الزمن الثقافي والأعين المُشِعّة (1)

 


 

 

 

انتهى عصر الفئات المحدودة المُطلَّة على العالم الجديد والواقع الحديث، وذلك بأن أنشَبَت الشبكة خيوطها في الهاتف الجوّال، حُرّ الحركة؛ حاصرته وهَصَرته، تمدّدت داخله وسيطرت عليه تماماً مثلما يفعل العنكبوت، ثمَّ أصبح جزءاً من مملكتها. إن الانتقال من جهاز الكمبيوتر إلى الهاتف الذكي يُعتبر بحاله ثورةً كاملة! إذ هو انتقال في الملكيّة وتغيّر في جوهرها وبروز للفردانيّة التي تنبّأ بها هرمان هيسّه (الأفراد المنفصلون بعضهم عن بعض).

ديبَاجة خياليَّة حول (الثورة)
حول الزمن الثقافي والأعين المُشِعَّة
مأمون التلب
خطوط:
-ما يُنتج من آدابٍ وفنون في مواقع التواصل الاجتماعي يُذهل إنساناً عمل في التحرير الثقافي جاء من العالم الماضي
- سرعة التأثير الثقافي ما بين شعوب العالم قد بدأت تُنتج، حقيقةً، ثقافة عالميّة
-الأجيال اللاحقة ستأتي بالجديد وبالأمل بتحديثٍ جراحيٍّ مهم لمشاريع الدولة الديموقراطية وحقوق الإنسان التي أنتجتها الحداثة الرأسمالية الليبرالية الأوروبيّة

سرعة التأثير:
ما هو المدى الذي وصلت إليه سرعة التأثير على الثوابت الذهنيَّة على سكّان العالم -أي محرِّكات الثورة الفكريّة- في عصرنا الحالي؟ وهنا سأستبعد –ليس بصورة مطلقة بكل تأكيد- "أجيالاً" (على المستوى الشعبي وليس بحسابات صفوة فيسبوك) شَهدت التحوّل الهائل في الثورة التكنولوجيَّة الذي ألغى الزمان والمكان إلغاءً تامَّاً*، بعبارةٍ مُخفَّفة منحهما ذلك التحوُّل أسماء ومعانٍ وأبعاد جديدة وخلابة، تتداخل مع الخيال والأحلام تداخلاً كُليِّاً ومباشراً، وتطوّر، إثر علاقةٍ غراميّةٍ كهذه، الكثير من الشراسة والتمزيق والجمال والبذل والعطاء والكراهيّة والبغضاء والبخل...إلخ. هذه الأجيال الشاهدة للتحوّل يمتدّ عمرُ سكّانها على الأرض لأكثر من ثمانين عاماً، وأنا أُعتبر جزءاً منها بطبيعة الحال. ولكن، هنا أتذكّر طرفةً دارت بيني والكاتب تاج السر الملك على فيسبوك. اكتشفنا أن صداقتنا –أعمارنا الفيسبوكيّة بالأحرى- تمتدّ إلى عشر سنواتٍ في الماضي، فانخلعنا. انتبهت لحظتها أننا فعليّاً ديناصورات آيلة للزوال ليس في الحياة الواقعية فحسب، بل وهناك كذلك، على فيسبوك، دينصورات من لحمٍ ودمٍ تسيرُ وسط الطيور المتطوّرة! عشر سنواتٍ في هذا الموقع تعادل مئات السنوات الواقعيّة، إنك تعيش مع أناسٍ آخرين كثر أعماراً أخرى، مُتخيَّلة، حالمة، منافقة ومتناقضة، شهوانيّة وفاقدة لحنانٍ دائماً، عطشى تبحث عن الحب أو الحرب، لا فرق! جميعنا نعيش أعماراً هَرمة حقّاً. في الحقيقة، أصبح فيسبوك من الصفاقة بحيث يُركِّزُ وجودك في حيّزه -المتفوّق زمانيّاً- بتذكيرك بذكرياتك! نعلم جميعاً أن الأمر بيزنس إز بيزنس آز يوجوال، ولكننا نُدركُ كذلك أن المخاطرة التي تدخلها أجيال الماضي مع أجيال المُستقبل خاسرة سَلفاً؛ أي محاولة –مجرّد محاولة - تلقينهم أيّ شيء ذهنيٍّ مُتوارث، بالٍ ولا قيمةَ حقيقيّة له على أرض الواقع البائس الذي وجدوا حياتهم الغضّة تنمو بين أحراشه! أي محاولةٍ كهذه ذاهبةٌ إلى تحلُّلٍ وتفتّتٍ في الهواء عاجلاً أم آجلاً.

الجيل الرابع
لكي أوضّح الخيط الذي سنفصل به أجيال الماضي عن هذه الفرضيّة التي أريد أن أتحدّث عنها هنا، لنأتي للتعريف بما اصطلحنا على تسميته بالـ(4G)، أو لنُعربْه: "الجيل الرابع". ورغم أن التسمية شعريّة في عمقها ودلالاتها وأفكارها، إلا أنها تنطوي على طرافةٍ في ما يختص في موضوعة السرعة التي بدأنا مقالنا هذا بالسؤال عن المدى الذي وصلت إليه. ولتوضيح هذه الطرافة نحكي (بتصرّف):
[قبل عشر سنوات تقريباً، حكى لنا صديقنا أن ابنه -البالغ من العمر حينها 13 عاماً تقريباً- (حالياً شاب كبير وفنان كمان)، كان قد سأله في غمرة الجدال المشتعل السائد حينها حول: متى سوف أحصل على هاتفٍ ذكي؟ كانت المطالبة به تتم كـ"حق"، وليس رفاهيَّةً؛ حتى أن الكثير من الآباء المتزمّتين دينيّاً لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام نظرات وتساؤلات "الحق" المنطلقة من عيون وحروبات بناتهم المحبوبات لديهم؛ سأل صديقنا بعد جدلٍ حول أسعار الهواتف:
- أبوي، حسّع في زمنكم الموبايلات كانت غالية كده؟
- لأ والله، في الحقيقة في زمنّا ما كان في موبايلات.
يحكي صديقي أن ابنه ذُهل حقيقةً و(طيَّرَ عيونه) للحظةٍ، ثم فجأةً بدأ يمثّل بيديه وجسده وكأنه يمتطي حصاناً وهو يقول:
- وكان في شنو؟ ها؟ خالد ابن الوليد؟!].
العبرة من القصة تتعلّق في نظري بما هو واقعي وموجود سلَفاً، فقد كانت أجيال العالم الماضي مميزةً -إضافةً لتعاسة وجحيم واقعها - بأنها شاهدت وانبهرت بولادة منجزات الثورة التكنولوجية الرأسمالية الحديثة، يفتح الواحد منّا فمه لأيام، وربما لشهور، عندما يستلم أول هاتفٍ ذكيٍّ في حياته، بحيث ينظر إليه طفل الجيل الرابع، الذي وُلدَ وفي يده هاتفٌ يعمل بتحريك الأصبع، نظرتنا نحن لسيارةٍ قديمةٍ عادية منتشرة في مدننا القديمة.

القَطع الحادّ
أعني أن هنالك انقطاعة فعليّة قد حدثت في لحظةٍ خلال الزمن القليل الماضي، (لنقل: عشر سنواتٍ تقريباً)، غموض حدوثها وإمكانيّة تحديده تكمن في التغيُّر الذي أصاب مفاهيم الزمن الاجتماعيّة والسياسيّة والتجاريّة والدينيّة، بعبارةٍ واحدة: "مفاهيم الزمن الثقافيّة". نجدُ عالماً تبدو فيه ثقافاته وكأنها راسخة ومتجذِّرة في عمق التاريخ، مرتبطةٌ به وتتغذَّى من ذلك العمق، تحارب وتُدمِّر وتتمزَّق وتستشهد لأجله (ولأجله فقط؟)، ولكن هذه الصورة غير واقعيّة البتَّة، إنها صورة إعلاميَّة لصراع الثقافات؛ تسميتها وتصنيفها ما بين خيرٍ وشر، ما بين إرهابي، وشبه إرهابي غير متّفق عليه دوليَّاً (وهنا تدخل جميع الدول على ما أعتقد، ولكن ذلك ليس في التصنيف، فأغلب الدول الإرهابيّة هي التي تقوم بتصنيفات عالم اليوم) ثمَّ (مُسالم)، ومهمّته إنتاج وتصنيع الأسلحة التي تُستخدم في جميع هذه الحروب. أقول، لقد كانت هذه الانقطاعة حادَّة بحيث يستعصي على الكثيرين من مواليد عشريّة الألفيّة الأخيرة وما بعدها، استيعاب عالمنا الذي نعيش فيه، ذلك الذي يبدو راسخاً وحقيقيَّاً وملموساً، مُجرّباً على أجسادنا وذكرياتنا وتكويننا كأجيالٍ منقرضة حقّاً –تذكروا، نحن نتحدث شعبيّاً- منقرضة ليس على المستوى الجسدي الذاهبة إليه بأحداث العالم فقط، أو بسبب كبر العمر، أو بمسببات القتل الكثيرة في البئر الملوّثة التي غرق فيها عالمنا بمرحٍ وسعادة، وإنما روحيّاً كذلك، هذا الاغتراب الماحق واليأس المطلق بلا أدنى ذرّة شفقةٍ أو حزنٍ على العالم المتهاوي الذاهب إلى نهايته بكل همّةٍ وتفانٍ وتعالٍ وغطرسة، كأنه سيخرقُ الأرض أو يبلغ الجبالَ طولا؛ والتراجيكوميديا هنا هي في أن الضحيّة ضمن هذه المعادلة، والأشد تعرضاً للانقراض، لن تكون الطبيعة بأي حالٍ من الأحوال! الطبيعة "محاربةٌ ناجية" (يسمونها بالإنجليزيّة: Survivor).
هل عالمنا فعليّاً راسخ إن خاطرنا بإلقاء أيّ كمٍّ من أشعة كاشفة؟ هذا إن جازف البشري بإلقاء نظرةٍ على الهيكل طبعاً. لكننا نعلم أن أجيالاً وُلِدَتْ وفي عيونها هذه الأشعة، وأنها لم تتفانَ في الحصول عليها، ولكنها تحصّلتها طبيعيَّاً بالتوازي مع الطفرة التكنولوجيّة الطبيعيّة بدورها، إن تذكّرنا أن العقل البشريّ إنتاجٌ قديمٌ للطبيعة مُنحت لهذا الكائن بدافع غريزة البقاء، المتولّدة عن الخوف القديم العتيق الذي يلفُّ، كضبابٍ لا فكاك منه، أحلامنا وكوابيسنا وأفكارنا وأفعالنا. ثمّ ها هو الابن البار يجدُّ في تدمير أمّه بدلاً من أن يُصبح مانحاً وناجياً مثلها.
إنني أرى الكثير من أفكار وأسئلة "العالم الماضي" (نسميه هكذا، مرحليّاً) تُطرح للنقاش والحوار، فعليّاً وكِتابيّاً وصوريّاً، على طاولة اليوم –والتي لا أظن أنها ظلَّت على حالها طاولةً- فتُدار بصورة مخالفة تماماً لتصوّرات لاعبيه الماضين، حتّى اللغة المستخدمة في هذه اللعبة، وقواعدها كذلك/ مختلفة وجديدة كليّاً لدرجةٍ صادمة، تلاحظ الصدمات في فورات الغضب التي تعم المواقع –محركها الفعلي هو مجتمع العالم الماضي، والذي هو، كما نلاحظ، المسيطر التام وصاحب السلطة على أرض الواقع-. إن الكثير من هذه الأسئلة تبدو لسكّان "العالم الجديد" سخيفةً سمجةً ربما مضحكةً وأحياناً لا جدوى من طرحها على الإطلاق. يعود بنا هذا للسرعة التي تُدارُ بها عجلات الثورة الفكريّة التي تبرع في تحطيم الأفكار والموروثات النابعة من الجهل -مطلق جهل- وهذا التحطيم ليس حادِثاً، أي أنه ليس وليد لحظة التحطيم، إنّه (مُحطّمٌ سَلَفاً)**. ولأوضّح حديثي كذلك أتذكّر هذه المناقشة مع صديق، حيث قال لي، في معرض حسادتنا لـ(الجيل الرابع)، وما يتمتّعون به من ميزات: [شوف عليك الله الكُفُر بقا ساهل كيفن؟ زمان، لمن الواحد فينا تجيهو شكوك تحريريّة أول حاجة ببدا يخاف عديل، بكى ودموع بالليل واستغفار وبتاع، وبعدين الزول يقوم يمشي يقرا يقرا يقرا كتب كتيييرة الحصول عليها كان بشقّ الأنفُس، فقط لإراحة الضمير؛ داك كان زَمَن، حسّع ديل؟ -يعني 4G- ديل بيجو مارقين من بطون أُمَّهاتهم "كُفَّار"!].
حسنٌ، أريدُ أن أوضّح أن كلمة "كُفر" و"كُفَّار" لا تحملان أية دلالات دينيّة، بل هي سياسيّة بحتة؛ أولاً درج "الإسلاميون السياسيّون" على دمغِ كل ما يمت للحياة بـ"الكُفر"؛ فبدا لنا كلّ شيءٍ في الحياةِ وأية تجربة كفراً، ونسميها كذلك كدعابة، حتّى أننا لا نرى بأساً في نعتنا بـ"الشياطين" عديل. إنه، في عمقه، كُفرٌ بهذا العالم، بقيمه الزائفة بانتظامٍ يُمثِّل الهيكل المتهالك الذي بنته ورعته حداثة الإنسان الرأسمالي الديموقراطي الليبرالي المُتقدِّم! حيث بَنَته حجراً حجراً، وها نحن نشاهد تعرية هذا الهيكل المتآكل المنهار مع أجياله الجشعة، يُعرض عبر الوثائقيّات التي تُشرف عليها أجيال الـ(4g) وما بعدها؛ الذي سيذهلنا حتماً ويبعث في قلوبنا الفتنة والسعادة، حتى وإن انقرضت البشرية في نهاية المطاف فلا بأس من "نهايةٍ سعيدة" على الأقل!، فليتفجّر العالم بينما يغرس الأبطل خناجرهم بعيداً في قلب الشرير.
وبالعودة إلى موضوعنا، ولنتذكّر أن هذه المناقشة قد استُبعِدَت منها أجيال العالم الماضي، لنأتي لفحص موضوعات "الكفر"، ولنبدأ بالأساسيّات مثلاً: العنصريّة وحقوق المرأة وكذلك ما يُسمَّى في العالم الماضي بـ"البذائة اللغويّة". ولنبدأ بالأخيرة.
أ‌- البذائة اللغوية:
من أشدّ ما أمتعني في هذه التحوّلات هو الحادث في اللغة والأسلوب، هذا التجديد غير المتوقَّع إذ هَجَم من سلطات فرديّةٍ قحّة، لم يتعوّد عليها عالم "الجماعات" الماضي، وطبعاً، كما كل تجديد: كريمٌ بالغثّ وشحيحٌ بالثمين. لكن لا ننسى أن للغثّ دورٌ كما للثمين دورٌ ثوريٌّ آخر مُغاير في الاتجاه؛ حيث يتجه الأول لتدمير السطح، وهي مهمّة عويصة تتطلب كثيراً من التناقض النفسي والشخصي، وتلقي كثيراً من الضربات الموجعة التي قد تتحوَّل، كما حدث في جميع أنحاء العالم بما فيهم بلدنا، إلى ضربات واقعيّة في الوجه والبطن والأمعاء. وهذا لست معنيَّاً في هذه الكتابة بتفصيله–وإن عبرنا به- وإنما سأنتقل مباشرة إلى الثمين. قيمة الثمين تكمن في جماليّاته ومتعته، أي "فَنِّه". أول ملاحظةٍ هي خلو قنواتهم الفضائيّة من التهجّم الساذج، أصحاب الثمين، إذ إن الفن يُعرَف، ونعرف أن الفن دائماً هو المقبول من الجميع لأنه يُمتع الوجدان والخيال ويُطرب الروح، يُداعب الانفعالات الذهنيّة والعصبيّة، ويُهاجمك في أشدّ ما تعتقد أنه راسخ، فيحطّمه بكلماتٍ مُسمَّةٍ مكتوبة، يقشع ستار الضباب بسهولةٍ، ويُريك جوهر هيكل عالمك المتداعي. هذا النوع من البشر يوجد بكثافة غير معهودة في أوساط الكتاب والفنانين والمثقفين من الجيل الرابع وما بعده بكل تأكيد. (أركّز هنا على الكلمة المكتوبة ليس تهميشاً لدور الأسلحة الأخرى الكبرى، كالموسيقى والفنون البصريّة، ولكن: ما الذي تحتاجه هذه الأسلحة الجبارة من شخصٍ مثلي؟ إن فعلها الجليل ظاهرٌ للعيان ولا يحتاج مساعدة، أما إخواني الكتاب فلهم دائماً العِزَّة الاستذئابيّة المريرة). إن الفرديّة تبرز واضحةً في أسلوب هؤلاء الكُتَّاب، كأنك ترى جيشاً صَنَع كلُّ محاربٍ فيه سلاحه من خياله الخاص، من عالمه الداخلي، فيتحوَّل إلى بصمة عينٍ مُشعَّة لا تتكرر وإنما تتكامل وتتحاور وتلتحم وتتعانق وتتصادق لأجل الحرب.
ومن واقع خبرتي وعملي كمحرر وناشط ثقافي، فأقل ما يمكن أن أقوله من متابعاتي، قل ملاحقاتي اللاهثة، من ما يصلني وأصله، أقول إنه كان أمراً مُبهِراً تماماً، فإن مررنا بالأسماء فقط لما نُشرَ في إصدارات كمجلة البعيد الإلكترونية، جيل جديد، إكسير، مجلة الحداثة، وغيرها من الأرحام الصامدة، ثمَّ بعد ذلك قفزنا إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فإن ما يُنتج من آدابٍ وفنون يُذهل إنساناً عمل في التحرير الثقافي جاء من العالم الماضي. راقب تعدُّد الأساليب التي لن تجد من يصنّفها في القريب العاجل، إذ هي غير قابلة لأي تصنيف أو استتباع، تفهّم ومفاوضات حول مناطق منزوعة السلاح!
فإن جئنا للبذائة، غثّها وثمينها، فإنها أصبحت مقبولةً بامتياز، إذ أن الصراخ الذي دار حول هذا الأمر، والفزع -والانهيارات العصبيّة أحياناً- التي حدثت للبعض من جرّاء ما يسمونه بـ"البذائة اللغويّة"، أنتجت مصطلحات مثل (تصرفات دخيلة على المجتمع السوداني)، و(غزو ثقافي)، و(أخلاق المثقف)، و(خدش الحياء العام) وغيرها، بل أصبحت تُستخدم بقوّة عينٍ غريبة جداً ووقحة أحياناً، وببساطة كمان. هذا الانشغال الاجتماعي الذي طَفر في الواقع الحياتي من خلال الجوامع والإعلام المرئي والمقروء كان دائماً مؤشراً خطيراً لكم الفزع الذي ينتاب شعوب الماضي من شكل العالم الذي سيواجهونه مستقبلاً ويتركونه مرغمين.
والبذائة اللغوية لا تضم فقط، كما يتبادر للذهن، "اللغة النابية"، ولكن تشمل بشكلٍ أعمق، في مستودعات التمرّد الثمين الخفي، المواقف الفكريّة البذيئة التي تُهاجم ما تعارف عليه الناس من "أعراف وتقاليد وأخلاق ومُثل..إلخ"، بطرقٍ وأساليب مختلفة، محاولة جريئة للكشف عن فُحش العالم الحقيقي: يحفر الثمين في القاع المظلم، يحارب في الأنفاق، تصرخ جيوش الغثّ في الأعلى حاملةً أسلحةً متشابهة تنقضّ على جيشٍ آخر من شعوب العالم القديم.
التغيّر في مفهوم الزمن الثقافي أشرحه كالآتي: إن سرعة التأثير الثقافي ما بين شعوب العالم قد بدأت تُنتج، حقيقةً، ثقافة عالميّة نوعاً ما. فما نعرفه مثلاً عن الشعب السوداني الشمالي النيلي، بالتحديد، أنه يُخفي لغته البذيئة في مكانٍ ما دائماً –قل الطبقات المتعلّمة المدينيّة- وبعض الشعوب الإسلامية الأخرى القليلة، ولكنها تُواجَه اليوم بدخول البذائة إلى حيّز العادي واليومي وغير المُدان أخلاقيّاً، وبدَأَت ترى ذلك في مجتمعاتها الجديدة الناشئة، التي تشاهد "البذائة" منذ صغرها في أفلام هوليوود مثلاً، حتّى أصبحت طُرفة الترجمة الثقافيّة لكلمة الـF الإنجليزيّة إلى (تبَّاً لكَ) في القنوات الفضائية العربية، أصبحت طرفة عامّة. في مجتمعنا السوداني ما يزال الأمر صادماً، ولكن لقراء الآداب ومتابعي الفنون، فقد دخلت البذائة حيّز الفن، تجمَّلت وأصبحت سلاحاً جديداً يتخذ أساليب متعددة لا حادَّ لحدودها.

ب‌- التحرّش الجنسي:
تأثير الزمن الثقافي وتكوينه لثقافة عالمية نراه جليّاً في اتساع حراك المرأة ضدَّ التحرّش الجنسي، وإن أفضل ما أنتجه هذا الحراك العالمي هو اكتشافاته المهمّة للتناقضات والتشكيكات في شعارٍ فضفاضٍ جدَّاً كـ(التحرّش الجنسي)، كذلك الأفعال الفرديّة ضد هذا السلوك في جميع أنحاء العالم وخروجها إلى العلن والميديا، وكذلك ردود الأفعال التي تصل مراحل غير معقولة كالاغتصابات المتسلسلة في الهند التي تنتهي بحرق الضحيّة وهي حيَّة. لقد تساقط السياسيّون والأكاديميّون (نوبل انهارت، يا لهوي؟!) والنجوم والأغنياء كالذباب أمام هذه الحملات، وتُعتبر –رغم طابعها الثوري الذي سيخلّف ضحايا بكل تأكيد- واحدة من أقدم وسائل التغيير داخل الزمن الثقافي الجديد وسرعة تغييره الفكريّة.
وفي هذا المشهد العالمي تبرز قضيّة (نورا)، والتي أراها واحدة من قضايا المرأة الأشد تعقيداً من بين القضايا الأخرى التي يواجه فيها أفراد سلطات حكوميّة، كشرطة النظام العام، برزت إلى المشهد العالمي (لبنى أحمد حسين والبنطلون كمثال) من داخل الحياة في السودان. قرأنا عن قضيّة (نورا) في (بي بي سي)، أوجد صديقنا فيسبوك تطبيقاً للتضامن معها، وتُنظَّم لأجلها الآن وقفات احتجاجيّة في جميع أنحاء العالم ضد النهاية المأساوية، التي أدى فيها القانون دوراً محوريّاً، بحكم الإعدام بحقّها كضحيّة. أثارت هذه القضيّة داخلياً نقاشاً قانونيّاً وأخلاقيّاً أظهر العديد من التناقضات والتباينات في وجهات النظر لهذه الحادثة*** داخل المجتمع، وأبرز اختلالاً وتشقّقاتٍ بيِّنة عندما وجد الأغلبية من عالم الماضي، والتي تُقرُّ حقَّاً للرجل في إكراه زوجته على ممارسة الجنس، أي الاغتصاب، وجدوا أنفسهم في مواجهة العالم وقد ذُهلوا لاكتشافهم، فجأةً، أن الثقافة العالمية اليوم تقرّ أن الاغتصاب جريمة يُعتبر القتلُ فيها دفاعاً عن النفس. ذلك بعيداً عن النقاش الديني السائد، والقانوني الأكثر واقعية؛ إذ يرى الأخير أن القانون السوداني، في الواقع، يضع القتل أعلى مراتب الجُرم، بينما يُعاقب المُغتصب بأقلّ من ذلك بكثير، كثيرٍ بصورةٍ تدعو للأسف. هنالك نفسٌ سُلِبَت، وهذه النفس هي القضيّة في نظر القانون، وعقابها معروف: الإعدام. لكن سلسلة الجرائم التي قادت إليها فإنها ساقطة تماماً. لقد أصبح القانون الآن ضدَّ الثقافة العالميّة السائدة، ثقافة عاصفة اكتسحت ومحقت الفروقات الثقافيّة التي تُبرِّر مثل هذه الأفعال: الاغتصاب. فهل نحن أمام "ثورة فكريّة" ذات طابع راديكالي عنيف؟ ولكن أين العنف؟ داخل اللغة كثيراً، والتعاضد العالمي، ونقل المعركة إلى المجتمع بدلاً عن الحكومة. الآن نورا لا تواجه سلطةً ولا نخبة، إنها تواجه مجتمعاً كاملاً.
وبما أن معاناة المرأة عالميّة بامتياز، لذلك كان بروز زمنها الثقافي الجديد أسرع من بقيّة الفئات المطضهدة في الحروب والمجاعات التي تتحكم فيها السياسات الدوليّة وتحالفات الحروب ومصانع الأسلحة، ولا يملكون من أمرهم شيئاً. فرغم معاناتها في الحروب، استطاع النساء من حول العالم أن يبدأنَ المعارك في كل مكان وبشجاعةٍ فائقة، إذ إن فئة النساء، وبنهضتها وتحرّرها، تعتبر الخطوة الأهم والأجدر في أي عمليّة تثويرٍ فكريٍّ اجتماعيٍّ عام، متوحّدٍ عالمياً.
ج- العنصريّة:
أما العنصريّة بأسئلتها القديمة في عالمنا السوداني القديم (مثلاً) فقد شبِعت موتاً، إذ لم تعد هذه الفواصل العرقيّة مرئيّةً فعلاً بالنسبة لأغلبيّة الجيل الرابع وما بعده؛ لقد تشابكت أسئلة العنصريّة وأصبحت أعمق من قضيا الجنس واللون بشكلهما المعروف (مثلاً هل نحن عرب أم أفارقة..وإلخ)، يمكنك أن ترى اليوم أن المسيطر، في الأزياء مثلاً، لا علاقة له بهذه التصنيفات وإنما يتعلَّق فقط بالأذواق الجماليّة، فبينما تبحث أجيال الماضي في أسئلة مثل: (لماذا نحتقر جانبنا الأفريقي؟)، يقفز الجيل الرابع -بالزانة- للاستمتاع بما سُمِّي في الماضي بـ"الجانب الأفريقي" كفن وجمال يخرجه، بالتالي، من الاستخدام السياسي والاجتماعي الماضي بسهولةٍ ويُسر، دون تكلُّفٍ أو قصديّة رمزيّة، للدرجة التي تحوّل الموديل الرجالي لجميع إعلانات شركة بيبسي من (الجلاليب والتياب) إلى (شباب راستات بثياب أفريقيّة مزركشة ومشغولات جلديّة أنيقة على معصم اليد: واحدة فقط من الصور السريّة في الوعي العام الماضي للجيل الرابع).

ديبَاجة خياليَّة حول (الثورة)
حسنٌ، في النهاية فإنني لست أكاديميّاً، ولا يحقّ لي أن أكون، إذ ننتمي للشعر والخيال في الغالب الأعم، واللذين، في بعض مناطق العلم المتخلّف المرتبط بعوالمنا الماضية، يحتقرهما احتقاراً لا يليقُ بمن يلمس الخيال ويتذوّق الموسيقى ويعشق الآداب العظيمة. أغلبهم لا (يتاوقون) إلى هذه المنطقة أصلاً. لهذا سأقول إنني بنيتُ الكثير من الكتابات حول موضوع الدولة والأجيال الجديدة على نصٍّ أدبي، هو الأساس لهذه الكتابة، أدرجه بعد أن أقول إن الجيل الرابع فعلاً تميّز بالقتال، ولكن يجب أن نفهم أن هذه مزايا تميّز كل الأجيال، أي أنها تُميِّز هذا الكائن الغريب المسمَّى إنساناً؛ كما قالت واحدة من مشورات الجيل الرابع: "الكائن الوحيد في الكون الذي قال بوجود الله هو الإنسان، وهو، كذلك، الكائن الوحيد الذي يتصرَّف وكأنه لم يوجد قط"!
أي أن الأجيال اللاحقة والتي تلي كل شيءٍ ستأتي بالجديد وبالأمل بتحديثٍ جراحيٍّ مهم لمشاريع الدولة الديموقراطية وحقوق الإنسان التي أنتجتها الحداثة الرأسمالية الليبرالية الأوروبيّة، هذا الفساد الذي لا يُصدَّق أبداً، ولن يُصدَّق بالنسبة لأجيال المستقبل، كما يضحك أولاد حداثة اليوم على أن (المهدي السوداني) ليس مهديّاً!
يقول مقتطف من النص الذي نختم به هذه الكتابة، والمسمَّى: "ديباجة الخيالية حول الثورة"، كُتِبَ في (27 أكتوبر 2017م):
[كنّا نعيش عالماً مُبَعثَراً في أنحاء الأرض، تلك المساحات الشاسعة بين الشعوب كانت تَسمَحُ بالكراهيَّة، ولكننا، في عالم اليوم الجديد تماماً، والمختلف، كليَّاً -اختلاف كم- عن عالمنا السابق؛ نعيش في ضيقٍ لا يحتمل الكراهية، والدليل هو هذه الحرب العالميّة الثالثة التي دُشِّنت مع الاتصال المريع الذي ربطنا في السنوات العشر الأخيرة.
نعم، ضيقٌ لا يحتمل وجود الكراهيّة، ولا يحتمل سوى المحبّة. وذلك ما سيكون عليه عالم الغد، الذي بات واضحاً وجليّاً بالنسبة للعاقلين، بينما يظلّ عصيّاً على الإدراك بالنسبة لمن يريدون أن تظل سلطة العالم المندثر قائمة! ويتجلّى ذلك في أشدّ أشكاله وضوحاً في "الدولة"، والتي أصبحت منبوذةً من قبل جميع شعوب العالم، ثم يتدرّج التجلّي إلى أن يصل إلى ذكوريّة وأبويّة المجتمع التي بدأت في التحطّم، طبيعيّاً، مثلما يتحطّم الصخر من ضرب الأمواج!
(...)
أبدأ بتعريفاتي لـ(الثورة)، وفق نظرتي خلال عدسة العالم الجديد، وقد وضعتها وكتبتها من قبل في مستويين: ثورة فكريّة، وأخرى جسديَّة. فأما الفكريّة فميزتها أنها لم تتوقّف عن الحدوث والتأثير ولا للحظةٍ واحدة، وتتجلَّى بصريَّاً وواقعيّاً في إنتاج العقل البشري المستمر، فالعقل، في حدّ ذاته، ثورة! حدثت في الطبيعة وكوّنت ما نسميه بالحضارة الإنسانيّة، ولا تزال مستمرّة، وهذه هي الثورة المستمرّة.
فأما الجسديّة فتتجلّى فرديّاً في التعارضات والتناقضات الدائمة بين الجسد وما يحمله التفكير الجَمعي للشعوب، والمصنوع ـ في العالم القديم ـ إعلاميّاً وتعليميّاً وتربويّاً بيد الدولة وشديدها؛ تعارضات بين احتياجات الجسد والآيديولوجيّات المكوّنة ليقينيّات الشعوب. واحتياجات الجسد معروفة للجميع بحكم حصول كلّ واحدةٍ وواحدٍ منّا على جسد! الحماية من (الجوع، المرض، العنف، القتل..إلخ)، والحاجة الملحة للمتعة المعرفيَّة والجسديَّة (الجوع الخفي والحقيقي) ويأتي التعليم، عادةً، في ذيل هذه الاحتياجات لأسبابٍ تتعلّق بسيطرة الحروب والفقر على المشهد في بلادنا. كذلك فالديموقراطيّة، كأسلوبِ حياةٍ، سيُصبِحُ مُتخلِّفاً مع مرور الزمن، هي من ضمن مطالب الجسد: الحماية، وحريّة التعبير. وهذه ثورات جسديَّة. أقول إننا –كبشر - سنتجاوز الديموقراطيّة كنظام حكمٍ في المستقبل، إذ سيتضح أنه لم، ولن تكون هنالك ديموقراطيّة طالما كانت هنالك نقود بنوك وشركات وبالأساس، رأسماليّة. طالما ظلَّت الموارد الطبيعيّة الممنوحة للبشري بوصفه –مُطلقاً- بشريَّاً، تُباع وتُشترى.
فهل هذه الثورات -الجسديّة- مهمّة في عالم اليوم؟ هل نحتاج، لكي ننجز ثورة فكريّة، هل نحتاج، فعلاً، أن نغيّر أنظمة الحكم في بلادنا؟ وهل ذلك التغيير أولويّة، وهل هو ممكن؟ نعم، هو ممكن، ولكنّه لا يدخل في مجال اهتمامات الأجيال الناشئة يا قوم، ولا ما تُعايشه الشعوب من خلال انفتاحها، لأول مرة، على الشبكة!
لا يُدرك الكثيرون هذه البديهة، ولكن لا بأس من ذكرها هنا: نحن أوّل أجيال من كائنات أرضيّة تدخل الشبكة! هذا التاريخ الذي عايشناه سيظلّ مثار الكثير من الدراسات في المستقبل، وأعني بـ(نحن) جميع المتعلّمين والمتعلّمات الذين خاضوا تجربة الإنترنت لمعرفتهم بالآتي:
· القراءة والكتابة؛
· التعامل مع جهاز الكمبيوتر في أبسط قواعده؛
إن نظرنا إلى هذه الفئة أعلاه، والتي عايشت نهايات القرن العشرين وبدايات الألفيّة (الانفجار الأخير، أو القفزة الإنسانيّة الجديدة، قل أعظم تجليّات الثورة الفكريّة المستمرّة)؛ فهي تظل فئة طبقيّة محدودة في ذلك الزمان، وكنّا في ذلك الوقت (قدر الشباب المولّعين نار البي ورانا ديل)، بما أننا قد دخلنا فئة الأجيال الكبيرة في فترة وجيزة نسبةً لاختلاف الموازين بين العالمين، القديم والجديد، بحيث انمحق مفهوم الأجيال، واختلَّ توازن جَسد الزمن، وأصبح الناس أنداداً في مجالات التعبير وحريّته، وانتهت الحدود وضاقت علينا السبل.
تلك الحظوة -حظوة الإطلال على العالم العنكبوتي الجديد لأول مرة، وبأنفاس مبهورة- أكسبتنا ثقّة وشعوراً بأن هذا الجيل مختلف ومميّز ولن يأتي كمثله شيء! إلا أن هذا الشعور سرعان ما اختفى تماماً بإدراك أن ذلك النوع من "السلطات" و"المفاهيم" لا تنتمي للعالم الجديد، ويا له من عالمٍ جميل! إذ اتضّح جليّاً أن التشوّهات التي زُرعت في أحشاء أدمغتنا ما قبل انفجار الثورة بسنوات قليلة ـ إعادة صياغة الإنسان السوداني بالـ"الإسلام الحقيقي" في السودان كنموذج، وهو مشروع الإخوان المسلمين ـ هي مكوّن أساسي وجزء لا يتجزّأ من الثورات الداخليّة التي أكسبتني، أنا تحديداً، معرفةً لا ينتهي نقصانها حول ذاتي والعالم.
(...)
انتهى عصر الفئات المحدودة المُطلَّة على العالم الجديد والواقع الحديث، انتهى! وذلك بأن أنشَبَت الشبكة خيوطها في الهاتف الجوّال، حُرّ الحركة؛ حاصرته وهَصَرته، تمدّدت داخله وسيطرت عليه تماماً مثلما يفعل العنكبوت، ثمَّ أصبح جزءً من مملكتها! إن الانتقال من جهاز الكمبيوتر إلى الهاتف الذكي يُعتبر بحاله ثورةً كاملة! إذ هو انتقال في الملكيّة وتغيّر في جوهرها وبروز للفردانيّة التي تنبّأ بها سيدنا هرمان هيسّه (الأفراد المنفصلون بعضهم عن بعض)****
سأحاول، خلال هذه الديباجة، أن أتحدّث عن بعض البديهيّات الساطعة التي لا يراها سوى المؤمنين بديمومة العالم القديم ولا نهائيّته، فهم لن يصدّقوا أن قيامته قد قامت، إلا أن تحدث لهم القيامة ـ بتعبير صديق ـ بطريقة (هوليووديَّة). الذي ربما خطر على بال صديقي أن ذلك سيحدث، وقد شاهدت بأمّ عينيَّ كتيبة من المقاتلين الأكراد يُفجِّرون سيَّارةً من أسفلها فطارت، طارت أمتاراً بعيدةً بزاويةٍ عموديَّةٍ تماماً، طارت بكل من فيها من "مجاهدين" في سبيل تحقيق رؤيا "الخلافة الإسلاميَّة"، ولم تنفجر إلا في السماء الكبيرة، تماماً مثلما تخدعنا هوليود.
(...)
لا أريد أبداً أن يعتقد أحدٌ أنني أبشِّرُ بعالمٍ جديد، إنني، بالأحرى، أصف وجوده وتحققه على أرض "الواقع"، فالأمر بالنسبة للكثيرين مِن مَن يدافعون عن "الإنسانيَّة" وفقَ قِيَم وتصوّرات ومراكز قوى وسلطات العالم القديم يعيشون معنا ويتنفسّون ذات الهواء ويستخدمون ذات الأدوات ولكنهم لا يدركون زوال عالمهم بالكامل، سأحاول أن أفصّل قليلاً بسكب القليل من المواد الكيميائيّة الحيويّة على صورة المؤسسات التي تحكم العالم القديم ـ القائمة صُوريَّاً في عالمنا اليوم ـ لتوضيح هيكلها الذائب وجوهرها المُحطَّم.
(...)
البلاهة التي ألهمت كثيراً من الشعوب بأنها مركز الكون تقف شاهداً على بلاهة الكون ذاته، إذ من غير الممكن أن تصدح كل هذه المجرات بوجودها دون أن تَصِفَ اتصالاتها بالقوانين الطبيعية لما هوَ كامنٌ في جوف الأرض؛ في ما طَلَع منها من أصوات وإيقاعات وحياة، يا أخواتي ويا إخواني: الأرض، عاينوا تحت، خلوا الفوق، ركّزوا في ما يلي أقدامكم، والذي تجدّون في تدميره كأنما خُلِقتم لأجل ذلك. لا أخاطب البشر هنا، أخاطب قادة البشر فقط]. (انتهى).
13 مايو 2018م


ــــــــــ
هوامش:
* تحدث الأستاذ محمود محمد طه في كتاباته منذ منتصف القرن الماضي عن أن إلغاء الزمان والمكان، في عصره، كادَ أن يكونَ تامَّاً. وفي ظنّي أنه تمَّ، إلا أن صديقي الكاتب قصي همرور، وفي معرض حوارنا حول هذه الكتابة، حيث قال: (أفتكر ما بتنتهي بتقدم التكنولوجيا نفسها، وإنما بتحقيق العدالة في توزيع القدرات التكنولوجية. عشان كده لسع ما ألغت الزمان والمكان رغم تفاوت الزمن من الوقت القال فيه الأستاذ عبارته، لأنه ما اتغيّر شيء بخصوص التوزيع بل ربما صار أسوأ. حالياً مجرد الحياة في مكان كالدنمارك مثلاً ليس كمجرد الحياة في مكان كالسودان).
** من قصيدة الشاعر الصادق الرضي (بئر الأحاجي)، ديوان (أقاصي شاشة الإصغاء).
*** انظر: (قضية نورا: أقارب الزوج المقتول يرفضون الصفح "كي لا تتشجع النساء على رفض الرجال" في السودان)، بي بي سي، تقرير محمد محمد عثمان. على الرابط: http://www.bbc.com/arabic/middleeast-44159558

**** كتب الروائي الألماني هيرمان هيسّه في حوارٍ ضمن روايته (دميان)، بترجمة ممدوح عدوان عن دار ورد: ["التجمّع الأصيل" قال دُميان: "شيءٌ جميل. ولكن ما نراه يزدهر في كل مكانٍ شيءٌ مُختلف، الروح الحقيقيّة ستبرز من المعرفة التي يملكها الأفراد المنفصلون كلٌّ منهم عن الآخر. وبعد حينٍ من الزمن سوف تحوّل العالم. أما روح التجمّع الآن فما هي إلا من تجليّات غريزة القطيع. إن كلّ إنسانٍ يندفع إلى ذراعي الآخر لأن كل إنسانٍ يخاف من الآخر؛ الملاكون على حدة، والعمال على حدة، والطلبة والباحثون على حدة! ولِمَ خوفهم! إنكَ لا تخاف إلا حين لا تكون منسجماً مع نفسك. والناس خائفون لأنه لم يسبق لهم أن كانوا مسيطرين على أنفسهم. مجتمعٌ بأكلمه مؤلّف من أناسٍ خائفين من المجهول الذي فيهم. وكلهم يحسُّون أن الأسس التي يعيشون وفقها لم تعد صالحة، وأنهم يعيشون وفق قوانين بالية؛ لا دينهم ولا أخلاقهم في تلاؤمٍ مع حاجات الحاضر. منذ مائة سنة وأكثر لم تفعل أوروبا شيئاً سوى دراسة المعامل وبنائها؛ إنهم يعرفون كم غراماً من البارود لقتل إنسان لكنهم لا يعرفون كيف تصلّي لله، لا يعرفون حتَّى كيف تكون سعيداً ولو لمدّة ساعةٍ من الرضا. أَلْقِ، فقط، نظرةً على حالة الطلاب المزرية، أو إلى تجمّعٍ مما يؤمّه الأغنياء. حالة ميؤوس منها. يا عزيزي سِنكلير. لا يمكن أن يفعل ذلك كلّه شيءٌ جيّد. هؤلاء الناس الذين يحتشدون بدافع الخوف مليئون بالذعر والكراهيّة، وما من واحد بينهم يثقُ بالآخر؛ إنهم يتطلعون إلى المثل التي لم تعد مُثلاً، ولكنهم سيطاردون حتَّى الموت من يطرح مثلاً جديدة. أكاد أُحس منذ الآن الصراع المقبل. صدقني إنه قادم، وسريعاً جدَّاً. لن "يحسّن" العالم بالطبع. وسواء قضى العمال على أصحاب المعامل، أو شنَّت ألمانيا الحرب على روسيا فإن هذا لن يعني سوى تغييراً في الملكيّة. ولن يكون ذلك كله دون طائل؛ إنه سيكشفُ عن إفلاس المثل الحالية؛ ستحدث إزالة تامّة لآلهة العصر الحجري. العالم، في الحالة التي هو عليها الآن، يحتاج إلى أن يموت، يحتاج إلى أن يفنى؛ وسوف يحدث ذلك".
ـ "وما الذي سيحدث لنا أثناء هذا النزاع؟".
ـ "لنا؟ ربما انتهينا فيه. نوعيتنا يمكن أن تُقتَلَ أيضاً. الفارق، فقط، هو أنه لا يمكن الانتهاء منَّا بسهولة. ولكن حول ما يتبقَّى منَّا، حول الذين سيتمكنون من البقاء أحياءً، سوف تتجمَّع إرادة المستقبل، إرادة البشريَّة، التي هتفت قارتنا الأوربيَّة بسقوطها منذ زمن تحت وطأة سعار التكنلوجيا. سوف تتقدَّم إلى المقدَّمة من جديد. وعندها سيتبين أن إرادة البشرية ليست في أي مكان ـ ولم تكن من قبل أبداً ـ متطابقةً مع مجتمعات العصر الحاضر ودوله وشعوبه ونواديه وكنائسه. أبداً. إن ما تريده الطبيعة من الإنسان مكتوبٌ بشكلٍ راسخ في الفرد، فيكَ وفيَّ. إنه راسخ في يسوع وهو، أيضاً، راسخٌ في نيتشه. هذه التيارات ـ والتي هيَ وحدها المهمّة والتي هي، بالطبع قادرةٌ على اتخاذ أشكالٍ مختلفة كل يوم ـ ستجد متنفساً لها حالما تنهار المؤسسات الحالية"]. انتهى
:::

eltlib@gmail.com

 

آراء