أوراق تونسية : خواطر عن الشيخ “جلول”

 


 

 


أقرب إلى القلب:
Jamalim1@hotmail.com
(1)
لقد ظللت أراوغ مراوغة محسوبة ،  وأتناسى متعمداً ، أكثر ما في أوراقي التونسية من ذكريات، ومن ملاحظات دوّنت بعضها ، وأبقيت أكثرها في  خزانة الذاكرة. لكأني كنت أرى أنّ يوماً قريباً سيعيدني إلى تونس، ذلك البلد الجميل الأخضر الذي أحببت . وتونس التي عرفت هي تونس "بورقيبة"،  رحم الله "سي الحبيب" فقد حفظ له الوجدان التونسي جميل نضاله حتى أنجز لتونس استقلالها الباذخ في عام 1956. جلس في كرسي الحكم حتى لحقه خرفٌ، أغرى أحد تلاميذه ومساعديه الكبار فانقلب عليه  وعمل بعد ذلك على تعتيم سيرته. ذلك كان زين العابدين بن على والذي طوت سيرته الثورة الخضراء في تونس، فغاب عن الذاكرة هو الأخر..
(2)
أول انطباع رسخ في ذهني عن تونس ، وأنا قدمت إليها دبلوماسياً أواخر سنوات السبعينات، هو ذلك الجنوح المتجذر لدى التونسيين في عاطفتهم  نحو الطرق الصوفية، واحتفائهم بالطرق الصوفية وبالطريقة "التيجانية" خاصة، واهتمامهم بمزارات شيوخ الإسلام وأئمته عندهم. برغم توجه الدولة التونسية الرسمي وتبنيها "علمانية بورقيبة"  المشهورة، لكن بقي الوجدان التونسي وفياً لدينه ولروح عقيدته، على الأقل في  نظر قادمٍ جديدٍ مثلي،  جاءها دبلوماسياً ليقيم فيها سنين عددا. 
كنت أستشعر نبض الشارع التونسي  تظهر قوته في المناسبات الدينية الراتبة. يحتفي التونسيون بالمناسبات الدينية، مثل مولد الرسول وعيد الأضحى وشهر رمضان وعيد الفطر وموالد أئمتهم، ولهم في ذلك الاحتفاء عادات وتقاليد في الملبس والمأكل والمشرب. 
للمدينة بواباتها التاريخية وتحمل أسماء شيوخها القدامى.  من "شارع الحبيب بورقيبة"، ندلف إلى  "باب سعدون"  ومنه إلى "السوق العربي" التقليدي، والذي يذكرك بأسواق دمشق والقاهرة : أعمال النحاس، السجاجيد والزرابي، الأقمشة التقليدية والمفارش وصناعة أغطيه الرأس التقليدية مثل "الطرابيش" و"الشاشيات". للكتب والمخطوطات ، والآلات الموسيقية التقليدية، رائحة نفاذة في ذلك السوق..
آخر ممرّات السوق الضيقة تقودك إلى "جامع الزيتونة"، حيث للتاريخ حضور ومشاهد وحراك. كنت مهتماً بالجوانب الصوفية التي رأيتها زاهية في الأنحاء. 
(3)
في الأعياد الدينية كانت عادتي أن أزور مسجد قريب من سكني ، فيه مزار لـ"سيدي عمر". أستمع لقرع الطبول الصوفية ولأناشيد وأذكار تمجّد الرسول (صلعم)، فتستعيد الذاكرة ما ألفتهُ في مدينتي أم درمان. لم أكن أغيب في تلكم السنوات عن "ذِكر الشيخ حمد النيل"  سليل العركيين، في الباحة الواسعة، أمام قبة الشيخ في قلب مقابر "حمد النيل" المعروفة.
كنت أسمع عن مزارٍ آخر في مدينة "صفاقس" بتونس ذي صيت، سعيت أن أزوره فما تيسر لي، ذلكم هو مزار "سيدي منصور" . ولـ"سيدي منصور" زواره الراتبين ومريديه ولهم أذكار صوفية، تمسّ شغاف القلب وتأسره. قبل قدومي للعمل بتونس بأشهر قليلة، علمت من أصدقائي هناك، أن الفرقة الغنائية  الأمريكية "بوني إم"  زارت البلاد وقدمت حفلات صاخبة،  أوقفت تونس العاصمة على رجلٍ واحدة فيما يقول السودانيون!  هم ثلاث شابات وفتى، برزوا في سنوات السبعينات من القرن الماضي، يبدعون بإيقاعات داوية وموسيقى بديعة، فأخذت موسيقاهم بألباب الناس. يا لحظي التعس ، ما لحقت حفلة لهم في تونس. أصدقائي  طمأنوني : هون عليك.. ! أخذوا من أذكار "سيدي منصور" لحنا وطوعوه أغنية  ستعجبك : إسمها "ما..  بيكر"..
(4)
نعم كنتُ قد سمعت الأغنية من فرقة الـ"بوني إم" ، لكن لم أكن أعلم أن إيقاعها البديع هو من أذكار مريدي "سيدي منصور"، ينشدونها في مزارات الشيخ  "سيدي منصور ". ذلك وليّ من أولياء الله عاش في نواحي "صفاقس" بتونس قبل نحو خمسمائة عام، وعرف بكرامات كثيرة محكية. تقول كلمات النشيد الديني بلهجة تونس المحببة:
الله الله يا بابا و السلام عليك يا بابا ، 
سيدي منصور يا بابا و نجيك نزور يا بابا 
الله الله يا بابا والسلام عليك يا بابا ، 
سيدي منصور يا بابا ونجيك نزور يا بابا
في أيامنا هذه، سمعت المطرب التونسى الأشهر صابر  الرباعي يتغنى بها كأجمل لحن عنده. .
كنت أحسّ  الروح الصوفي قوياً جارفاً في  الوجدان التونسي، ولا يزال. .
(5)
إلحاقي للعمل بسفارتنا بتونس، جاء في إطار دعم البعثة وتهيئتها لعمل يقدّر له أن يتعاظم، بعد أن قررت الجامعة العربية الإنتقال من مقرها التاريخي في القاهرة إلى العاصمة التونسية. من مشرقها الراسخ، هاهي الجامعة العربية  تحلّ بالمغرب العربي عام 1978، بعد جنوح مصر لتنفيذ "اتفاقيتي كامب دافيد"  اقتراباً من اسرائيل، وابتعاداً عن الإجماع العربي أوانذاك. .
السفير السوداني الذي  يدير البعثة- وأنا عضو صغير فيها - رجل مثقف وله باع طويل في التعامل مع الطرق الصوفية هو السفير المرحوم جعفر أبوحاج ، وله نسب بالشناقيط فهو ينتمي للطريقة "التيجانية"، تلك المتجذرة في الوطن المغاربي بأكمله، ومن موريتانيا بوجهٍ خاص. أتباع الطريقة "التيجانية" في تونس، هم من كبار أصدقائه. من بين هؤلاء الشيوخ، شيخ جليل إسمه "جلول"، وقد كتب له السفير السوداني مقدمة زينت إحدى إصداراته الدينية المطبوعة في تونس. للرجل التونسي دكانة متواضعة في قلب "السوق العربي"، ليس بعيداً عن جامع "الزيتونة"، وقد تخصص في تجارة "الطرابيش" و"الشاشيات" . "الشاشيات" يا هذا، هي نوع مما يعتمر به الرجال: قبعة متوسطة الحجم بين الطربوش المصري والطاقية السودانية المعروفة، ولكنها من صوف ثقيل متماسك، ولك أن تعتمدها طاقية شتوية. . !
(6)
لسفيرنا في تونس وقتذاك علاقات واسعة في الخرطوم، تصله بالقصر حيث القيادة العليا للدولة، وهي قيادة  تتحمس لرجال الدين وللعلماء من المسلمين، خاصة بعد أن مالت تلك القيادة لطرح كتابات إسلامية على الناس في السودان، عرفت بعناوينها الاستفسارية : "الإسلام كيف، والإسلام لماذا..؟". ومن قراءته الحصيفة للأحوال في الخرطوم، فقد كتب ذلك السفير لأحد أصدقائه المقربين في مكاتب السلطان، مقترحاً أن يرتب "القصر" زيارة للشيخ التونسي "جلول" ، بصفته عالماً  إسلامياً ومتصوفاً "تيجانياً" له باع وكرامات، كما  له كتابات في العقيدة ، ومن رأيه أن تحتفي به الرئاسة في السودان احتفاءاً يليق.
طيلة سنواتي في تونس ظلت سفارتي تلك، تشرف بصورة راتبة على تجهيز تذكرة سفر بالطائرة للشيخ "جلول"  لزيارة الأراضي المقدسة ، مروراً بالخرطوم. نحيط الوزارة علماً بالموضوع ، ولكن وحده السفير من يرافق  الشيخ "جلول" إلى مطار "تونس- قرطاج"، حيث يغادر إلى الخرطوم ...
(7)
برغم المكانة التي يشغلها رجال الدين وعلماء "الزيتونة" في الوجدان التونسي، خلال الفترة التي عاصرتها في تونس، قبل نحو ثلاثين عاما، إلا أن النظام "العلماني" الذي رسخ في البلاد خلال حكم "بورقيبة"، لم يكن يلتفت لمثل هذا النفر من العلماء، ولا يرى لهم من تأثير إجمالاً على حركة المجتمع في تونس.  وقتها، لم يكن لحركة "النهضة" من وجود محسوس، بل كان حراكها محدوداً مهموسا.  
كان لسفيرنا ذاك رأي آخر. فقد كان يرى في شيوخ وعلماء المسلمين في "الزيتونة" وفي غيرها من بقاع تونس الخضراء، دوراً ينتظرهم ذات يوم. كان  ذلك ممّا حسبناه رجماً بالغيب، فلم نوافقه عليه حينها لسطوة رجال "بورقيبة" وطغيانهم ، لكن أثبتت الأيام بقاء أثر الدين على السياسة في تونس، برغم طول مكث "العلمانية" هناك.  
(8)
إن أحاديث كثير من المحللين الغربيين لما أسموه بـ "ظاهرة الإسلام السياسي"، قد استبطنت توجساً من خطر اتساع العقيدة الإسلامية  بكامل أبوابها وليس من باب "الجهاد الإسلامي" فحسب. لعلّ اللافت مؤخراً عندنا، أن اهتمام الدبلوماسيين الأجانب في الخرطوم، قد تمدّد  ليهتم بنشاطات  الطرق الصوفية والبيوت الطائفية الكبيرة . قبل سنوات لم يتعدَ ذلك الإهتمام،  تصوير حلقات الذكر في ساحة قبة الشيخ "حمد النيل" في أم درمان. . القائم بالأعمال الأمريكي السابق ومعه بعض الدبلوماسيين الأمريكيين في الخرطوم ، وبعد أن رفع الحظر على حركتهم في دائرة ضيقة داخل العاصمة، سمح لهم بحرية الحركة الداخلية، عملا بمبدأ المعاملة بالمثل. تم ذلك بعد أن سمحت السلطات الأمريكية للدبلوماسيين السودانيين بحرية الحركة بعد تضييق امتد لسنوات طويلة.
زار القائم بالأعمال الأمريكي المعتمد في الخرطوم، كبار الشيوخ في بيوت دينية عريقة، واتصل بقيادات طرق صوفية، ولم تكن ثمّة قيود في إجراء مثل ذلك التواصل.  لم تكن تلك الزيارات لأغراض سياحية. كلا. . ! إنها زيارات عملية مراميها واضحة، وتتصل بتلمس تأثير هذه القيادات الدينية على أتباعهم ، كما تشكل ضرباً جديداً من انفتاح الدبلوماسية على أطراف مهمّة في المجتمع المدني السوداني..
تداعت لي هذه الخواطر عن الوجدان الروحي يبقى ولا يبلى ، استشعرته في تونس قبل عقود، وأراه  جلياً عندنا في الخرطوم. الدبلوماسية الذكية تعرف أين ترصد دوائر التاثير والتأثر. 
(9)
لفت نظري صديق عزيز إلى ما ينبغي أن لا يغيب عن العين الفاحصة ، في الذي  يمارسه بعض الدبلوماسيين الأجانب من نشاطات غير مسبوقة، تتعلق بتواصل  بعضهم مع  شيوخ الطرق الصوفية، ومع كبار البيوت الدينية في شتى أنحاء البلاد. لقد رصدت أجهزة الإعلام والصحافة ، زيارات هؤلاء الدبلوماسيين إلى "أم ضواً بان"، وإلى "الزريبة" في أطراف كردفان ، وإلى "دامر المجذوب" إلى الشمال. إن المجتمع المدني في التعريف الأكاديمي، لا يقف عند تلك التكوينات الطوعية والخيرية والبعيدة عن عمل الدولة الرسمي، بل يتسع التعريف ليشمل تلك الكيانات الدينية والطائفية، والصوفية على وجه الخصوص. لا ينفي عنها تجذرها التاريخي في التراب السوداني، أو تلقائية تكويناتها التقليدية، كونها جزءاً أصيلاً في حركة المجتمع السوداني وتنظيماته المدنية الأخرى، مثل اتحادات الفنون والثقافة والإبداع.
(10) 
لكيانات المجتمع المدني تأثيرها البالغ على أحوال المجتمع وأحوال البلاد في عمومها،  سياسة واقتصاداً وثقافة وتجارة واجتماعا. إن الدبلوماسية الذكية عليها أن  لا تغفل النظر إلى ملامح  العقيدة في الوجدان،  وإلى التجليات الأعمق لها . رحم الله السفير جعفر أبوحاج، لكـأنه  رأى في تونس حين كان سفيراً للسودان فيها قبل أكثر من ثلاثين عاماً، روحاً ستطل  من جديد  بروح جديد ونفسٍ جديد.. الشيخ التونسي "جلول"  جيّر هذه النظرة الثاقبة لصالح أجندته، غفر الله له..
الخرطوم -4 مارس 2015

/////////////

 

آراء