الحزب الشيوعي … محاولات للعودة من خارج الصندوق..!!

 


 

 

الحزب العجوز، وكعادته، لا يرضى بغير أن يكون له الصدر دون العالمين أو القبر، مثل الإمام الراحل الذي قيل عنه لو أنه رأى جنازة تسير بها الركبان لتمنى أن يكون تلك الجنازة، حباً وشغفاً في التوهج الجماهيري، والشيوعي كفرد لا يرى أحد غيره ممثلاً لأي ثورة جيفارية مندلعة في أي بقعة من بقاع الأرض، يُخوّن الآخر الشريك في العملية الشعبية الثورية التلقائية، والتي بطبيعة حالها ليست متلونة بلون طيف سياسي بعينه. الطمع النرجسي أفقد الحزب الماركسي السلطة التي أتاها راكباً على أكتاف العقيد جعفر محمد نميري، فلم تسعفه الحكمة وحسن التصرف في الامساك بمقاليد أمور الدولة التي آلت إليه عبر انقلاب مايو، وضاعت الأحلام إثر الحماقة الانقلابية الثانية التي أطلق عليها إسم (الثورة التصحيحية)، بعكس توأمه وشبيهه في الملامح وصنوه في التعاطي السياسي حزب الجبهة الاسلامية القومية، الذي استطاع أن يوائم بين علاقة كادره المدني ورمزه العسكري الانقلابي لمدى ثلاثين عاما. هذا الحزب الأحمر سعى للسلطة ولهث وراء بريقها لما يقرب ثلاثة ارباع القرن من الزمان، وهذا حق مشروع له ولأي تنظيم سياسي آخر، لكنه فشل في تحقيق هذا الحلم بسبب إخفاقه في تطوير خطابه السياسي الكلاسيكي المتخندق على الدوام في محطة مطلع القرن الفائت، وبذلك أضاع فرصة احتواء جيل اليوم في وعاء التنظيم، وهو ليس الوحيد في هذه الخصيصة إذ يشترك معه فيها الحزبان (الكبيران). الخطيب والميرغني وبرمة بلغوا من العمر عتيّا واشتعلت رؤوسهم بالشيب والإعياء ولم يصعّدوا الشباب لقمم جبال الهياكل التنظيمية، فثورة الشباب تسندها فورة الشباب وعنفوانه، لا صراعات الكبار الكائدة.
باعتباره تنظيماً مدنياً على الحزب الشيوعي أن يُعوّل على (السلمية) شعار الثورة الديسمبرية المجيدة، وأن يترك لعبدالعزيز وعبدالواحد خيارهما العسكري المدشن منذ سنين، فمحاولة الخروج من الصندوق سلمياً والعودة من خارجه كلاشنكوفياً، هي محاولة للخروج من إطار مبدأ السلمية والكفر بخيار الشباب المقاوم، وهذا الاحتواء لحملة السلاح لا يختلف كثيراً عن اللجوء إلى ضباط المؤسسة العسكرية والاستقواء بهم لتحقيق أمل الحصول على السلطة، فليترك الحزب العجوز القائدين يستمران في تغليب خيارهما العسكري وليتفرغ للتنسيق مع القوى الحزبية (رغم بؤسها)، وليعملا سوياً لاسقاط الانقلاب بدعم الآلية الشعبية السلمية التي سبق وأن أسقطت الدكتاتور المغرور، وأن لا يقتات على موائد المسلحين حتى لا يكون لهم عليه ذلك الفضل الذي سيخصم من رصيده الانتخابي. إنّ حُلم مستشار قائد الجبال في الاقتحام المسلح للعاصمة السودانية كما فعل كابيلا – زائير وكاقامي – رواندا، أمر يصعب تحققه في بلاد تعادل فيها مساحة رواندا مساحة إقليم واحد من أقاليمها، فهذه الحالة المرضية والنزعة النرجسية المتفاقمة والمتضخمة لهذا الحزب الهَرِمْ، لن تخدم أنصار الحراك السلمي والمدني الداخلي، وسوف تعرض كثير من المقاومين للتضييق من جهاز أمن الكيان (البائد) المُعاد أخيراً للخدمة، والتغريد خارج سرب الجماعة لا يرفع صوت المغرد درجة واحدة لمخالفته للقاعدة المنطقية التي جاء بها بيت الشعر: تأبى الرماح إن اجتمعن تكسرا وإن افترقن تكسرت أفرادا، وفي مثل هذه الأوقات يُتطلب رمي الجهود في حقائب الشباب المقاوم، لا التعويل على القائدين المسلحين المعتكفين بالجبلين، ويجب أن تكون لنا الأسوة الحسنة فيما فعله الهتاف – سلمية .. سلمية – الذي قذف الرعب في قلوب (البائدين).
العزف المنفرد على آلة الفلاوت الوحيدة قد يطرب، لكنه ليس الأقوى تأثيراً مقارنة بالأداء الأوركسترالي الجامع للعديد من الأصوات الموسيقية المتنوعة، والعمل الجماهيري التعبوي المستهدف إزالة الدكتاتوريات العسكرية لا يقبل ادعاء الفلاح ولا التفاخر بالفردانية، بل هو تراص للأيدي فوق بعضها حتى تعلو هامات الرجال لتحرق علم الظلم المرفرف والمنصوب على سطح قصر الجمهور، ولا يمكن إحراق هذا العلم بالمحاولات المتكررة بالخروج عن النص وسيناريوهات التذاكي المكشوفة. الضعف والوهن الطائل لمنظومة الأحزاب العجوزة والعاجزة بدأت تعصف رياحه من بعد أن ترك الرجل الأبيض حكم البلاد، فكثيرون من بني شعبنا قد ندموا أيما ندم على عملية التسليم والتسلم التي تمت بين البريطانيين والنخبة الصفوية لنادي الخريجين، وحجتهم في ذلك ضياع الجهد والبذل الوطني في الصراعات الدائرية والصفرية المبددة للآمال والطموحات الشعبية المشروعة، ومن مؤسفات هذا الزمان أن سيل الدماء في جبال مرة والنوبة اصبحت كالشحم المسهل لتحريك تروس إطارات عربة الاحزاب القديمة، وصارت أرصدة محتجزة للاستثمار في المساومات السياسية حول الوصول للكرسي متى ما اختلفت القوى السياسية حول تقاسم الكيكة.

اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com

 

آراء