ادوارد لينو الذي نعرفه

 


 

 

 

يمضي الأصدقاء سراعا إلى الأبدية دون أن يقولوا لنا وداعا، ونظل نقف على حوافي قبورهم ننتحب في انتظار المنون.

أحمد عمر أحمد وشارلس كير دينق وجعفر السنوسي واحمد عثمان سراج من الذين ربطتني بهم أواصر صداقة عظيمة كأنهم اخوة لي لم تلدهم أمي...لكنهم كانوا يعرفونها وتعرفهم رحمها الله، حيث كان المسكن يستضيف جميع اصدقائي، مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا.
آخر الراحلين كان العزيز ادوارد لينو، ذلك الشاب الابنوسي سمهري القوام القادم من كمبوني الأبيض، شديد الشبه بسدني بواتيه ساحر الشاشة الأسمر الذي كان أول أمريكي من أصول أفريقية من جزر البهاما يحوز على جائزة الاوسكار كأحسن ممثل في فيلم زنابق الحقل lilies of the field 1963.
ادوارد كان ضمن تلك الدفعة التي حدثتكم عنها في بعض الذكريات وأنا، وقد ذكرته في كثير من مقالاتي السابقة.
التحق بكلية الآداب في 1967 ومن ثم بكلية القانون بعد عامين حسب التعديل الذي أُدخل على نظام الالتحاق بتلك الكلية ابتدءا من العام 1966م.
اول مرة أقف امام ميكرفون الإذاعة السودانية كان برفقة ادوارد لينو وبروف عبد الرحمن إبراهيم محمد في الذكرى الأولى لإعلان التاسع من يونيو الذي منح الجنوب الحكم الذاتي الإقليمي، نظم ذلك اللقاء دكتور الطيب حاج عطيه الذي كان وقتها رئيس القسم السياسي في الإذاعة والتلفزيون.
ادوارد كان من الذين قلبوا موازين القُوى داخل حركة الطلاب الجنوبيين في جامعة الخرطوم.
كانت الحركة يمينية انعزالية لا تشارك في النشاط الطلابي للاتحاد وكان اسمها وقتذاك جبهة رفاهية الطلاب swf وتحولت بمجهود ادوارد وآخرين من الطلبة التقدميين إلى الجبهة الوطنية الافريقية ANF وأصبحت بالتالي أكثر قربا من اليسار الطلابي، وحليفا له داخل المجلس الأربعيني للاتحاد ومن ثم عضوا رئيسيا في سكرتارية الجبهات التقدمية، التي نشأت عقب حل اتحاد علي عثمان محمد طه.
نشأته في الأبيض وعلاقته بالشماليين هناك حيث كان والده ناظر مدرسة، أثرت في شخصية ادوارد وأبعدته عن الكثير من الهواجس التي كانت تعصف بالعلاقة بين الطلبة الجنوبيين ورصفاءهم الشماليين، وقد لعب حقا دورا كبيرا في ادماج الطلاب الجنوبيين في المسار العام لحركة الطلبة بجامعة الخرطوم.
أذكر في الثامن من مارس 1971 ذهبنا ممثلين لسكرتارية الجبهات التقدمية نخاطب طلاب كلية الطب عن الأزمة التي سبقت حادثة اصطفاف لواء المدرعات في شارع الجامعة.
كنا أربعة، كل منا يقدم الآخر بعد انتهاء كلمته. تحدث في الأول محمد حسن باشا، ثم قدم ادوارد الذي قدمني بدوره لأقدم انا زميلنا الراحل الخاتم عدلان.
راجلين عدنا من كلية الطب إلى البركس، واتضحت لنا تعقيدات الموقف من مداخلات طلاب الطب الذين أمطرونا بوابل من الأسئلة كان من العسير الإجابة عليها في ذلك الأمر الملتبس بين الموقف الطلابي النقابي وموقف المكون السياسي الخارجي لحركة الطلبة.
كان الامر أكثر تعقيدا بالنسبة للطلبة الجنوبيين الذين كان يمثلهم ادوارد لينو، خصوصا بعد إعلان التاسع من يونيو 1969 الذي منح الجنوب حقوقا سياسية لن يستطيعوا انكارها أو التقليل من شأنها.
رحلتي مع ادوارد لم تنتهي عند الطلب بل كان لصيق الصلة بي وكنت حفي به، نتواصل اينما كنت، يعرفه اهل الدار ويعرفهم ويسألني عنهم متى التقينا وكذا كان حالي معه، أزور اخته وزوجها الذي كان ضابط استخبارات يسكن في سلاح المدرعات اثناء عمله بالقوات المسلحة.
في زواجي الأول كان ادوارد وزير العريس الذي أردته أن يكون شاهدا على الزواج، رفض المأذون ذلك بحجة أن ادوارد يبدو من اسمه أنه مسيحي، كان يدخل البيت ويخرج كأحد افراد الاسرة، تساءل وقتها أهلي القادمون من عطبرة لحضور حفل الزواج عن كنه الشخص قريب الصلة من "أولاد موسى" وهم لا يعرفونه.
كانت سيارته التي استعارها من الوزير بونا ملوال تنقل الناس والحاجيات من المنزل إلى مكان العرس في نادي الخليج، وكان هو الذي اختار واتفق مع الفنان شرحبيل أحمد لاحياء ذلك الحفل، ورغم تباعد المكان والزمان من بعد، لم تنقطع صلتي به أبدا.
التقيته في العام 1984 وهو في طريقه للالتحاق بالحركة الشعبية، كنت معه في سيارة أخته التي كانت تعمل في مجلس الكنائس العالمي، قال لي ونحن في طريقنا للبيت ربما لا نلتقي قريبا، سأذهب في عمل مختلف.
أدركت ماذا يعني، فلم اشأ أن استوضحه أكثر، فقد كانت الثقة بيننا كبيرة وكنت على قناعة بأنه سيخبرني يوما ما، فسألته عن علاقة د. منصور خالد بالحركة الشعبية؟ وكنت حقيقة اريد أن اعرف كنه تلك العلاقة، فقد كان منفستو الحركة يساريا ولم يكن منصور خالد كذلك. كانت إجابته غريبة. تفادى الرد على السؤال ووقفنا هناك.
مضى الزمن وإذا به يسأل عني دكتور منصور خالد في نهاية العام 1989 في جنيف التي وصل إليها في معية د. جون قرنق، وكانت تلك أول مرة التقي فيها د. قرنق واتعرف عليه عن قرب. سألني ادوارد: "لماذا لا انضم للحركة الشعبية وأنا أقرب فكرا إليها"؟
قلت: إنت تعرف كرهي للسلاح أيا كان شكله، فانا لا أستطيع أن اذبح ديكا للغداء؟ فكيف لي بقتل شخص آخر؟. ضحكنا ولم يعيد علي السؤال مرة أخرى سوى د. منصور الذي طلب مني أن اشكل chapter حسب تعبيره للحركة في سويسرا.
أصبح يأتي لجنيف من وقت لآخر ممثلا للحركة الشعبية في لجنة الأمم المتحدة لنزع الألغام الأرضية، وكنت التقيه دائما ونذيب الليل انسا وذكريات جميلة.
ذات مرة قال لي انه في فندق Warwick فذهبت اسأل عنه باسمه الذي اعرفه، "ادوارد لينو وور". قال موظف الاستقبال لا يوجد لدينا نزيل بهذا الاسم. وانا احاجج الرجل فإذا به يخرج من المصعد، قلت للموظف هذا هو، قال لي لكن هذا اسمه أبيي. وكانت تلك اول مرة، رغم العلاقة الممتدة، اعرف أن اسم عائلته أبيي. قلت له إذن أنتم اسياد المنطقة بكاملها؟ ضحك وقال لي ألا تدري اننا أبناء قبائل ايضا؟.
عند منتصف ليل ما جاءني هاتف من واشنطن وكان المتحدث ادوارد لينو، لم أكن اعرف انه هناك في دورة دراسية. كان يتحدث من منزل ضابط البوليس السابق محمد مالك زوج زميلتنا عواطف حمد التي لم اسمع عنها منذ أن تركنا الجامعة. قلت لنفسي هكذا دائما ادوارد يجمع الأصدقاء من الذين تفرقت بهم سبل الحياة.
رحلت للبحرين وعاد ادوارد للسودان بعد اتفاقية نيفاشا لكن حبل الوصل كان ممتدا. آخر مرة زرته وأخي محمود في منزل نسيبه باركويت وكان قد أجرى عملية قلب مفتوح لتغيير أربعة من صمامات ذلك القلب المتعب بهموم السودان. خرج منها معافى ودخل في معمعة الصراع داخل الحركة بعد موت د. جون قرنق وهي معركة لم يخرج منها إلا بتسليم الروح لبارئها.
في لجاج بعض العنصريين السودانيين، سأل أحدهم في جلسة ما عقب انفصال الجنوب، لماذا حزنكم على ذهاب الجنوبيين، فهل بينكم من لديه صديق جنوبي؟.
ربأت بنفسي من الرد عليه فقد كان الرجل كتلة من التخلف تمشي على قدمين، ولم اشأ أن أقول له إن لي اخوة منهم، وليس أصدقاء فقط، لا يمكن أن يصل امثالك إلى مكانتهم عندي، ادوارد لينو وشارس كير "كارلو" وشارلس مانيانق وشارلس بوث ديو والعزيزة سلوى جبريل.
في العام الماضي حمل لي الصديق د. قندول تحيات ادوارد الذي التقاه في نيروبي في زواج ابنة القائد يوسف كوة رحمه الله. في الصورة التي جمعتهما مع آخرين، كان ادوارد لينو على كرسي متحرك. تألمت كثيرا لرؤيته في ذلك المنظر الحزين.
لذا تراني استعير هنا في وداع شاعر ثائر صديق، نظْم شاعر آخر مبدع هو تاج السر الحسن في وصفه لجومو كنياتا:
"ادوارد لينو الذي نعرفه، اسدا يزأر في وسط العرين".
ألا رحم الله ادوارد فقد كان اخا وفيا ودودا مخلصا، ناضل من اجل قضية آمن بها ووطن رأى أنه يستحق العيش فيه، فهزم طموحه الهوس الديني والتخلف الفكري.
فلتهنأ في مرقدك أيها الرجل السمح.
ولله ما أبقى ولله ما أخذ
"وَهذَا هُوَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَنَا هُوَ بِهِ: الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّة"
رسالة يوحنا الأولى 2-25

محمد موسى جبارة

 

آراء