخلق القيادات القادرة على الالتزام به وتحويله إلى واقع معاش . إلى أن يأتي ذلك الزمان ستظل  سلطة " الإنقاذ " على سدة الحكم ، مهما طال الزمن أو قصر ، وهو ما يوضح لنا دون لبس أو غموض بأن الأزمة الراهنة التي يواجهها الشعب السوداني هي في حقيقتها أزمة معارضة أكثر منها أزمة نظام حاكم !!.

إبراهيم الكرسني

نشر في جريدة الخرطوم  يوم الخميس 19 سبتمبر 1996 م – العدد " 1298 "




 

آراء