الذكرى الرابعة والتسعين لميلاد أستاذنا عبد الخالق محجوب (٢٣ سبتمبر ١٩٢٧): نصيرة ست الجبل (٢) 

 


 

 

(فصل من سيرة أستاذنا عبد الخالق محجوب بعنوان "الزول الوسيم").

جلس عبد الخالق الطفل في سن السابعة عند قدمي حبوبته آمنة بت علي فور التي جاءت من بيتها بحي العرب بأم درمان لتبيت في بيت ابنها محجوب في حي السيد المكي. وكانت تعرف ما سيطلبها منها وهو أن تحكي له حكاية نصير ست الجبل.

 ووصلاً لما انقطع نقول إن مزارعاً من حلة البركل، منشأ أسرة عبد الخالق قبل هجرتها لأم درمان في العقد الثاني من القرن العشرين، تزوج من نصيرة ست الجبل، جبل البركل. وكان المزارع لبد يوماً ليقبض على من يسرق قمحه من البرازة. فوجد أنها نصيرة التي تتسلل من مأواها داخل الجبل لتختلس بعض العيش لأولادها. فراعه جمالها وأصر على الزواج منها.  وأسلمت نصيرة وانصرفت للعناية بضريح ود الكرسني. وكان يعجب عبد الخالق من الحكايه الدخان الذي يصعد من مبخر نصيرة فينفتح الجبل كرب كرب كرب. ونواصل

 ناس البلد قالو لنصيرة خدمتك لأبونا الكرسني دا شيتن جديد واللا حارسك من أهلك. قالتلهم: ويكا ويكا ويكا. الناس ما فهمت كلامها. كلام عجم واحد. لكنها أول مرة يسمع الناس منها الكلام العجمي دا. وسألهوها يا نصيرة ست الجبل مالك؟

قالتلهم: إنتو ود الكرسني وكت داير تدفنو فوق من الجبل حصل شنو؟

-طار بعنقريبو وحلق فوقنا حلق وحلق وحلق وبالراحة نزل في محل مدفون دا. الجبل ذاتو اسع بنقولو جبل ود الكرسني.

عبد الخالق: طار يا يمة آمنة.

-أي طار. الطيران الواحد دا. مقسمة بابوي علي ود فور يا ود محجوب ولدي تسعلني تاني إلا نصير ست الجبل دي حرمانه عليك ليوم القيامة. الود اب خشمن كتير ألا جابدنو ناس باهقيل

وهنا تدخلت أم النصر بت باهقيل والدة عبد الخالق:

-أيا يا أمي آمنة حنكاب يناطقو الباشا.

-حنكاب أولى. مناطقتهم القمحتهم واللا شيتاً كتر.

وضحكتا معاً. فالمطاعنة بالأصول في البلد روتين بينهما.

-أها عنقريب ود الكرسني طار يا المسخوت. وقالت نصيرة للناس أها وما سمعتو التهاليل:

يا ود الكرسني يا راجل البركل

يا قايم الليل ما بتكسل

يا كاب الناس الهمل

أيدك تسلم ما تنشل

الناس: لا ما سمعنا شيء. حفرنالو ودفناه.

-أها ديل نحنا ناس الجبل ناديناهو يسكن جوارنا.

أها يوم من الأيام والخدم بيضرن في عيش راجلها يشوفوليك نصرة ست الجبل واقفهم فوقهم. ويشوفوها ليك تنط من هنا تلقطلها فتات قمحاية. من هنا تنط، من هناك تلقطها حبة تانية وتالتة. وتكومن كوم كوم. الناس اندهشت في فعلها دا. راجلها ما شاء الله غنيان المطامير مليانة وهي تلقط في كسار القمح. نصيرة إلا جنت. راجلها كلموهو جا من هناك يزبد ويرغي:

-يا نصيرة تفضحينا وسط القبيلة. القموح والعيوش في بطن البيت لا حد لا عد تجي تسوي سواتك دي. إنت ما نصيحة. مالك.

عاينتلو طويل في عينو طويييل. وقالت ليهو. تصلي العشا تجيني قدام الجبل. وانشغل الراجل بكلامها دا ويفكر كتير. يا ربي نصيرة دايرة توريني شنو. وقوام صلى الفريضة والنوافل ما حرسها وجا الجبل لقاها تضوي زي الرتينة واقفة:

-أها أرح.

ومرقتلها مبخر عليهو جمر ورمت فيه أعواد ريحة. ريحتن زكية ضربت المكان. يا ها الريحة الشماها الراجل أول مرة. الدخان طلع واتلولو عالي عالي فوق الجبل . وتسمع دو دو دو ويظهر باب في الجبل من مافيش كرك كرك كرك ينفتح.

عبد الخالق: بالدخان بس يا أمي آمنة؟

-أها دي البتريدها يا المسخوت. وساقتو جو الجبل. الراجل عيونو انجهرن. ومحل ما عينو تقع تقع فوق ضهب. وهو فاتح خشمو من الدهشة. أول ما دخلو هوى كلب هو ذاتو من الضهب. دا الحارسو، دا الكلب الحارس الضهب. ههوهوتو كترت. وجاء على الراجل. الرجل دخلو خوف. وقبل ما كلب الضهب يصلو نصيرة قالت للكلب:

-تأدب يا جرقاس. دا ضيف نصيرة.

كلب الضهب لوا ضنبو ورجع. مشوا قدام شوية نبل دبيب لا ليهو أول لا ليهو آخر وهسّ في وش الراجل. الراجل اترعب وما عرف يقبل وين: فقالت نصيرة للدبيب:

-كرنداش هش هاش.

فاتذاخر الدقر براحه من الراجل. ونصيرة قالت ليهو:

-دا من دبايب العجم معين لحراسة الضهب دا.

الراجل محل ما عينو تقع ضهب ضهب ضهب. عاين لساقية من ضهب. تيرانا من ضهب. التكم من دهب.  الولد السايقها من ضهب. والله قالو يا ولدي الموية شافها صابا من القادوس للدروة ضهب زي الموج. الشدر ضهب. الزرع ضهب. البيوت ضهب. الميضنة اللت الجامع ضهب. الناس الماشه ضهب.

وجابتو نصيرة راجع. وطلعت المبخر رمت فيه عود ريحة. باب الجبل فتح كر كر كر. ولما طلعت معاهو قالت ليهو:

-أنا بلقط في كسار الحب عشان الضهب الشفتو. أنت استنكرت تلقيطي الكسار لكن لو لقينا الكسار دا أهلى ما كانوا ماتو بالمجاعة وبقوا ضهب. أهلنا قالو "لو كِلنا الكيل بالكيل ما متنا بالميل". يعني يا ولدي لو كالو قيراط الضهب بقيراط العيش كانو عاشو.

أها ساقت الراجل لبره الرجل. قالها النمشي البيت طيب. قالت ليهو:

-لا. أنا راجعه الجبل. إنت زعلتني واتفاقنا إن زعلتني نفترق ليوم الله. ولفت ومشت عديل جو الجبل. ونفخت في المبخر والباب كر كر قفل. وطارت لأعلى الجبل وركت علي جنبو. واندمجت فيهو بقت تمثال لهسع لو مشيت البلد تشوفو.

عبد الخالق: أنا ما قلت ليك تسوقيني توريني البلد.

-البلد أنا ختيتلها الختا. إن كان عندك جبل كركرو في أم درمانك دي.

وضلى راجلها به يبكي من حرقة حشاها عليها. ولما فقدوه الناس في الصباح جو لقوهو ميت.



IbrahimA@missouri.edu

 

آراء