الرئيس التنزاني وتراشقات بين الإنصاف والإجحاف.!*

 


 

 

 

كانت تنزانيا هي المحطة الأولى في خدمتي الدبلوماسية في مطلع الأعوام السبعينات من القرن الماضي. وكانت عاصمتها دار السلام وقتها لؤلؤة ساطعة في سماء إفريقيا والعالم الثالث ، بوصفها دارا للفكر السياسي المكافح للاستعمار والعنصرية ، ومقرا نشطا للامانة العامة للجنة التحرير الإفريقية. وفوق ذلك كله ، كان على قمة هرمها السياسي والحكومي، المعلم جوليوس نيريري ، وهو بكل عنفوانه الفكري وطاقته السياسية المشعة بالامل والعمل ، يضع تنزانيا في مركز القيادة للقارة الإفريقية التي كانت تضع لبنات وملامح شخصيتها الجديدة، إفتكاكا من إسار الإستعمار الأوربي والنظم العنصرية ، وانطلاقا على درب التحرر والتنمية والمساهمة في بناء عالم كان الجميع يحلم به ، وإن كانت تلك الأحلام ، بعد مضي عقود عليها ، قد تبخرت بسبب عوامل إفريقية ودولية ، ما زالت تعوق إنطلاقة المارد الإفريقي ، على خلاف ما أراد له الآباء المؤسسون للحركة السياسية الحديثة مثل جوليوس نيريري وكوامي نكروما وجمال عبد الناصر وإدواردو موندلاني وسامورا ماشيل وأوغستينو نيتو وغيرهم .

لكل هذه الخلفية الموضوعية، ولاسباب ترتبط بتفاعلات كل إنسان مع تجاربه الأولي ، ظلت تنزانيا في خاطري ووجداني، ولم أنقطع عن متابعة ما يجري فيها من تطورات سياسية واقتصادية وثقافية، وكنت جد سعيد بأن أفرد صفحات في كتابي " محطات دبلوماسية" عن تجربتي في تنزانيا .
اليوم وأنا أتحدث عن تنزانيا، لا أتحدث عن تنزانيا الماضي ، ولكنني أتحدث عن تنزانيا الحاضر التي ، هي الأخري ، تصطرع فيها أمواج سياسية متلاحقة ، لا يمكن فصلها عن الماضي، ولكن لا بد من النظر إليها بأنها حركة ديناميكية لتشكيل الحاضر وصياغة المستقبل، في بلد لا يستمد أهمية ما يدور فيه لذاته، ولكن لبلدان جواره وربما لبلدان إفريقية أخرى تبعد مسافات شاسعة ،غير أنها تقرب تلاقحا بين التجارب المتبادلة في القارة الواحدة .
الحديث هنا عن تنزانيا في ظل حكم الرئيس المنتخب جون ماقوفولي الذي تولى السلطة ديمقراطيا في نوفمير عام 2015 ، لفترة رئاسية لخمس سنوات، يمكن تجديدها مرة واحدة . وفي تنزانيا يظل الدستور في هذا الشرط صارما ويلتزم به الرؤساء الذين تعاقبوا على السلطة ، ولا مجال فيه للتدليس أو التعديل أو غير ذلك من ألاعيب الساسة الأفارقة الذين آلوا على أنفسهم أن يظلوا في الرئاسة مدى الحياة!! . فمنذ عام 1985 ، انتخب الرئيس علي حسن مويني لدورتين (1985-1995 )، ثم تلاه الرئيس بنجامين مكابا لدورتين أيضا (1995-2005) وجاء بعده الرئيس جاكايا كيكويتي لفترتين رئاسيتين (2005-2015) وهكذا دواليك. وذلك أمر يحمد للنظام السياسي في تنزانيا . والرئيس الحالي لديه خلفية أكاديمية وعلمية ، وبرغم ممارسته للسياسة لعقدين من الزمان أو أكثر إلا أنه إكتسب شهرة في محاربته الجادة للفساد . وعندما كان وزيرا ، ومنهمكا بجدية وإخلاص في بناء الطرق الجديدة، أطلقوا عليه لقب " البلدوزر" أو إن شئت فقل (الرجل الكاسح ) وبعد توليه الرئاسة ظلت الإستعارة مرتبطة باللقب بوصفه كاسحا للفساد والمفسدين على حد سواء.
والرئيس ماقوفولي، ضرب مثلا لم نراه في الحكام الأفارقة المعاصرين، وهو إنخراطه في حملة كاسحة ضد الفساد الإداري والمالي في بلاده. فبعد إنتخابه باسابيع قليلة، شن حملته المنظمة على الكثير من مظاهر الفساد في الدولة. وأطاح بموظفين كبار متهمين بالفساد ، وحظر الكثير من الأسفار والإمتيازات التي أسئ استخدامها بواسطة موظفي الدولة ( وفود تسافر لغير فائدة وتستنزف الدولارات العزيزة من مال الشعب الفقير) ، وحظر الإنفاق على كثير من البنود في ميزانية الوزارات والمؤسسات الحكومية ، مثل الإحتفالات والمهرجانات ، كما أنه أمر بالاستغناء عن خدمات حوالي عشرة آلاف من الموظفين عديمي المؤهلات والذين يتقاضون مرتبات وامتيازات لا مبرر لها، في إطار خفض الإنفاق الحكومي. ثم التفت الى الشركات الخارقة للقانون والمتهربة من دفع الضرائب المستحقة للدولة ، لتدفع ما عليها من ضرائب بأثر رجعي.
أوضح الرئيس للجميع أنه يضرب المثل في حملته على الفساد، خاصة إذا علمنا بان تنزانيا إحتلت المركز 116 في قائمة الفساد من أصل 176 دولة في رصد المنظمة الدولية للشفافية. وقد جاءت حملة كنس الفساد هذه ‘ بالنظر إلى إنتشار الفقر في البلاد ، برغم معدلات النمو للناتج المحلي التي بلغت أكثر من 6% بين أعوام 2002 و2017 ، مع العلم بان عدد سكان تنزانيا يبلغ 58 مليون نسمة حسب آخر تقديرات الأمم المتحدة وتذهب بعض التقديرات أن ثلثي السكان يعيشون تحت خط الفقر . في ظل هذا الأوضاع، كانت حملة الرئيس التنزاني على الفساد في بدايتها محل ترحيب من دوائر كثيرة في الداخل والخارج. وكانت بداية الحملة لا هوادة فيها على المطففين والفاسدين والمرتشين والجالسين على نواصي الدولة دون مبرر أو قدرة على العمل أو الإنتاج. ولعل القاعدة الأساسية التي بنيت عليها حملة محاربة الفساد في تنزانيا هذه، أن الأمر بلغ شأوا بعيدا لا يمكن التعايش معه، أو التعامل معه بالطرق التقليدية . وذلك لان الفساد المالي والإداري أصبح ضاربا في أعماق نخاع عظام الدولة ومفاصلها ، ولم يعد هناك من مجال لأسلوب الجعجعة والمداهنة والإنكار، لأن الفساد بطبيعته وحش كاسر وله خصائص سرطانية مدمرة للاقتصاد وللإنسان ولكل مقدرات المجتمع ومكوناته . ويقيني أن أخطر نتائج الفساد أنه يشوه الإنسان ويدمر شخصيته ويجعله مخلوقا مضادا للنظم والقوانين والعدالة والمساواة في المجتمع. ولم يبالغ عبد الرحمن بن خلدون عندما قال بأن "الفساد مؤذن بخراب الدولة". باعتبار أن الفساد هو من أهم مسببات انهيار الدولة .
وللوهلة الأولى ، قد يثور السؤال البدهي ، هل هناك من يعترض على مثل هذه الحملة على الفساد داخل تنزانيا أو خارجها ؟ وتأتي الإجابة البدهية هنا ، بأن لا أحد سيعارض هذه الحملة. غير أن الواقع أعطانا إجابة لا تتسم بالبساطة ولا تخلو من التعقيد في ذات الوقت. والأمر الواقع أمام أعيننا، أن هناك من الدوائر في الداخل التي انتقدت الحملة في ممارساتها ، برغم أنها لم تجرؤ على انتقاد المبدأ. أو ربما هناك من المنتقدين أو المعارضين في الداخل الذين غرقوا في وحل الفساد واستمرؤا الأمر وأرادوه أن يظل نهجا مستمرا في الحياة. كذلك فإن هناك دوائر أجنبية، منها دول تقدم المنح والعون التنموي لتنزانيا ، أبدت تحفظات على الأسلوب وليس على المبدء ، باعتبار أن الأسلوب المتبع ، في نظرها، يفتقر إلى إعمال متطلبات حكم القانون وإجراءاته، وتنتقد ما صحب ذلك من سياسات اعتبرتها هذه الدول منفرة للمستثمرين والمانحين ، ومثيرة لانتقادات منظمات تختص بحقوق الإنسان والحريات.
ومن أمثلة ما ذكرناه في هذا الصدد، العنوان المثير الذي أوردته مجلة "إيكونوميست" الأسبوعية في غلاف عددها بتاريخ 17 مارس 2018 ":كيف يمكن إنقاذ تنزانيا؟ " وأجابت بأن ذلك يبدأ باحتواء رئيسها . وخلصت المجلة إلى أن " الرئيس ماقوفولي ذي الممارسات الاوتوقراطية والجامحة ...يهدد بازالة كل المنجزات التي حققتها تنزانيا في العقود الأخيرة . وعلى إفريقيا ودول العالم الأخرى ألا تسكت عن هذه الممارسات". ولا شك أن ما ورد في المجلة لا يعبر عن موقفها وحدها ولكنه أيضا ينسحب على مواقف جهات أخرى داخل تنزانيا وخارجها. ويحضرني هنا تساؤل آخر وهو يتعلق بموقف الدول والمنظمات المانحة التي ظلت تشكو من تغلغل الفساد في تنزانيا وفي دول إفريقية أخرى. وتشجع القائمين على الأمر على التخلص منه. وهي تأتي اليوم ، إن لم تكن كلها فبعضها ، لتعترض على ممارسات سلطوية ضد الفساد؟ . ويمكن للتساؤل أن يمضي لأبعد من ذلك: ماذا سيكون مصير الحملة ضد الفساد إذا ما توقفت في تنزانيا..؟. وما هو أثر ذلك على الساحة السياسية الإفريقية في مجملها ؟.
تلك تساؤلات مشروعة، وينبغي على المعنيين في تنزانيا وعلى المهتمين بالشأن التنزاني في إفريقيا وخارجها أن يتأملوا في مقاصدها ونتائجها، بهدف عدم إفلات غول الفساد من المصيدة، لأنه بانفلاته هذه المرة سيقوى أضعاف المرات وتتضاءل فرص القضاء عليه إلى أقصى درجة ممكنة.
الفساد ( المالي والإداري) ظاهرة ، كما نعلم كلنا، ليست قاصرة على إفريقيا وحدها. وهي تطل برأسها القبيح في شتى أنحاء العالم . غير أن الفقر الذي تعاني منه مئات الملايين في القارة، والنهب المنظم للموارد ( مئات البلايين من الدولارات كل عام) يجعل الظاهرة أكثر فداحة وأكثر إلحاحا وأكبر ضررا في كل مناحي الحياة. ولن ينجح أي نظام سياسي في أي بلد إفريقي في خضم هذا السيل الغامر من الفساد الذي نراه في كل المجالات . وقد تفاقم الأمر في قارتنا إلى درجة الإنتشار المريع لنظم كليبطوقراطية تقوم أساسا على الفساد في المال والإدارة ( وهي تكرس له وتحميه وتنكره) مما جعل مهمة التعامل مع هذه الأنظمة مهمة شاقة ومعقدة بشكل غير مسبوق. ولا يفوتنا أن نذكر، ليس من قبيل التبرير، ولكن على سبيل التقرير ، أن الفساد لم يعد ظاهرة وطنية داخل حدود دولة ما، لكنه أصبح أيضا في صفقاته ومعاملاته الكبرى، في عديد من الحالات ، ظاهرة عابرة للحدود والقارات. وهذا بالطبع لا يعفي أو يخفف من مسئولية السلطات الوطنية من النأي عن ممارسات الفساد المالي والإداري، وضرورة العمل على مكافحته واستئصاله.
وبالنظر إلى معضلة الفساد المالي والإداري في السودان، فهناك الكثير من الحديث، ولكن ليس هناك من العمل ما يتماشى وحجم هذه المعضلة. لأن مكافحة الفساد، تحتاج إلى جهد مخلص ومنتظم ، ينأى عن المواراة والمجاملة . ولعل من الضرورى أن ينظر إلى هذا الأمر بأنه أمر يفرض المعالجة الإستراتيجية الشاملة باعتبار أنه مهدد ماحق لكيان الدولة. ويجدر بي أن أشير في هذا الصدد إلى مقال رصين ومفيد، نشره الأستاذ نبيل أديب المحامي بتاريخ الثاني من أبريل (سودانايل ) أكد فيه على ضرورة تكامل الأطر القانونية والإرادة السياسية كشرطين ضروريين لمكافحة الفساد. وشدد على الأهمية القصوى للإرادة السياسية في هذا المجال وأهمية وجود الأجهزة الرقابية المستقلة ، وتلك كلها – بدون شك - مفتاح كل عمل ضد الفساد ، وغيابها لن ينشأ معه أي عمل ذي جدوى. وعلينا في السودان أن نستلهم قولة عبد الرحمن ابن خلدون آنفة الذكر ، قبل أن يصدق حدسه علينا.
ولعلي أختم بالعودة إلى الوضع في تنزانيا ، وما يجري من تراشق بين مدح منصف تارة، وقدح مجحف تارة أخرى، وباستبعاد أهل الغرض وأصحاب المرض الذين جنحوا إلى القدح من منطلق فسادهم المستفيد من البيئة الفاسدة، باستبعاد هؤلاء، دعونا أن نفترض حسن النية في بعض التراشقات الأخرى ولعلها تكون ذخيرة للرئاسة التنزانية لإعمال التمازج بين إرادتها السياسية الصادقة، والأطر القانونية التي تحقق الغرض من مكافحة الفساد والعمل على استئصاله، دونما تعويق لهذه المسيرة الحيوية .

*نقلا عن صحيفة إيلاف الأسبوعية
agubara@gmail.com

 

آراء