احداث امدرمانية في الذاكرة

 


 

شوقي بدري
3 March, 2022

 

قام اخي العزيز معتصم قرشي بنشر موضوع قديم له الشكر . اريد أن اقدمه لكم .
مساكم الله بالخير
أعجبتني فنقلتها لكم
فى الكرسى الساخن فى سودانيات وجه لى هذا السؤال .
((أول سؤال تم توجيهه للاستاذ شوقي بدري في هذا البوست جاء من الدكتورة احسان فقيري عن ملابسات مقتل ابراهيم سند التي كتب عنها عمنا شوقي بدري في كتابه حكاوي امدرمان وفي كتابات متفرقة اخرى. وبالفعل, فقد مثل موت ابراهيم سند المأساوي صدمة كبيرة لاسرته ولمجتمع امدرمان بصفة عامة في ذلك الوقت, وظل الغموض يكتنف تلك الحادثة. بالطبع لم أكن موجودا في هذه الدنيا في ذلك الزمان. ولكن كجزء من اهتمامي بالتاريخ, فقد كنت مهتما بتلك الحادثة.وأذكر ان مقتنيات ابراهيم سند كانت مخزنة في "القاطوع" . القاطوع جزء يفتطع من الغرفة لاستحدامه كمخزن او مكان لتغير الملابس ... شوقى في البيت الذي نشأ فيه حتى وفاته, والذي أصبح فيما بعد بيتنا, وأذكر انني قد قمت باخراج كراسي القماش والمقاعد خاصته والتي كانت لا تزال بحالة جيدة وحرصت على وضعها بصالون البيت وفاء لذكراه.
قبل فترة جآءت والدتي الحاجة آمنة حسن جميل لزيارتنا هنا في امريكا, وهي سيدة حكّاية ولها ذاكرة ممتازة, وقد حاولت أن استخلص منها بعض التفاصيل عن مقتل ابراهيم سند. حسب روايتها -باختصار-, ان إ سند الذي كان يعمل وكيلا بالبوستة قد كان يتمتع بقوة جثمانية فوق العادة, وقد كان يرهب فتوات امدرمان في ذلك الزمان ويقف لهم بالمرصاد, ولهذا فقد كان بينهم عداء أدى الى رحيله المأساوي, ونتيجة لقوته الخارقة, فقد عمد اعداؤه الى دق المسمار على رأسه على حين غفلة منه حتى يشلوا حركته.

 

المعلومة الجديدة بالنسبة لي ان قاتله قد تم اكتشافه بعد سنوات طويلة بالصدفة والذي كان يدعى ب "كبس الجبة"- ما عارف هل كتبتها صاح- وكبس الجبة هذا كان من فتوات امدرمان الشهيرين, ويقال انه كان يترصد بمناسبات الافراح وفي لحظة معينة يقوم باطفاء الرتينة حتى يستولي على الاموال التي كانت تجمع للعريس, وفي واحدة من مداهماته تلك أصابه رجل أعمى مما أدى وفاته لاحقا, ويقال أنه قد أبدى غضبه وحسرته وهو على فراش الموت, أن تكون نهايته على يد أعمى وهو الذي قتل ابراهيم سند!,,,, القصة تبدو مثل حكاية عنترة بن شداد,,, ولعل التاريخ قد أعاد نفسه.
وهنا أسأل عمنا شوقي بدري, ماذا يعرف عن كبس الجبة هذا, وماذا يعرف عن هذه الواقعة التي أدت الى نهايته )),,,
الابن / معروف سند لك التحية ..
وفاة الخال ابراهيم سند شغلت الرأي العام في امدرمان لفترة طويلة. و لا يزال الناس يتحدثون عنها خاصة اهل بيت المال و لا تزال المأساة عالقة باذهان الكثيرين. و هناك عشرات القصص عن سبب موته مثل القصة التي اوردتها والدتك لان القاتل لم يوجد. و سأحاول هنا ان اساعد في كشف بعض الاسرار.
الحقيقة ان ابراهيم سند كان شابا قويا و وسيما و معتدا بنفسه. الشباب كانوا يبحثون عن مجالات اللهو والمرح و النساء. منطقة بيت المال و امدرمان القديمة كانت قديمة و مؤسسة، و الناس يعرفون بعضهم البعض و كل الاسر متداخلة و يجد الانسان نفسه بانه داخل المنظومة و عليه ان يحمي حلته و بنات حلته و اولاد حلته . كما قلت ان امدرمان خرجت من عباءة بيت المال و امدرمان القديمة. والاطراف في امدرمان كانت في الاربعينات و الخمسينات تعتبر مناطق جديدة. و كان كثير من النازحين لا يعرفون بعضهم البعض و كانت اماكن اللهو و الشرب و السهر في هذه الاطراف هذا اذا استثنينا منطقة وسط امدرمان (فريق جهنم) و منطقة العباسية كانت مناطق يتواجد فيها الخمر و النساء مثلها مثل بعض الاماكن الاخرى. مشكلة ابراهيم سند انه كان خارج منظومة عباسية-موردة و ارتبط بالخالة سالمة التي كانت شابة طويلة حسناء ممشوقة القامة، صارت جارتنا في "العباسية فوق" في بداية الستينات و كانت قد تخطت الاربعين عاما ، كان لسالمة في شبابها كثير من المعجبين و كانت ترتدي عادة الجميل من الثياب و تبدو كأمرأة معتدة بنفسها و تحسن التصرف كانها سيدة بحق و حقيقة. و كانت عندما تحضر لمنزلنا للتحية تتطرق للخال ابراهيم سند و تحكي عنه و تتحسر لموته، و تعتذر لامي لانها تربطها علاقة بآل سند و هي من سكان بيت المال، كما تربطنا قرابة بالدكتورة احسان فقيري . و ابراهيم سند رحمه الله فاز بقلب سالمة و لم يعجب هذا البعض، و الذي قتل ابراهيم سند كان من المعجبين بسالمة و القتل لم يكن بسبب المال او الذهب او اي شيء كهذا.
كانت الغيرة والتفرقة الاثنيكية، في ذلك الزمان كانت سالمة تعتبر(خادم) او بقايا الرقيق، و كانت تقول انها على صلة بآل ابو العلا، و هذه مخلفات الرق الكريهة، و سند كان يعتبر (ود عرب) و لقد تعدى حدوده، و كان يحضر من بيت المال الى العباسية و الموردة و اخيرا فاز بقلب احدى الحسان.
موت ابراهيم سند كان بواسطة مسمار غرز في رأسه، و كان الناس يبالغون و يقولون انه مسمار مراكب كبير دق في رأسه بمطرقة ثم القي به في خور ابو عنجة. و لكن القصة الحقيقية كانت مختلفة ، فموت ابراهيم سند لم يكن مباشرة بل اخذ ابراهيم سند عدة ايام قبل ان يموت. و الامر كان معركة اصيب فيها، و سبب الموت هو انه لم يعرض على طبيب. و كانت سالمة و بقية سكان المنزل يتوقعون ان يشفى سند الذي كان يئن و يتألم و "يقنت" و كان الجيران يسألونها و تقول "غنمايتنا بتلدي"، و وجود غنماية كان يعني ان المنزل لم يكن منزل دعارة مفتوح مثل "فريق جهنم" عندما يدخل الناس و يخرجون في دقائق، بل ان اهل المنزل كانوا يعيشون حياة عادية او شبه اسرية. و كان بعض المنازل في منطقة العباسية و الموردة يقدمون المشروبات البلدية الروحية، و قد تجالس صاحبات الدار و بعض الفتيات الزباين في السمر، و قد تستلطف صاحبة الدار و فتياتها بعض الزوار و من يأتي بالهدايا و يحيطونهم ببعض الاهتمام، و سالمة و ابراهيم سند كانا في حالة حب او استلطاف و هذا هو سبب قتل سند.
و عندما توفي سند لم تعرف الفتيات كيفية التصرف و اخذوا جثته أو كلفوا شخصا بنقلها في الليل الى خور ابوعنجة .. و كان قد حدث ان بعض الرباطين قد اعتدوا على بعض الناس في خور ابو عنجة. و كان النهب يمارس في امدرمان حتى نهاية الستينات و بداية السبعينات، و يحدث هذا في القماير و منطقة كلية التعليم بو دنوباوي و المساحة الخالية بين امدرمان و امبدة، و لكن تبقى منطقة خور ابو عنجة هي مركز الرباطين. ولم يكن كل الرباطين باشرار و لكنه نوع من الفتونة و الرجولة و لم يعتبروا عملهم اجراميا، بل كان امتدادا لروح البادية و الهمبتة، و كان هؤلاء الرباطين اول من يهبون للنجدة و اكرم الناس. و هناك قصة الفنان عبيد الطيب له الرحمة، الذي كان آتيا من بانت بعد حفلة فاوقفه الرباطون، و عندما شاهدوا العود طلبوا منه ان يغني لهم، وتسامروا معا في انس و متعة و تقاسموا صندوق السجائر الكبير الذي اهداه له العريس و اكملوا السهرة الى الفجر، ثم ودعوه و وعدوا ان يحموا حفلاته و قد كان.
الغرض من ترك جثة ابراهيم سند في خور ابو عنجة هو تضليل البوليس بان العملية و الجريمة قام بها الرباطون، و لكن امدرمان كانت صغيرة و اشارت اصابع الاتهام الى سالمة، و اعتقلت لفترة طويلة و وقتها لم يكن يسمح بتعذيب المتهمين، و كانت تقول ان آل ابو العلا حموها، و قد قال لها مدير السجن "و الله ما شفت لي مسجونة نظيفة و قيافة و ممسحة زيك، و العواميد و البستلات داخلة و مارقة بالاكل". و لم تعترف سالمة و ربما خوفا من ما قد يحدث لها او لاهلها، و قد نصحت بان لا تورط نفسها او اي انسان آخر . الا انها كانت متأثرة حتى بعد سنين عديدة بموت ابراهيم سند .وكما كتبت كانت تعنذر كثيرا لوالتي لمعرفتها بصلتنا بابراهيم سند .
قصة ان كبس الجبة قد قال في موته و افتخر بقتله سند، هذه قصة ليس لها اي نصيب في الحقيقة. فكبس الجبة قتل برصاصة في الرأس بمسدس العم خاطر، في حادثة فرتكة حفلهم ببيت المال كعادة الفتوات و مات مباشرة . و كما اورد الاستاذ الاخ هلال زاهر الساداتي ابن الموردة وفريق ريد بالتحديد فان شقيق كبس كان يقول في المـأتم "كبس لم يكن ليموت الا بالرصاص لانه مافي شي بوقفه" . و كبس لم يكن بلص او سارق او من ينهب و ياخد "ختة العريس". و كما ورد انهم كانوا يطفئون الرتينة ثم يسرقون "النقطة" ، عندما قتل كبس كانت البيوت تضاء بالكهرباء ، و منزل آل خاطر كان محاطا بالزينة و الانوارالملونة، و عندما اطلقت النار على كبس كان يحمل كرسي خيزران و يحاول قطع سلك الزينة ، و السبب انهم قد منعوا من ان ياخذوا شبال من البنات الراقصات في الحفل، و كان مع كبس مجموعة من الاشداء اولهم صديقي احمد عبد الفراج، رحمة الله عليه، و هو خال الفنانة حنان بلوبلو، و عرف في امدرمان ب "قدوم زعلان" و شقيقه خضر كرموش وشقيتهم قابلة معروفة قس شرق شارع الفيل ،و معهم دغماس و راس الميت، واسم راس الميت اتى من ثقافة السينما، حيث كان هناك كاوبوي يرتدي قبعة عليها رسم جمجمة. برأت المحكمة العم خاطر و محامي الدفاع كان محمد احمد المحجوب، رئيس الوزراء فيما بعد، و دفاعه سبب شرخا في علاقة الناس في امدرمان، فقد سأل احد الشهود و الذي قال انهم لم يقصدوا شرا في الحفل، فسأله المحجوب انتوا منو ؟؟ فقال له انا و المرحوم كبس، و قدوم زعلان، و دغماس، و راس الميت، فقال المحجوب للقاضي بطريقة مسرحية : سعادتك دي اسامي ناس اولاد ناس ما عاوزين مشاكل و جايين من الموردة !! ...
وجد اهل الموردة و العباسية صعوبة في تقبل الامر، بالرغم من ان المحجوب كان من كان من مجموعة الهاشماب مثل الادباء محمد عشري و عبد الله عشري و هؤلاء من الشلك، و ان الامر هو عبارة عن حيلة محاكم، و لكن الامر حز في نفس الكثيرين، و اعتبرت براءة العم خاطر نوع من العنصرية و بالرغم من ان كبس الجبة كان لاعبا في فريق الهاشماب كذلك.
لسؤ الحظ كان مقتل ابراهيم سند ينظر اليه بنظرة عنصرية، و ظهرت هناك اغنية شعبية تتطرق للجريمة و فيها بيت يقول "حلتكم بعيدة و بخاف انا من عبيدها" . كبس لم يصطدم بابراهيم سند، و كبس و مجموعته كانوا صبية في الجيش فيما يعرف ب "نص تعيين" ، و هؤلاء الصبية يدربهم الجيش كي يصيروا ميكانيكيين، نجارين، تفشكية (يصينون و يصلحون الاسلحة)، و بنايين، و عندما يكملون الثامنة عشر يصيرون جنودا يصرف لهم الزي الكامل و هو عبارة عن جبة و تكون واسعة يأخذونها للترزي للتقييف، و لكن كبس بسبب التمارين الرياضية و الاكل المتوفر كبس الجبة و هذا سبب تسميته. اشتهر كبس كملاكم ولم يستعمل اي سلاح في معاركه بل يده فقط، و عندما كان الشاويش الانجليزي الضخم يدربهم على الملاكمة، صرعه كبس بلكمة واحدة. اشترك كبس في معارك و مشاجرات كثيرة و سجن بسببها لانها كانت عنيفة و دموية. بعد الحرب العالمية الثانية سرح كثير من الجنود و احيلوا للاستيداع، و تطوع كبس و مجموعة للحرب في فلسطين بتشجيع من العم زاهر سرور الساداتي، و رجعوا محبطين بسبب الهزيمة و اعتقال قائدهم زاهر سرور الساداتي. و التفرقة العنصرية و الاهانة التي وجدوها في احيان كثيرة من من ذهبوا ليدافعوا عنهم. و هذا العنف و عدم الانضباط يمر به الجنود بعد الحروب، مثل محاربي فيتنام في اميركا، و لفترة كان كبس يدير الشادوف او النبرو الذي كان يسقي حديقة برمبل او الريفيرا بالقرب من الطابية، و هذا لتخفيف عقوبة السجن عليه .
قصة سالمة و ابراهيم سند هي قصة حب و غيرة، و القتل كان بسبب الغيرة، و المنطقة التي كنا نسكنها في "العباسية فوق" و التي جاورتنا فيها الخالة سالمة ضمت انماط مختلفة من البشر، اشهر البيوت ما عرف بحوش البقر، و هو حوش كبير يسكنه عشرات الناس و يستأجرون غرفا و صاحب المنزل محمد خير و زوجته زوهرة . كانا يجلسان كل اليوم امام دارهم على بعد امتار من شبابيك منزلنا . ويستمتعا بلحم الكدايس / القطط التي يضعون لها شراكا على رأس المنزل ن او يحضرها البعض في جوال انتقاما بسبب اعتداءها على ابراج الحمام.
من سكان المنزل في غرفة صغيرة جدا . ام سعيد و ابنها سعيد و بعض الفتيات، منعن فاطمة مسمار النص و لونها فاتح، و كانوا جيراننا المباشرين من ناحية الغرب، و كانت هنالك فضل الساتر جارتنا من الجهة الشمالية، اخصائية القام زوت ، و اليمني علي ابن علي صاحب الدكان و متزوج سودانية، و كانت هنالك بت احمد صاحبة احسن عرقي في السودان، و جارتنا كذلك حواء كلاب اشهر بائعة عسلية في امدرمان، و يعم دارها نخبة مجتمع اهل امدرمان من افندية و صنايعية و يحجز الانسان مكانه و شرابه ليوم الجمعة مسبقا، و كانت هناك شخصيات اخرى مثل عيسى بن مريم و كاسترو من النجارين، و في نفس هذا الزقاق عام 1963 اشتبك احد السكان و جزار الكيري و انتهت المعركة القصيرة بان فتح جزار الكيري بطن الساكن بسكينه والذي كان يحمل عصا، وحدث هذا امامي و امام بابنا الخلفي. و حكم قاضي جنايات امدرمان محمد صالح عبد اللطيف زوج اختي، و الذي كان يسكن معنا، حكم بالسجن 12 عاما على القاتل بتهمة القتل العمد و ليس القتل العمد مع سبق الاصرار و الترصد، التهمة التي تؤدي الى الاعدام . السب في الحكم انها كانت طعنة واحدة فقط . .

كركاسة
قبل الحب فلنبحث ونسعي دائما لكسب الاحترام . الحب شعور عاطفي أو نزوة
وقد يكون غير عقلاني وغير مبرر، يبلى ويتغير بالوقت او الضغوط . الاحترام يبقى اكثر حتى بين ابغض الاعداء .
شوقي بدري

shawgibadri@hotmail.com
///////////////////////////

 

آراء