الخَندَق: حول فض الاعتصام وانقطاع الانترنت

 


 

 

 

eltlib@gmail.com

لم يُترك لنا خيارٌ سوى الخوض في الشأن السياسي بعد ما حدث، ولكن سنظل نراقبه من خلال منظارنا الثقافي. لذلك، كما قال شاعرٌ سقط من ذاكرتي: (في أزمنة الرعب، سنغني أغاني الرعب).

(1)
أُسمّيه الخندق، ذلك الفصل الصادم الذي أَغرَقَنا في ظلامٍ عنيف، ونسمّيه جميعاً بمجزرة فضَّ الاعتصام. إنه خندقٌ حُفِرَ، بفعلِ فاعِل، في أرض تاريخ السودان كلّه، فقسمها إلى قسمين: ما قبل فضّ الاعتصام، وما بعده. طبعاً أجدُ أن كلا المصطلحين، واللذان دخلا قاموس اللغة الإعلاميَّة، المحليّة والإقليميَّة والدوليَّة، بسلاسةٍ يُحسدان عليها أجدهما دلالة واضحة أن هذا الخندق الفاصل، الحدود المُحرَّمة، والحياة المبسوطة أمام العالم أجمع، وكانت مثالاً ونظاماً وتفكيراً وتلاحماً ووحدةً لشعوبٍ لانهائيَّةٍ تحت رايةٍ واحدةٍ، الحياة في الساحة هي: ثورة شعوب السودان ووحدتها. إنَّ فضَّ الاعتصام لا يتوقَّف عند كونهِ حدثاً دمويَّاً إجراميَّاً في حق النفس الإنسانيَّة والروح التي، من المُفترض، أن لا تُقتَلَ إلا بالحق. ذات الحق الذي، ببساطة، يطالب به السودانيُّون. إنه لمن المحزن أن نقول بأن لهذه الحادثة إيجابيَّة واحدة فقط: لقد تَوحَّد السودانيُّون، لأوّل مرَّةٍ في تاريخهم الطويل، وقد كان مُدهشاً، باستمرار، قدرة السودانيين على العبور فوق الجراحات، وثبات جذورٍ غريبة ومريبة، تجعل منهُ –السودان- شعوباً لها اتفاقات مبدئيَّة في الجذور الأخلاقيَّة، إذ أنهم، كلٌّ في دينه واعتقاده مثلاً، نجدهم مُلتزمون بما يؤمنون به: ينجدون المحتاج، ويذودون عن الضعيف، ويساعدون الغرباء. إضافةً إلا عدم الاكتراث مثلاً. هكذا، يُعبَّر عنها في اللغات الجديدة بي: "كاسرين الحَنَك". إن توحّد كلمةِ كُسَّار الحَنكِ هؤلاء، في كلمةٍ واحدة، وغضبةٍ واحدة، يضعك أمام القول الشهير: إحذر غضبةَ الحليم. إن فض الاعتصام، إضافةً لما ذُكر، هو حادثٌ أنثربولوجي دموي، ومأساة ثقافيّة كذلك، بكل ما تحمله الكلمات.

(2)
هذا هو تنقيب الظلام الأوّل في مرحلة ما بعد الخندق، إذ أن الصدمةَ قد أخرستنا لمدّة غير قليلةٍ من الزمن، وعطلت التفكير. وجدتُ نفسي في دوامة غريبة من الكوابيس الواقعيَّة والتي تُهاجمك في المنام؛ ففي كلّ يومٍ تسمع قصَّةً جديدة لصديقٍ مُقرَّب، خاصةً وأن قبيلة الفنون قد نُكِّلَ بها وعانت الأهوال من تحطيم الآلات الموسيقيَّة وحلاقة شعر أغلبيَّتهم، بل أنَّ بعضهم من العازفين الموسيقيين قد كُسِّرت أيديهم! ورسَّامين حُطِّمت لوحاتهم وأحرِقت أعمالٌ عظيمةٌ في ذلك اليوم. نعم، هذه الأشياء ستظلّ تافهةً أمام الأرواح التي أُزهِقت، الشهداء، لستُ أدري كيف سنستطيع أن نكتبُ عن هؤلاء؟ فعلاً لا خيال لي لتصوِّر ذلك. على كلٍّ، سأُعفي نفسي الآن من هذا العبء للدخول إلى تنقيبنا. سأعتمد هنا على حكمة المتحدِّث الرسمي باسم المجلس العسكري، الفريق شمس الدين كباشي، إذ قال، بكل بساطة: "ما حدث قد حدث، ونحن نأسف لذلك". حديثي الماضي مبتور، نعلم جميعاً أن المتحدث ترحَّم على أرواح الشهداء بعد ذلك، ووعد بأن يقتصَّ من الجناة، وما تلى ذلك، جميعنا نعلم! نعم، ولكن دعونا نستمع الآن، بالذات، للروائي جوزيه ساراماغو قبل سنوات قليلة، من قبل رحيله، في آخر أعماله (قابيل)*: [إن البكاء على الحليب المسفوح لا طائل من ورائه كما دأب الناس على القول، إنه بشكلٍ من الأشكال شيءٌ مُنَوِّر لأنه يُظهِر المعيار الحقيقي لتفاهةِ سلوكٍ إنسانيٍّ مُعيَّن؛ لأنه إذا انسكبَ الحليب، لقد انسكب وكل ما يُمكنك أن تفعله هوَ أن تُنظِّفه، وإذا كان هابيل قد مات ميتةً شنيعةً فلأنَّ أحداً ما أَخَذَ حَيَاتَهُ].

التفكير الإيجابي:
هنا سنأتي إلى هذه المعضلة، ليس علينا الآن، فعلاً، البكاء على الدمِ المسفوك، علينا أن نُكمل تتويجه بانتصاره الحَتمي. لقد فُرِضَ الواقع علينا، كمواطنين سودانيين من جميع الفئات، من قِبل سلطة "الأمر الواقع"، بأن تسمع، باستمرار، تصريحات من قبيل: "لن يُفضَّ الاعتصام" بصورة مُتكرِّرة أثبتت ريبتها عقب ما حدث، بل أَلجَمَتنا المأساة، وتمكَّنت من أعصابنا. أسمع الكثير من الحديث السلبي والاستسلام بينما أتحدث لكثيرٍ من الناس، وتلك الجملة المهينة لدماء الشهداء عندما ينطقها أحدهم ويقول: الثورة اختُطِفَت، وأن الثورة المضادّة انتصرت. هوي ها، ثورةٌ كهذه لن يكون النصرُ، غصباً عنّو، إلا نصيراً لها.

(3)
حفرُ هذا الخندق يدعونا للتفكير في الكثير من الأمور. أغلبها مكتبسات، بل إنها انتصارات من داخل تخطيطات الطرف الآخر، وعندما نقول الطرف الآخر فإننا نعني ما أجمع الناس على إدانته: قتل المعتصمين السلميين.

(4)
الخندقُ حربيّ: لقد حفرت الثورة السودانيَّة حدَّاً فاصلاً ما بين الموت والحياة الحُرَّة في يوم المأساة ذاك، ثورةٌ لن يُمثِّلها أحدٌ غير الجماهير بوصولها لساحة القيادة بعد ستة أشهرٍ من القمع والقتل والسحل، وبعد وصولها قُتِلت في ذات ساحة الحريَّة التي ظنّتها أمانا.

(5)
نأتي إلى تفصيل الإيجابيات التي أفرزها انقطاع الانترنت من السودان، وهو مسارٌ لهذا التنقيب، إذ أن التفكير بإيجابيَّة للسير، بتؤدة وغضب، في طريق هذه الثورة الظافرة، يستدعي أن نُفكِّر في الآليات المقبلة، وطريقة العمل، والتفاصيل المُمِلَّة جدَّاً للكيفيَّة التي سنصل بها، بلا شكٍّ، إلى مُبتغى شعوب الأنهار والصحارى والغابات والجبال والبحار، شعوب السودان، في ثورتها. علينا أن نكفَّ حالاً الانكفاء على الدم المسكوب من تحتنا، والشعور بالإحباط وانعواج الوجوه وهي تقول: الثورة اختُطِفت. في الحقيقة، الثورة قد بدأت لتوِّها.

فوائد انقطاع الانترنت:
(أ)
أندية الأحياء، هذا هو مفتاح الثورة المقبلة. قبل شهور كنتُ أحلمُ –وأيام الاعتصام تلك كانت حلماً جميلاً نامياً ومُستمرَّاً – وكتبت عن مرحلة ما بعد الاعتصام، كتبت عن شهيّتنا المفتوحة للدور الذي ستلعبه أندية الأحياء من تغييرٍ فكريٍّ مرتبطٍ بالحرية والعدل والمساواة، تغييرٍ يأتي بعد الحريَّة؛ إن أَرِدنا نقرأ شعار الحريَّة والتغيير بطريقةٍ صحيحة، أي واقعيَّاً، أن الحريَّة قد انتُزِعت، ولن يستطيع، كائناً من كان، أن يحرمها من الشعب الثائر. إن الشعور بالحرية بعد كل هذه السنوات من انعدامها أمرٌ يَخلع، ويحتاج إلى أزمنة لامتصاص صدمة الحريّة الحضارية، وقد كانت أسابيع الاعتصام هي المتنفّس ومركز التدريب الذي تعلَّمنا فيه جميعاً معنى الشعور بالحريّة، قل الحقّ في الحريّة، وبذلك، لا يمكن التنازل عن هذا السقف الذي بلغناه، لننتقل، بعد انجاز الحريّة، إلى انجاز التغيير الذي ظللنا نقول أن أمده سيكون طويلاً وعسيراً. اليوم لنا الحق في كتابةِ ما نريد أن نكتبه دون أيّ رقيبٍ سوى مسؤوليتنا الشخصيَّة والفرديَّة على حريّتنا وحريَّة الآخرين. أتحدث من موقعي، شاعراً، كاتباً ومحرراً ثقافيَّاً. قد كان انقطاع سلطة الفضاء الانترنتيَّة فرصة ذهبيَّة بسجودنا مرةً أخرى، نقبِّلُ الأرض بجباهنا وقلوبنا، نعودُ إليها ببركةٍ عجيبةٍ أصدرها قرارٌ تعسفيٍّ كما يحدث عادةً في لحظاتٍ تاريخيَّةٍ فارقةٍ كهذه.

حول أندية الأحياء كتبت نشرت يوم الجمعة 6 أبريل، على صفحات هذا الممر، مقالاً بعنوان (البيت الذي بناه الثوّار)، جاء فيه تفصيلاً لهذا الخصوص، وقد عفانا انقطاع الإنترنت من الدعوة لتطبيقها فقد حدثت تلقائياً: [أقول، في اليوم السابق لبيان الجيش الأوّل، ولحظة دخولي الاعتصام ليلاً، وجدت نفسي في وسط عرضٍ ممتَّد من أشكال الفنون المُتجذِّرة، الراسخة على الأرض، على امتداد شوارع القيادة جميعها. هذا يعني، بالتالي، الانتصار الأوّل؛ إذ أن هذا الازدهار يَقول أن الثوَّار استعادوا الشوارع جميعها، كجزءٍ من حقوقهم الأصيلة، واستخدامها بأريحيَّة وكحقٍّ طبيعي وبسيط لكل إنسانٍ من بقيّة الحقوق الطبيعيَّة والبسيطة الهائلة التي عشنا حرمانها طوال حياتنا، وتُبهِرنا عندما نعيشها في أيّ دولةٍ مجاورةٍ لدولتنا، كأننا خارجين من أقفاصٍ في حديقة حيوانٍ هائلة. أعتقد أن الحراك الثقافي والفكري، بما شاهدته وأنقله في هذا التنقيب المَشهَدي، سيمتد إلى الشوارع جميعها في السنوات المقبلة، سيكونُ قاسياً في البداية حسبما نُشاهد من غبنٍ مُتراكم في النفوس، لكنّه سرعان ما سيتّخذ اتجاهاتٍ مُختلفة ومُتفرِّدة لم يخفت صوتها طوال عقود وجود السودان، ولكنّه، مع انتزاع الحريَّة والشوارع، وتباعاً، وبشكلٍ طبيعي، أندية الأحياء وإثراء البيئة الرياضيَّة وانتزاعها من براثن السوق الرياضي الحر هذا. الكثير من العمل يبدو أنه سيُنجَز بواسطة من نراهم في الميادين اليوم، وما يقدّمونه يوميّاً من اختلافاتٍ خلاَّقةٍ مُتسارعة كالبروق المتتابعة، وسيُنجزونها بطُرقٍ سوف تُبهرنا، ستشلّ تعبيرنا، ولسوف تصدمنا كذلك صَدماً شديداً، وهذه هي ميزة الحريَّات الطبيعيَّة، وهي صورةٌ عاديّة من صور الطبيعة الكثيرة الصادمة].

(ب)
إن المنصة التي عملت من خلالها القوى الثورة لتنظيم الحراك منذ ديسمبر كانت صفحة تجمع المهنيين، ولا منفذ سواها، حتى القناة الفضائية فهي متأخرة جداً ولا تفي بأي غرض. على أرض الواقع توجد التنظيمات والأحزاب التي لم تتوقف عن منازلة نظام الإنقاذ ولها تأثير، وإن كان محدوداً في بعض الأحيان، على الجماهير، وعلى عضويتها. إن انقطاع خيط العنكبوت وسقوط الفريسة مشبّكةً وملبّكةً به، لا تجد عنه فكاكاً بسهولة، يضع خبرة الفكاك والالتحام مرةً أخرى مع الواقع كدرع حمايةٍ من التفكك والسقوط في الفخاخ. أعني، بصورة أوضح، أن الخبرة التي ستكتسبها التنظيمات في بناء القواعد وجهاً لوجه مع الجماهير هي فرصة سماويّة في مناخ توحدت فيه كلمة الناس، وبذلك تنتفي، واقعياً وفعلياً، نظريات الاتهام حول ما إذا كانت جميع هذه التنظيمات هلامية وغير موجودة في الواقع.

إذاً، سيتحوّل قادة الحراك الثوري من كائنات طيفيّة بلّورية شفافة، تظهر من حينٍ لآخر في منصة الاعتصام الرئيسيّة المُحتشدة أصلاً؛ سيتحولون إلى كائنات من لحم ودم، لن يُهتف لها فقط، بل ستتم مساءلتها في كل شيء.

(ج)
في خاطري ما دعوت له من قبل من اقتراحات لتقليل سيطرة التكنولوجيا والحياة في الواقع والاستمتاع به، ولكن بتوازن، حيث لا نفقد اتصالنا بالفضاء، ولا نفقد، كذلك، وجودنا الواقعي كأجسامٍ صلبة. كتبت في هذه الصحيفة عموداً بعنوان (كيفيّة قمع الشبكة) أقتبس منه مقطعين:
[يدور الحديث حول وجهات نظر مُختلفة ومتباينة حول هذا الموضوع، أعني ما يسمونه "سيطرة التكنولوجيا" على الحياة البشريّة. هنالك من قاوموه بأنفةٍ واستنكار، فقطعوا جميع الأسلاك التي تربطهم بذلك [العالم الجديد/القديم] الذي لا زال يتبلور، في جهةٍ غامضةٍ من الفضاء المحيط بنا، عالمٌ كأنه يقترب بخجلٍ وسفالةٍ من "العالم الآخر"، ولكنه لم يبلغه بكل تأكيد. هنالك من ارتضى وسلّم نفسه لعبوديّة ذاك العالم بتواضعٍ ومحبّة، وهنالك من يحاول أن يجد مكاناً بين المنزلتين.

أنتمي للأخير، كما ترون، ولكني لا أستطيع أن أخفي سعادتي بكلّ انقاطعٍ ينتج عن حادثٍ ما: سرقة أجهزتك، ضياع هاتفك، أشياء من هذا القبيل. إنني أؤخر، قدر الإمكان، من إمكانيّة الوقوع في شرك هاتفٍ ذكيٍّ آخر، أو حتّى موبايل عادي. إنها كالإجازة تماماً، رغم أنك لا تزال تذهب إلى العمل يوميّاً. حُرّاً ومعافى. وجدت أنه لا مناص من الانغماس في العالم الجديد، ولكن يجب أن تجد طريقةً، بأي حالٍ من الأحوال، لأن يكون جلّ يومك في الواقع، والتقليل، قدر الإمكان، من تدخل الآخر فيه].

(....)
[في الماضي (ليس بـ(البعيد) بلُغَة عصرنا الماضي، والسحيق بلغة العالم الجديد) كان الكتاب في يدك يحوّلك كائناً فضائيّاً في المواصلات العامّة؛ هنالك رجال ونساء يرمقونك بفخر وأنت تهمّ بالنزول، هنالك من ينظر إليك كـ(كافر) عديل، هنالك من يمقتُ الحياة، هنالك من يسألك: إنتَ ممتحن؟!. اليوم تغيّر الوضع تماماً، بدأت الأجيال الجديدة خالص تهتمّ بالقراءة، وازدهر سوق الكتب فعلاً. كنتُ عندما أقف في زاوية المحطّة الوسطى بحري بجانب موقف باصات خط: (الشهداء - بحري)، حيث يفرش الأساتذة فيصل وكابيلا كتبهم منذ فجر تاريخي الشخصيّ؛ كنت أجد نفسي مع حفنةٍ من الناس، وغالباً ما نتعارف؛ اليوم أصبح عليّ أن أقف على أصابع أقدامي لألوّح لفيصل!. هذا لا يعني أنك ستجد في الحافلة كمّاً من قراء الكتب، لا تزال الأغلبية الساحقة اليوم تنظر في الشاشات.

(....)
إنه لممتع أن تكون قاسياً بعض الشيء في تعاملك مع (الرابط الذكي)، والذي يجدُ دائماً أنجع الطرق والحِيل [تشترك في ذلك شركات الاتصالات بنقّتهم المستمرّة حول: أسمع، الانترنت قطع، أمشي جيب رصيد تعال أشحن] لربطك به قدر الإمكان. ولكنه كان مهذباً كفايةً ليترك لك الخيار في النهاية. هل قلت يترك لك الخيار؟ أنا جنّيت؟ يا زول أنتَ في يدك الخيار دائماً، وإنك لقادرٌ على فعل ما يحلو لكَ وقتما تريد. دعهم يملأون شوارعنا بصورهم التافهة وإعلاناتهم الفجّة، ولكنهم لن ينزعوا منك الخيار ولن يغتالوا يومك!].

(6)
يبدو أن لا خيار سوى المضي إلى الأمام، وتبقى حادثة فضّ الاعتصام المأساوية خندقاً فاصلاً في تاريخ السودان، يتمايز من بعده الصديق والعدو، وستتساقط الكثير من القشور في مراحل تسلّق تربته القاسية وصخوره الناتئة، للخروج منه ومواصلة الركض. التحيّة لكل المتاريس التي تواجه الثورة والثوار، "فإن الذي لا يقتلهم يزيدهم قوّة"، وإن الذي يقتلهم يزيدُ الأحياء منهم تصميماً وصلابة. أقول، إن انقطاع الانترنت مثّل، من زاويتي، الحدث الإيجابي الأعظم تأثيراً على الثورة، والبناء الهُمام لقواعدها في كلّ الأركان الخفيّة والبائنة.

وأحيل أطراف الأزمة في هذه السانحة إلى ما كتبه الروائي العبقري غوغول، في أربعينيات القرن التاسع عشر، كخاتمة لهذا التنقيب المؤلم: [في المدونات العالمية لتاريخ البشريَّة الكثير من القرون الكاملة التي يبدو شطبها ومحوها ممكنين، لأنها غير ضروريَّة. فهناك الكثير من الضلالات في العالم تبدو الآن لا يمكن أن يقوم بها حتَّى الطفل؛ فكم من الطرق المعوجة المسدودة الضيقة، المنيعة المنحرفة بعيداً اختارتها الإنسانيَّة في سعيها للوصول إلى الحقيقة الأزليَّة، بينما كان مفتوحاً الطريق المستقيم، كالطريق المؤدي إلى هيكلٍ عظيمٍ مخصَّصٌ أن يكون مقرَّاً لقيصر! فهو أوسع الطرق، وأفخرها، مُنوَّر بالشمس ومضاء طوال الليل بالأنوار، ولكنَّ الناس تجاوَزته، وسارت في الظلام الدامس. وكم من مرَّة، وحتى بعد أن تزودوا بالرسالة المنزَّلة من السماء، زاغوا وانحرفوا سواء السبيل، ووقعوا من جديد، وفي وضح النهار، في مغاراتٍ نائيةٍ مسدودة، وأنزلوا من جديد غشاءً أعمى على عيون بعضهم البعض، منجذبين إلى السراب الخادع، ووصلوا إلى حافّة الهاوية، ليسأل بعضهم بعضاً في ما بعد: أين المخرج، أين الطريق؟ إن الجيل الحالي يرى كل شيءٍ بوضوح، وتدهشه الضلالات، ويضحك من سخافات سلفه، ولا يرى أن تُلهِب النار السماويَّة تلك المدونة التاريخيَّة، ليصرخ كلّ حرفٍ فيها وليشار إليه بالبنان من كل مكانٍ، يُشار إليه، إلى الجيل الحالي، ولكن الجيل الحالي يضحك ويبدأ بثقة نفس واعتداد في سلسلة من الضلالات الجديدة، سيضحك منها الخلف أيضاً فيما بعد].

(7)
هامش شعري: أصالةُ الخيل في الانحراف
----
أفرزَت الخيلُ أنخابها في السِباق،
وأشرقت الروحُ في انحرافِ المسيرِ المُخيف.
انطلَقَت حاجةُ الخوفِ نحو السياج،
وأَمْسَكتِ القلبَ من ياقَتِهْ،
ألصقتِ النبضَ ضدَّ الحديد؛
فمن دَمِهِ خَلَقت شجراً،
وزاحَمَتِ النار في ما تُريد.
أفرزت الخيلُ أنخابها في السباق،
وفاز الذي كان مُنْتَحِباً، دائماً،
صوبَ حلمٍ جديد.
---
28 ديسمبر 2018

ــــــــ
نُشر بملف (الممر) الثقافي بصحيفة السوداني، الجمعة 21 يونيو 2019م
///////////////////
////////////////

 

آراء