استعراض كتاب تاريخ وحضارات السودان منذ ما قبل التاريخ والى يومنا هذا

 


 

 

(1)
يُعتبر علم الآثار هو ذلك الفرع من "دراسة التاريخ" الذي يُعنى بدراسة المخلفات المادية والحضارية لماضي الإنسان . إن دراسة التاريخ بمعناه الشامل يهتم بكل المصادر , سواء أكانت مكتوبة أم منقوشة أم مخلفات مادية , ومن خلالها يهدف المؤرخ إلى رسم صورة مكتملة وصادقة لماضي الإنسان ما وسعه من ذلك . أما الآثاري فيتعامل مع الأدوات والأشياء المادية التي كان يصنعها الإنسان مثل أسلحته ومساكنه ومقابره و أماكن عبادته . لذلك أتت بعض التعريفات الدقيقة من بعض الجهات الأكاديمية لتحصر المعنى وتضبط المصطلح .
فحسب قاموس اكسفورد الإنجليزي فإن كلمة "أركيولوجيا" تحمل ثلاث تعريفات :
أولا : تعني "الإهتمام بلأشياء القديمة" ويحدثنا كذلك عن كيفية استعمالها . بمعنى التاريخ القديم بصفة عامة
ثانيا : فهي تعني وصفاً تفصيلياً أو دراسة تفصيلية للمخلفات الأثرية .
ثالثا : فهي تعني بالدراسة العلمية للمخلفات الأثرية والحضارية لفترة ما قبل التاريخ .
ففي الوقت الذي لم يعد فيه الاستعمال الأول للكلمة مُجدياً فإن الإستعمال الثالث لها أصبح محدوداً . إن حقبة "ما قبل التاريخ" - وإن كانت تُعني بأطول الفترات عمراً تلك التي يهتم بها الآثاري – إلا أنها تمثل جزءاً من علم الآثار الذي يعني حسب التعريف الثاني للكلمة . "الوصف المنهجي للآثار ودراستها" . وهكذا يكون التفسير الثاني للكلمة هو الأقرب للحقيقة.
لقد عُرفت المصادر المكتوبة أول مرّه منذ حوالي خمسة آلاف سنة مضت , وعليه , وبصفة عامة فان هناك فرعين من علم الآثار : أولهما هو ذلك الفرع الذي يهتم بماضي الإنسان قبل المعرفة بالكتابة , وهو الذي يُسمّى بعلم "ما قبل التاريخ" ويرجع إلى عهد المجموعات البشرية المُبكّرة التي عاشت في شرق إفريقية , التي يعود تاريخها إلى مليونين ونصف مليون سنة خلت , أو ربما يزيد على ذلك .
أما الفرع الثاني من علم الآثار فهو الذي يختص بالمخلفات المادية للحضارة البشرية التي عرفت الكتابة وتُسمّى بـ"الحقبة التاريخية" , حيث تم تقسيم الحضارة البشرية الى حقبتين رئيسيتين , حقبة ما قبل التاريخ والحقبة التاريخية . وقد اتفق على جعل الكتابة فيصلا بين الحقبتين .
في بادئ الأمر كانت المخلفات المادية لهذه المجتمعات تحظى بالقدر نفسه من الأهمية الذي تحظى به المصادر المكتوبة والمدوّنة , وربما تفوقها أحيانا . تلك هي الفترة التي يُشار إليها بفجر التاريخ إلى الفترة التاريخية بمعناها الدقيق . عندها تصبح دراسة المخلفات المادية للإنسان أداةً مساعدة تخدم علم التاريخ .
(2)
بتاريخ 30 سبتمبر 2017م قدم الناشر اوليفيير كابون عن (مؤسسة سوليب بلو اوتور) كتاب "تاريخ وحضارات السودان" من عصور ما قبل التاريخ الى يومنا هذا, أتى هذا السفر في (960 صفحة) وهو عمل جماعي تحت اشراف المؤرخ الفرنسي فانسان فرانسيني. يعتبر هذا الكتاب الجامع الموسوعي حول تاريخ وحضارات السودان الصادر باللغة الفرنسية, خارطة آثار ودليل سياحي لمن يريد ان يعرف عن السودان خصوصاً الانسان الاوروبي الذي ارتبط في ذهنه مفردة الاهرامات بمصر فقط, ولا عجب في ان عدداً ليس بالقليل من السودانيين انفسهم وغيرهم من مختلف البلدان لديهم ذات الاعتقاد والقناعات في ان اصل الاهرامات في مصر وليس في غيرها, غير انه مع هذا الكتاب يمكن للمرء ان يكتشف ان للسودان أيضا اهراماته وتاريخه الموغل في القدم, والمتنوع الى حد كبير, بل أن اهرامات السودان هي الأصل ومن ثم أتت اهرامات مصر لاحقاً .
عني الكتاب بالصور خصوصا ونحن في عصر الصورة فحوى الكتاب على ما يناهز 750 صورة وخريطة بالغة الدقة والموثوقية, وذلك حتى يقرّب المعنى السردي للمتلقي عبر الصورة وذلك بشكل لافت, وهذا جزء من قطاع فرعي في مشهد النشر الفرنسي الذي يعتني بالتعريف الثقافي والجغرافي ببقاع متفرقة من العالم, ويمكن أن يلاحظ أي متابع أن السودان بلد رغم تنوّعه يكاد يكون غائبا في المشهد الثقافي الدولي , وهذا ما حمّس البعثات الفرنسية للعمل في هذا الاطار عبر تعاون رسمي بين حكومتي البلدين في المسائل الاثرية. كل هذه العوامل وغيرها, جعلت خيار نشر هذا السّفر الضخم وفي هذا التوقيت, خيار أساسي للناشر والمشرف على حدّ سواء للعمل ضمن السياق نفسه .
يُعتبر الدكتور فانسان فرانسيني من علماء الآثار المرموقين , وقد أشرف على الكثير من البعثات في منطقة الاهرامات في مروي وتُعد حضارات المنطقة مجال تخصصه الدقيق . حيث شرع المشرف في الاتصال بالكتّاب والباحثين المهتمين بهذا المجال الذين لهم أبحاث مشهودة , كلٌ في مجال تخصّصه , فكان نتاج بحثه وتنقيبه أن أثمر عن ثمانية كتّاب سبعة منهم فرنسيين مهتمين بالسودانولوجي وثامنهم سوداني فنان تشكيلي . فافتتح الكتاب بايجاز الباحث أوليفيير رولان بعنوان دفاتر سودانية, تحدث فيه الكتاب بإسهاب . ثم تلاه اوليفيير كابون آثاري ومدير دار نشر (سوليب) بتمهيد مقتضب, وقد اختار الناشر أوليفيير اسم سوليب ليكون عنوانا لمؤسسته من قرية سوليب التي تقع على الضفة الغربية للنيل شمال الشلال الثالث على بعد 40 كلم جنوب مدينة عبري في الولاية الشمالية من السودان , وهي قرية تاريخية بها آثار جمة .
ويأتي كلود ريلي اختصاصي في المصريات وعالم اللغويات ذائع الصيت, المتخصص في اللغة المروية ببحث دقيق بعنوان "تاريخ السودان منذ التأسيس الى سقوط سلطنة الفونج". وقد أتت دراسته دقيقة وشاملة حملت في طياتها 420 صفحة قسّمها الباحث الى احدى عشر فصلا , بدأها بمدخل عن النيل الأبيض والنيل الأزرق والنيل الأصفر وهنا يقصد البحر الشاسع من الرمال . وتلاه بفصل عبارة عن تسليط الضوء عن الشعوب في تلك المنطقة , فوسمه بـ(الشعوب الرعوية) . ثم تلاه بفصل أرض القوس - وأبناء ملوك كوش - وآمون – وأرض الفراعنة الأخرى – تحدث عن المعابد في السافنا – والهيروغليفية الإفريقية – ثم المعارك على أنقاض مروي – كما أفسح مجالا للحديث عن ملوك يونانيون ذوي البشرة الداكنة – وختم دراسته بإنتصار الإسلام .
أما الدكتور مارك مايو الباحث والمقيم ضمن فريق بعثة الآثار الفرنسية بالخرطوم والمتخصص في الهندسة المعمارية القديمة والتخطيط الحضري, فأتى بحثه بعنوان "قرن من الحفريات الآثارية, مملكة مروي عالم حضري". وتوسط المجموعة الدكتور فانسان فرانسيني الآركيولوجي ومدير البعثة الفرنسية بالسودان, ليطرح نتاج أبحاثه في المنطقة ليسلط الضوء على جزيرة صاي في شمال السودان والتي وسمها بالجوهرة الآثارية. وقد حصل مؤخرا على وسام الجمهورية الفرنسية بدرجة فارس على أبحاثه . أما برنار فرانسوا وهو رئيس التعاون في وفد الاتحاد الاوروبي بالسودان 2009 – 2012م, فاقتصر بحثه على تاريخ السودان الحديث, حيث عنونه بـ"تاريخ السودان من 1820 الى يومنا هذا" فأتت الدراسة في مئة صفحة تناول فيها (شرق السودان في أوائل القرن التاسع عشر) , ثم تلاه بفصل عن فترة الحكم التركي (1820-1885) والذي وسمه بـ(بداية السودان الحديث) , كما أرد مساحة عريضة لفترة حكم المهدية (1885-1898) , ثم عقبه بفصل عن مملكة دارفور , ثم الإستعمار الإنجليزي المصري (1899-1955) , ثم فصل عن إستقلال السودان , وختم دراسته ببحث عن جنوب السودان وخمس سنوات ما بعد الإستقلال .
وكان مسك الختام المؤرخة أوديل نيكولوس التي قضت فترة من حياتها في الخرطوم برفقة زوجها سفير فرنسا بالخرطوم فكتبت عن "السودان اليوم" في مئة وعشرون صفحة كانت عبارة عن سياحة في أرض السودان شماله وجنوبه شرقه وغربه , رؤية من الإنسان الغربي للسودان وشعبه . فتحدثت عن الخرطوم والريف السوداني والشعب السوداني , كما تحدثت عن اللاجئين في السودان وما أكثرهم , وخصصت مساحة كبيرة لوضع المرأة في السودان , كما تناولت العادات المعتمدة في الأفراح والأتراح (طقوس الزواج والجنائز) , تحدثت عن الدين والمهرجانات الدينية السنوية , كما لم تنسى عادات الطعام والمائدة السودانية , وختمت بحثها عن الفن في السودان سواء الشعر او الغناء او الرسم .

(3)
واخيرا, لم يكتمل هذا السفر الا بتناول لمحة عن الفن التشكيلي السوداني المعاصر والذي قدم له الباحث والناقد في الفن التشكيلي محمد موسى, حيث تناول المشهد التشكيلي والثقافة البصرية في السودان وذلك بتتبعها منذ الرعيل الاول رواد الفن المدرسي حيث تأسيس وافتتاح كلية التصميم بجامعة الخرطوم والى يومنا هذا .
يُعتبر العقد الثالث من القرن العشرين يمثل بداية ظهور اللوحة الفنية بمفهومها الغربى، أي اللوحة التى يرسمها الفنان لِتُعَبّر عن رُؤَاهُ الذاتية وبغرض التواصل مع الآخرين من خلال تجربته الإبداعية، والتى أصطلح بتسميتها لوحة الحامل ، حيث بدأ الفنانون فى توظيف خامات ومواد فنية جديدة مثل الألوان الزيتية والمائية والفحم، وأدوات الرسم المستوردة وأيضا بعض الخامات المحلية المطورة لمعالجة السطوح التى بدأوا فى اكتشافها كالقماش والأخشاب والورق...الخ, ومع أنهم لم يتلقوا تعليماً فنياً أو تدريباً علمياً على استخدام هذه المواد إلا أنهم توصّلوا لنتائج مُرضِية, وبعضهم برع وبأسلوب تقني عالٍ فى استعمال الألوان الزيتية فى التلوين ومادة الفحم فى الرسم، ولعلّ ما كان يهمهم فى المقام الأول هو المضمون، أو الموضوع أكثر من البحث فى التقنيات كعنصر أساسي في عملية التذوّق الفني بالمفهوم المعاصر، وكان التعبير عن البيئة وثقافتها التقليدية والبحث عن أشكال فنية يساعد على تكوين فن جديد يختلف عن الفنون التقليدية المتوارثة هو غرضهم الأساسي. وقد أطلق على هذه المرحلة مرحلة البدايات الأولى للتشكيل السوداني المعاصر، أو اسم (فن المقاهي). فنجد منهم من رسم المناظر الطبيعية الخلاّبة، والطبيعة الصامتة وصوّروا بدقة مناسبات اجتماعية طقسية، والشخصيات الدينية والنضالية، كالفنان علي عثمان علي الذى كان يعرض أعماله فى المقاهى المعروفة فى الخرطوم، قهوة الزئبق وود الآغا، والعودة والتي كان يَؤُمُّهَا أهل الثقافة من الأدباء والفنانين، ومن الفنانين الذين اشتهروا فى هذه المرحلة الفنان عيون كديس، والفنان أحمد سالم الذى عُرف بإنتاجه الغزير والمتنوع من اللوحات بالألوان الزيتية والمائية بالإضافة للمواد المحلية كالبوهية (طلاء) وغيرها وهو من أوائل الفنانين الرواد الذين اهتموا بمعالجة الملمس فى سطح اللوحة بإضافة مواد لاصقة، تناول مواضيع متعددة، من رسم للشخصيات الوطنية والمناظر الطبيعية من الريف السودانى. وتميزت لوحات الفنان العريفي الزيتية باحتفائها بمظاهر الحياة الاجتماعية، ويُعتبر الفنان جحا أول فنان تشكيلي سوداني أقام معرضاً تشكيلياً بالمعنى الاحترافي داخل السودان وخارجه أيضاً . عُرف عن رواد فن المقاهي بأنهم ينتمون لتيار الواقعية الكلاسيكية, وفي الواقعية قليل من خرج من إطار رسم الوجوه (البورتريه). وهذا التضييق في الطرح وحصر فنهم في (البورتريه) راجع لعاملين مهمين, العامل الأول درجة الوعي العام بالفنون لدي الناس في ذاك الوقت وثقافتهم البصرية, والعامل الثاني يرجع إلى التَكَسُّب من رسم وجوه الأعيان وشيوخ الطوائف الدينية وكبار التجار بالمدينة وهذا ما يدر على الفنانين بالكسب الوفير.
تم افتتاح كلية الفنون في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين في ظروف خاصة واستثنائية جداً, فقد عاش المجتمع السوداني في تلك الفترة العديد من الأحداث السياسية والتي كان لها التأثير على مصير البلاد فيما بعد. من ضمن تلك الأحداث كانت المطالبة بالاستقلال من داخل البرلمان, لذلك كان الوعي الجمعي والوجدان الشعبي معبّأً ومشحوناً بطاقات ثورية ووطنية جيّاشة. يرتبط تاريخ كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بماضي وتاريخ المستر جان بيير قرينلو الذي يُعتبر الأب الروحي لكلية الفنون وواضع المنهج الأساسي لتدريس مادة الفنون والمهن اليدوية بمعهد بخت الرضا بمدينة الدويم وقد كان لكتابه (الأشغال اليدوية والرسم) الدور الرئيس في إنارة الطريق لمُعلّمي المدارس الأولية بالسودان وتنمية مهاراتهم. ومنذ أن خرّجت أول دفعة عام 1951م، بدأت مسيرة الحركة الفنية الحديثة والمعاصرة في السودان، ومن أهم الفنانين الرواد الأوائل من خريجى الكلية الذين أنجزوا أعمالاً فنية واقعية على درب النهج الدراسي الأكاديمي الأستاذ عبدالله محي الدين الجنيد وهو أول خريج من مدرسة الفنون (1945م) والفنان علي مصطفى العريفي، والفنان عثمان وقيع الله, الفنان إبراهيم الصلحي, الفنان بسطاوي بغدادي، والفنان احمد محمد شبرين وغيرهم، ولكن سرعان ما إتجه الفنانون إلى البحث عن هوية تشكيلية سودانية أخذت تتبلور بعد عودتهم من بعثاتهم الفنية في بريطانيا.
وكان من أهداف الكلية الأساسية بعد تدريب وإعداد المتخصصين في الفنون الجميلة والتطبيقية، تعليم طرق الدراسة والبحث في التراث الحضاري والفني الشعبي وكذلك العمل على ربط الثقافة والتراث المحليين بثقافات الشعوب الأخرى والمساهمة في إثراء التراث الإنساني بوجه عام. وقد دفعت كل تلك العوامل طلبة الكلية في ذاك الوقت للنظر في العودة إلى الجذور, والدعوة إلى ضرورة الحاجة لوضع منهج فكري وعملي يهدف إلى الإرتباط بالفكر والتاريخ والتراث السوداني، مع ضرورة الاستفادة من التقنية والحداثة المكتسبتين من الغرب، وقد نجم عن هذا المَخَاض ماعُرِفَ نقديّاً فيما بعد باسم مدرسة الخرطوم, أو (الخرطوميين).
(4)
كالخاتمة, يعتبر هذا السفر "تاريخ وحضارات السودان" من أهم الأسفار التي صدرت في العام 2017, من حيث التنوع والموسوعية وأهمية الباحثين الذين شاركوا في كتابته, فهو سفر هجين مشترك ساهم فيه باحثين من تخصصات مختلفة جمعهم هم واحد وهو حب السودان والرغبة في التوثيق للحقائق وطرح المعلومات القيمة حتى يتبيّن الخيط الرفيع بين المعلومة التاريخية الصحيحة عن المعلومة التاريخية المغلوطة للقارئ سواء داخل السودان أو خارجه, لكي لا يقع القارئ فريسة للمغالطات التاريخية . لقي هذا العمل الفريد الدعم من وزارة الخارجية الفرنسية ومتحف اللوفر الفرنسي ومعهد العالم العربي بباريس. نال هذا السفر باستحقاق جائزة مؤسسة ميشيل شيفر جيوفاني, وجائزة أكاديمية الأعمال الأدبية لعام 2017, كما نال بجدارة ثقة كبرى المؤسسات العلمية بباريس باعتماده مرجعاً مهما في السودانولوجي وهما جامعة السوربون وكوليج دي فرانس العريقتين .
أخيراً, ولأهمية هذا السفر, عكف الناشر على العمل على ترجمته للغتين العربية والانجليزية وذلك لتوسيع دائرة تناوله وتنوّع قرّاءه, ولا زال العمل جارٍ مع فريق الترجمة, على أن يرى العمل النور في نهاية هذا العام 2018 .

mohamedmosa.imam72@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء