السودان ازمة مستحكمة وقيادة مأزومة!!
عبدالله مكاوي
18 August, 2022
18 August, 2022
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
اهم ما كشفت عنه الثورة السودانية منذ سقوط البشير ومرورا بمرحلة التفاوض والشراكة واتفاقية جوبا وادارة مرحلة الانتقال، وصولا لانقلاب البرهان حميدتي الهمجي، وما ترتب عليه من فوضي وغموض وانعدام ثقة وانغلاق مسارات الحلول، ان هنالك ازمة قيادة مزمنة.
ويصح ان ازمة القيادة ملازمة للدولة منذ استقلالها (الخاطئ، او رغبة اكثر منه استعداد!)، ولكن الاكثر صحة ان انقلاب الاسلامويين اضاف للازمة الوطنية المتوارثة، تعقيدات ذات طابع انشطاري اذا جاز التعبير، لتنتج هذه الازمة المركبة بدورها قيادات اكثر مأزومية، سواء في جانب الحكومة الانقاذية او الجبهة المعارضة بمختلف تشكيلاتها. وقد يرجع ذلك لاختلال معايير الاختيار للقيادات، كاستجابة لتاثير الازمة عليها. لتنزاح المعايير الموضعية (حرية الاختيار، امتلاك رؤية واضحة لطبيعة المشكلات وحجم الاحتياجات ومعقولية الطموحات، ومن ثمَّ بناء التصورات الملاءمة للتعامل معها، وفق شروط الواقع واحكامه، اضافة لامتلاك القدرة علي الاقناع وحسن الادارة والتجاوب مع العمل الجماعي، وقبل ذلك الالتزام بمصالح الوطن والايمان بحقوق وكرامة واستقلال المواطنين)، مفسحة المجال لسيادة المعايير الذاتية، وهي بطبيعة الحال اللامعايير، وغالبا نتاج لاوضاع غير طبيعية (لا شرعية).
فمن جانب الحكومة الانقلابية او غير الشرعية، تتمثل اهم معايير القيادة في الولاء والثقة والطاعة العمياء. ومن جانب المعارضة المجاهرة بمعارضة الانقلاب وصولا لرفع السلاح في وجهه.
وهذا الاستسهال (واحيانا الاستهبال!) في افراز القيادات ولا موضوعيته، هو نفسه ما جعل الاطروحات في الساحة السياسية تميل للشعاراتية والهتافية والشمولية، لتصبح سمة للحياة السياسية يعاد تدويرها من كافة الاطراف. والحال ان شعارات كالمشروع الحضاري والسودان الجديد والثورة الديمقراطية وصراع الهامش والمركز ...الخ من ادبيات، لم تتحول الي ما يشبه احلام الصحيان من فرط تطلعاتها وتحليقها فوق تحديات الواقع، ولكنها قطعت الطريق علي التركيز علي اصل المشكل والتحدي، وهو العمل علي ترسيخ معمار الدولة وتاهيلها لتقديم خدمات لكافة المواطنين، والاهم رعاية مصالحهم ومنحهم كافة الصلاحيات لتحديد مصيرهم وخيارات الحياة التي يرغبونها.
ولكن كما سلف يبدو ان تازيم الازمة خلق ازمة المعالجة، ومن ثم اللجوء ليس للحلول السحرية (الامنيات السياسية)، وانما اسطرة القيادات ومنحها قدرات الاحاطة بالازمة والسيطرة عليها واستبدالها بمعالجات جذرية! والحال كذلك، جزء من ازمة القيادة انعكست وبال علي ازمة البلاد، وهذه الاخيرة بدورها اسهمت في تجذيِّر ازمة القيادة بطريقة دائرية (قد يفسر هذا الدائرة الجهنمية).
واحتمال جذور ازمة القيادة، ترجع لغياب المؤسسية كمنهجية، وهو ما ادي لتربية غير مؤسسة للافراد، نتج عنها سيطرة النزعات والطموحات الفردية. وما زاد الطين بلة، ارتباط التميز والامتيازات بالحصول علي المركز الاول. وعلي هذا الاساس اصبح المدخل للسياسة وعلي الاخص مراكز القيادة ذا منحي شخصي تماما. اي تم استغلال السياسة لتلبية تطلعات القيادة! وهذا ما جعل السياسة لدينا من الفقر بمكان، لتتمحور حول السلطة وامتيازاتها، عوض ان تفتح المجال واسعا للحوار والمشاركة وتقاسم المنافع، وتمتين الانتماء للبلاد وحفظ كرامة العباد. والاسوأ من ذلك انها اسست لثقافة الكنكشة والتماهي بين القيادة والقائد (الكل في الكل)، ومن ثمَّ خلق جماعات مصالح تلتف حول القائد لتمنحه العظمة، ويوفر لها عوائد التقرب منه علي حساب الآخرين! اي باختصار معايير القيادة لدينا تنتج دكتاتوريات متسلطة وغير مساءلة، غض النظر عن ما تتشدق به من خطابات الحرية والديمقراطية والمؤسسية وحقوق الانسان وكل ما يتعلق بالشأن العام، ولكن عند الفضاءات الخاصة وداخل كياناتها فالامر مختلف، حيث تناقض الاقوال الافعال ، لتستبين سيطرة القائد علي الحزب او الحركة او الكيان كمملكة خاصة (والجدران ستارة، وشقي الحال من تختبره التجربة العامة).
اما اذا وجد هذا القائد مجموعة من المثقفين تسبح بحمده، فعندها يتحول لايقونة للمعرفة والقيم والحكمة والقيادة العبقرية لخلاص الامة. واذا ساعده الحظ بامتلاك لسان ذرب وفصاحة حديث كاهم مؤهلات القيادة السياسية لدينا، فعندها يمد رجليه وينداح في بذل الوعود المداعبة لاحلام المريدين والبسطاء. اما التساؤل حول كلفة هذه النوعية من القيادة، فهذه من المحرمات التي يرتكبها اعداء الحزب والحركة والكيان؟!
وبناء علي ما سبق، ما جعل هذه القيادات الوهمية تتصدر المشهد السياسي، لتمارس الازدواجية والنفاق واستغلال السلطة لمآربها الشخصية، وتصفية حساباتها مع الخصوم والترسبات التاريخية، هو غياب معايير متفق عليها للقيادة، وهو ما جعل هكذا وظيفة اساسية ومؤثرة عرضة للصدف و(الشفتنة) والغدر واجادة الخداع والتمثيل وطلاوة اللسان. واذا كانت النماذج تُعجز عن العد، فاكثرها تاكيد للخواء والغدر والانتهازية والفشل، يجسدها راهنا البرهان من جانب المؤسسة العسكرية، وقادة الحركات المسلحة وغيرهم من المشاركين في مؤامرة اتفاقية جوبا.
والحال كذلك، ليس مستغرب خط الرجعة الذي بدأ يبديه قادة الحركات المسلحة، ومحاولاتهم مد جسور التفاهم والحوار مع جماعة الحرية والتغيير المركزية، رغم ان آثار غدرهم لم تزل تنزف! وذلك بعد ان شعروا بتهديد مصالحهم، عقب اعلان البرهان الانسحاب من الحوار، واخذ موقع الوصي علي البلاد، من دون استصحاب الحركات المسلحة والاكتفاء بالدعم السريع! وما زاد التهديد مبادرة الطيب الجد التي تهدف لارجاع الفلول للسيطرة علي الدولة بصورة علنية.
وبالطبع طالما الوضع يستدعي الحوار، فقد لبس قادة الحركات المسلحة وانصارهم قناع الحرص علي المصلحة العامة (رغم انه لا يليق بهم، لكنها قلة الحياء)، وذرف دموع التماسيح علي حال البلد المائل، الذي ساهموا فيه بنصيب وافر. ولكن ما كشف مكرهم وسوء طويتهم وشرههم للسلطة واستباحة موارد البلاد، هو اعلانهم ان اتفاقية جوبا تعلو علي كل حوار او اتفاق! اي تقديس الاتفاقية بعد تسيِّجها باطار الابتزاز والمتاجرة بقضايا السلام ومعاناة النازحين! الذين لا يتذكرونهم إلا عندما يظهر شبح اعادة التفاوض وترتيب اوضاع الدولة السودانية علي اسس حديثة تقبر مطامحهم. ولكن السؤال اذا كانت اتفاقية جوبا التي تخدم قادة الحركات المسلحة حصريا، خارج التفاوض والحوار، فما معني الحوار والاتفاقيات للخروج من النفق المظلم من الاساس؟ واذا كانت الاتفاقية صالحة وجيدة لماذا لم تؤدِ لا للسلام ولا لرد المظالم للضحايا ولا لعودة النازحين ولا للتنمية ولا ساهمت في تماسك الدولة نفسها؟ بل الصحيح انها ساهمت في تفكيك النسيج الاجتماعي بعد اقحام المسارات في صلبها، لتعيد شبح الصراع القبلي، والاسوأ انها جعلت طرح الحلول الشاملة لكل مشاكل البلاد في غاية الصعوبة، بعد ان احيت المناطقية والجهوية والعنصرية علي طول البلاد وعرضها، لدرجة ان يخوض الجنرال البرهان نفسه مع الخائضين!
اما ما يثير الحزن والسخرية والقرف، ان قادة الحركات المسلحة مازالو يصرون علي ان الاتفاقية حققت السلام واوقفت الحرب ونصرة اهل دارفور، بل والتهديد بان المساس بها يعيد شبح الحرب (نعم رجال وثقافة السلام!). مع ان الجميع يعلم ان الاتفاقية تمت برغبة المكون العسكري وتحديدا حميدتي، وهو الضامن لها، وليس لقادة الحركات المسلحة إلا السمع والطاعة وتنفيذ ما يطلب منهم، نظير وجودهم في هذه المناصب والاستمتاع بالامتيازات المجانية!
كما ان الاتفاقية نفسها مؤامرة علي اهل دارفور ومصالحهم، قبل ان تكون مؤامرة علي مصالح عموم السودانيين! والدليل انها تخدم عرقية محددة، لا تخفي طموحها في بناء دولتها الخاصة! وهو عين ما يعمل من اجله حميدتي بسذاجة يحسد عليها! وهو كذلك ما يطمح اليه البرهان بالشراكة مع الفلول! وكل ذلك يعبر عن ازمة القيادة في طور التهور والافلاس! اي عندما يتصدي للقيادة من لا يملك ادني مؤهلاتها، ولا يتورع عن استغلال ازمات البلاد، ليبني عليها طموحاته الفردية في بناء دولته وما يتنظره من امجاد! وهو ما يفاقم بدوره هذه الازمات، ويجعل حلها رهين بالتخلص من هذه القيادات، وما يشكله ذلك من خطورة علي سلامة البلاد، بما تملكه تلك القيادات من قوة تاثير ونفوذ! وهذا بدوره يؤكد ما ذهبنا اليه مسبقا، عن تاثير القيادة علي الازمة، وبانحطاط القيادة الي مستوي الجنرالات المزيفين وقادة الحركات المسلحة الانتهازيين، وصلت الازمة الوطنية الي هذه الدرجة من التعقيد والبؤس والخطورة وانسداد الافق.
ولكن هذا لا يمنع ان الضفة الاخري، سواء علي مستوي قادة الحرية والتغيير او جماعة التغيير الجذري او بقية الحركات المسلحة، تعاني من ذات الداء العضال علي مستوي القيادات! فرغم فشلها في التعاطي الايجابي مع فرصة الثورة، كل بقدر مساهمته في الفشل (من شارك ومن رفض المشاركة) إلا انهم يصرون علي انهم الاحق باخراجنا من هذه الورطة المستحكمة بكل نذر شرورها!
وعموما ازمة القيادة لا تجسدها غياب المشاريع الواقعية والقدرة علي التبشير بها بين الشرائح المؤثرة، ولكن يكمن في قناعة القيادات، انه ليس هنالك احد غيرها يصلح لاداء هذا الدور! وما يكرس هذا الوهم، ان وظيفة القيادة لدينا تتمتع بكافة السلطات والامتيازات، وهي سلفا فوق المحاسبة! وكيف يجوز ذلك وهي متفردة في تكوينها وقدراتها؟ والاهم من يجرؤ علي ذلك وسيف الفصل وتشويه السمعة مسلط علي رقاب الجميع؟ لذلك لا تكترث هذه القيادات لاي تناقض بين اقوالها وافعالها، بين كونها في المعارضة او مشاركة في السلطة، فكله مبرر مهما كانت سذاجة ولا معقولية التبرير. اي القيادة لدينا هي معيار ذاتها.
في هذا السياق تبرز قيادات الحركة الشعبية، مالك عقار ياسر عرمان بثينة دينار مبارك اردول عسكوري خميس جلاب، فهذه النماذج تثير الحيرة والياس والاحباط، من شدة تقلباتها وتناقضاتها والاصرار علي اكل الكيكة والتظاهر بعدم الرغبة في الاكل! وهذه النماذج ان دلت علي شئ فهي تدل علي ان اكثر القادة جذرية في رفع شعارات النضال والهامش والحرية والعدالة والسلام ...الخ، هي عمليا الاكثر ابتعادا عنها! ومن هذه الجزئية يمكن اشتقاق معيار قد يسهل معرفة القيادات والحكم عليها، وهو الاعتدال سواء في الاقوال او المواقف. اقلاه حتي لو كان الحكم خاطئ في حقها، فسيقلل من حجم الفاجعة عندما نكتشف الخديعة!
وبناء علي اعلاه، يبدو ان ما نحتاجه ليس ذهاب قادة المكون العسكري، كاسباب اساسية للازمة الراهنة، ولكن كل قادة الطبقة السياسية والحركات المسلحة. ومن ثمَّ افساح المجال امام قيادات جديدة علي اسس حديثة، تقطع مع اساليب وممارسات القيادات القديمة بعد فقدانها الاهلية، وتحولها الي جزء من المشكلة وليس الحل بحال من الاحوال. والاهم تحديد معايير للقيادة تسهم في انتاج قادة حقيقيين وليس دكتاتوريون في لباس مدني او عسكري.
ولذلك ما نطلبه من هؤلاء القادة الناشطين في الساحة السياسية، ليس تقديم خطاب عاطفي كما فعل ابراهيم الشيخ (وهي شجاعة يشكر عليها)، ولكن فعل مزلزل يحدث اختراق في تغيير ثقافة الكنكشة، عبر تقديم استقالات جماعية واعتذار للامة السودانية والعمل من الصفوف الخلفية اذا كانت لديهم رغبة في العطاء. فهكذا فعل قادر علي السماح بالبدء في عمل تنظيمات وتحالفات واطروحات جديدة، من غير خلافات وترسبات سلبية واحكام مسبقة. ومن بعدها السعي لاسقاط الانقلاب والتاسيس لمرحلة انتقالية تفضي للدولة المدنية والتحول الديمقراطي.
واخيرا
سفر وفد الي روسيا بهذا الحجم وفي هذه الظروف الداخلية ( من فيضانات وسيول) والخارجية (التي تعيشها روسيا كدولة مارقة علي الشرعية الدولية)، يعكس طبيعة اللامبالة للمسؤولين وحالة الفوضي التي ترزح فيها البلاد بقيادة الجنرال البرهان. وهذا ما يستدعي ان تكرب المؤسسة العسكرية قاشها، وتحسم امر جنرالات المكون العسكري والحركات المسلحة، كحاضنة للفساد المالي والتردي الاداري والفوضي العارمة التي تهدد سلامة البلاد، ومن بعهدها تسليم الامانة (السلطة) لاهلها (قوي الثورة) وتلتزم دورها (الحماية) وتلزم دارها (ثكاناتها). ويكفيها شهادة احد ابطالها في حقها لتعلم اين مكانها في الدولة ومكانتها لدي الشعب، حتي تثوب الي رشدها وتسترد كرامتها! ونقصد مقال الدكتور زهير السراج شاهد من اهلها الذي تناول خطاب العميد ركن (م) زين العابدين عثمان مريود، الذي يؤهله للدخول في لائحة الضباط الشجعان الذين انحازوا لشعبهم ليصبحوا جزء من ايقونات الثورة. ودمتم في رعاية الله.
//////////////////////////////
بسم الله الرحمن الرحيم
اهم ما كشفت عنه الثورة السودانية منذ سقوط البشير ومرورا بمرحلة التفاوض والشراكة واتفاقية جوبا وادارة مرحلة الانتقال، وصولا لانقلاب البرهان حميدتي الهمجي، وما ترتب عليه من فوضي وغموض وانعدام ثقة وانغلاق مسارات الحلول، ان هنالك ازمة قيادة مزمنة.
ويصح ان ازمة القيادة ملازمة للدولة منذ استقلالها (الخاطئ، او رغبة اكثر منه استعداد!)، ولكن الاكثر صحة ان انقلاب الاسلامويين اضاف للازمة الوطنية المتوارثة، تعقيدات ذات طابع انشطاري اذا جاز التعبير، لتنتج هذه الازمة المركبة بدورها قيادات اكثر مأزومية، سواء في جانب الحكومة الانقاذية او الجبهة المعارضة بمختلف تشكيلاتها. وقد يرجع ذلك لاختلال معايير الاختيار للقيادات، كاستجابة لتاثير الازمة عليها. لتنزاح المعايير الموضعية (حرية الاختيار، امتلاك رؤية واضحة لطبيعة المشكلات وحجم الاحتياجات ومعقولية الطموحات، ومن ثمَّ بناء التصورات الملاءمة للتعامل معها، وفق شروط الواقع واحكامه، اضافة لامتلاك القدرة علي الاقناع وحسن الادارة والتجاوب مع العمل الجماعي، وقبل ذلك الالتزام بمصالح الوطن والايمان بحقوق وكرامة واستقلال المواطنين)، مفسحة المجال لسيادة المعايير الذاتية، وهي بطبيعة الحال اللامعايير، وغالبا نتاج لاوضاع غير طبيعية (لا شرعية).
فمن جانب الحكومة الانقلابية او غير الشرعية، تتمثل اهم معايير القيادة في الولاء والثقة والطاعة العمياء. ومن جانب المعارضة المجاهرة بمعارضة الانقلاب وصولا لرفع السلاح في وجهه.
وهذا الاستسهال (واحيانا الاستهبال!) في افراز القيادات ولا موضوعيته، هو نفسه ما جعل الاطروحات في الساحة السياسية تميل للشعاراتية والهتافية والشمولية، لتصبح سمة للحياة السياسية يعاد تدويرها من كافة الاطراف. والحال ان شعارات كالمشروع الحضاري والسودان الجديد والثورة الديمقراطية وصراع الهامش والمركز ...الخ من ادبيات، لم تتحول الي ما يشبه احلام الصحيان من فرط تطلعاتها وتحليقها فوق تحديات الواقع، ولكنها قطعت الطريق علي التركيز علي اصل المشكل والتحدي، وهو العمل علي ترسيخ معمار الدولة وتاهيلها لتقديم خدمات لكافة المواطنين، والاهم رعاية مصالحهم ومنحهم كافة الصلاحيات لتحديد مصيرهم وخيارات الحياة التي يرغبونها.
ولكن كما سلف يبدو ان تازيم الازمة خلق ازمة المعالجة، ومن ثم اللجوء ليس للحلول السحرية (الامنيات السياسية)، وانما اسطرة القيادات ومنحها قدرات الاحاطة بالازمة والسيطرة عليها واستبدالها بمعالجات جذرية! والحال كذلك، جزء من ازمة القيادة انعكست وبال علي ازمة البلاد، وهذه الاخيرة بدورها اسهمت في تجذيِّر ازمة القيادة بطريقة دائرية (قد يفسر هذا الدائرة الجهنمية).
واحتمال جذور ازمة القيادة، ترجع لغياب المؤسسية كمنهجية، وهو ما ادي لتربية غير مؤسسة للافراد، نتج عنها سيطرة النزعات والطموحات الفردية. وما زاد الطين بلة، ارتباط التميز والامتيازات بالحصول علي المركز الاول. وعلي هذا الاساس اصبح المدخل للسياسة وعلي الاخص مراكز القيادة ذا منحي شخصي تماما. اي تم استغلال السياسة لتلبية تطلعات القيادة! وهذا ما جعل السياسة لدينا من الفقر بمكان، لتتمحور حول السلطة وامتيازاتها، عوض ان تفتح المجال واسعا للحوار والمشاركة وتقاسم المنافع، وتمتين الانتماء للبلاد وحفظ كرامة العباد. والاسوأ من ذلك انها اسست لثقافة الكنكشة والتماهي بين القيادة والقائد (الكل في الكل)، ومن ثمَّ خلق جماعات مصالح تلتف حول القائد لتمنحه العظمة، ويوفر لها عوائد التقرب منه علي حساب الآخرين! اي باختصار معايير القيادة لدينا تنتج دكتاتوريات متسلطة وغير مساءلة، غض النظر عن ما تتشدق به من خطابات الحرية والديمقراطية والمؤسسية وحقوق الانسان وكل ما يتعلق بالشأن العام، ولكن عند الفضاءات الخاصة وداخل كياناتها فالامر مختلف، حيث تناقض الاقوال الافعال ، لتستبين سيطرة القائد علي الحزب او الحركة او الكيان كمملكة خاصة (والجدران ستارة، وشقي الحال من تختبره التجربة العامة).
اما اذا وجد هذا القائد مجموعة من المثقفين تسبح بحمده، فعندها يتحول لايقونة للمعرفة والقيم والحكمة والقيادة العبقرية لخلاص الامة. واذا ساعده الحظ بامتلاك لسان ذرب وفصاحة حديث كاهم مؤهلات القيادة السياسية لدينا، فعندها يمد رجليه وينداح في بذل الوعود المداعبة لاحلام المريدين والبسطاء. اما التساؤل حول كلفة هذه النوعية من القيادة، فهذه من المحرمات التي يرتكبها اعداء الحزب والحركة والكيان؟!
وبناء علي ما سبق، ما جعل هذه القيادات الوهمية تتصدر المشهد السياسي، لتمارس الازدواجية والنفاق واستغلال السلطة لمآربها الشخصية، وتصفية حساباتها مع الخصوم والترسبات التاريخية، هو غياب معايير متفق عليها للقيادة، وهو ما جعل هكذا وظيفة اساسية ومؤثرة عرضة للصدف و(الشفتنة) والغدر واجادة الخداع والتمثيل وطلاوة اللسان. واذا كانت النماذج تُعجز عن العد، فاكثرها تاكيد للخواء والغدر والانتهازية والفشل، يجسدها راهنا البرهان من جانب المؤسسة العسكرية، وقادة الحركات المسلحة وغيرهم من المشاركين في مؤامرة اتفاقية جوبا.
والحال كذلك، ليس مستغرب خط الرجعة الذي بدأ يبديه قادة الحركات المسلحة، ومحاولاتهم مد جسور التفاهم والحوار مع جماعة الحرية والتغيير المركزية، رغم ان آثار غدرهم لم تزل تنزف! وذلك بعد ان شعروا بتهديد مصالحهم، عقب اعلان البرهان الانسحاب من الحوار، واخذ موقع الوصي علي البلاد، من دون استصحاب الحركات المسلحة والاكتفاء بالدعم السريع! وما زاد التهديد مبادرة الطيب الجد التي تهدف لارجاع الفلول للسيطرة علي الدولة بصورة علنية.
وبالطبع طالما الوضع يستدعي الحوار، فقد لبس قادة الحركات المسلحة وانصارهم قناع الحرص علي المصلحة العامة (رغم انه لا يليق بهم، لكنها قلة الحياء)، وذرف دموع التماسيح علي حال البلد المائل، الذي ساهموا فيه بنصيب وافر. ولكن ما كشف مكرهم وسوء طويتهم وشرههم للسلطة واستباحة موارد البلاد، هو اعلانهم ان اتفاقية جوبا تعلو علي كل حوار او اتفاق! اي تقديس الاتفاقية بعد تسيِّجها باطار الابتزاز والمتاجرة بقضايا السلام ومعاناة النازحين! الذين لا يتذكرونهم إلا عندما يظهر شبح اعادة التفاوض وترتيب اوضاع الدولة السودانية علي اسس حديثة تقبر مطامحهم. ولكن السؤال اذا كانت اتفاقية جوبا التي تخدم قادة الحركات المسلحة حصريا، خارج التفاوض والحوار، فما معني الحوار والاتفاقيات للخروج من النفق المظلم من الاساس؟ واذا كانت الاتفاقية صالحة وجيدة لماذا لم تؤدِ لا للسلام ولا لرد المظالم للضحايا ولا لعودة النازحين ولا للتنمية ولا ساهمت في تماسك الدولة نفسها؟ بل الصحيح انها ساهمت في تفكيك النسيج الاجتماعي بعد اقحام المسارات في صلبها، لتعيد شبح الصراع القبلي، والاسوأ انها جعلت طرح الحلول الشاملة لكل مشاكل البلاد في غاية الصعوبة، بعد ان احيت المناطقية والجهوية والعنصرية علي طول البلاد وعرضها، لدرجة ان يخوض الجنرال البرهان نفسه مع الخائضين!
اما ما يثير الحزن والسخرية والقرف، ان قادة الحركات المسلحة مازالو يصرون علي ان الاتفاقية حققت السلام واوقفت الحرب ونصرة اهل دارفور، بل والتهديد بان المساس بها يعيد شبح الحرب (نعم رجال وثقافة السلام!). مع ان الجميع يعلم ان الاتفاقية تمت برغبة المكون العسكري وتحديدا حميدتي، وهو الضامن لها، وليس لقادة الحركات المسلحة إلا السمع والطاعة وتنفيذ ما يطلب منهم، نظير وجودهم في هذه المناصب والاستمتاع بالامتيازات المجانية!
كما ان الاتفاقية نفسها مؤامرة علي اهل دارفور ومصالحهم، قبل ان تكون مؤامرة علي مصالح عموم السودانيين! والدليل انها تخدم عرقية محددة، لا تخفي طموحها في بناء دولتها الخاصة! وهو عين ما يعمل من اجله حميدتي بسذاجة يحسد عليها! وهو كذلك ما يطمح اليه البرهان بالشراكة مع الفلول! وكل ذلك يعبر عن ازمة القيادة في طور التهور والافلاس! اي عندما يتصدي للقيادة من لا يملك ادني مؤهلاتها، ولا يتورع عن استغلال ازمات البلاد، ليبني عليها طموحاته الفردية في بناء دولته وما يتنظره من امجاد! وهو ما يفاقم بدوره هذه الازمات، ويجعل حلها رهين بالتخلص من هذه القيادات، وما يشكله ذلك من خطورة علي سلامة البلاد، بما تملكه تلك القيادات من قوة تاثير ونفوذ! وهذا بدوره يؤكد ما ذهبنا اليه مسبقا، عن تاثير القيادة علي الازمة، وبانحطاط القيادة الي مستوي الجنرالات المزيفين وقادة الحركات المسلحة الانتهازيين، وصلت الازمة الوطنية الي هذه الدرجة من التعقيد والبؤس والخطورة وانسداد الافق.
ولكن هذا لا يمنع ان الضفة الاخري، سواء علي مستوي قادة الحرية والتغيير او جماعة التغيير الجذري او بقية الحركات المسلحة، تعاني من ذات الداء العضال علي مستوي القيادات! فرغم فشلها في التعاطي الايجابي مع فرصة الثورة، كل بقدر مساهمته في الفشل (من شارك ومن رفض المشاركة) إلا انهم يصرون علي انهم الاحق باخراجنا من هذه الورطة المستحكمة بكل نذر شرورها!
وعموما ازمة القيادة لا تجسدها غياب المشاريع الواقعية والقدرة علي التبشير بها بين الشرائح المؤثرة، ولكن يكمن في قناعة القيادات، انه ليس هنالك احد غيرها يصلح لاداء هذا الدور! وما يكرس هذا الوهم، ان وظيفة القيادة لدينا تتمتع بكافة السلطات والامتيازات، وهي سلفا فوق المحاسبة! وكيف يجوز ذلك وهي متفردة في تكوينها وقدراتها؟ والاهم من يجرؤ علي ذلك وسيف الفصل وتشويه السمعة مسلط علي رقاب الجميع؟ لذلك لا تكترث هذه القيادات لاي تناقض بين اقوالها وافعالها، بين كونها في المعارضة او مشاركة في السلطة، فكله مبرر مهما كانت سذاجة ولا معقولية التبرير. اي القيادة لدينا هي معيار ذاتها.
في هذا السياق تبرز قيادات الحركة الشعبية، مالك عقار ياسر عرمان بثينة دينار مبارك اردول عسكوري خميس جلاب، فهذه النماذج تثير الحيرة والياس والاحباط، من شدة تقلباتها وتناقضاتها والاصرار علي اكل الكيكة والتظاهر بعدم الرغبة في الاكل! وهذه النماذج ان دلت علي شئ فهي تدل علي ان اكثر القادة جذرية في رفع شعارات النضال والهامش والحرية والعدالة والسلام ...الخ، هي عمليا الاكثر ابتعادا عنها! ومن هذه الجزئية يمكن اشتقاق معيار قد يسهل معرفة القيادات والحكم عليها، وهو الاعتدال سواء في الاقوال او المواقف. اقلاه حتي لو كان الحكم خاطئ في حقها، فسيقلل من حجم الفاجعة عندما نكتشف الخديعة!
وبناء علي اعلاه، يبدو ان ما نحتاجه ليس ذهاب قادة المكون العسكري، كاسباب اساسية للازمة الراهنة، ولكن كل قادة الطبقة السياسية والحركات المسلحة. ومن ثمَّ افساح المجال امام قيادات جديدة علي اسس حديثة، تقطع مع اساليب وممارسات القيادات القديمة بعد فقدانها الاهلية، وتحولها الي جزء من المشكلة وليس الحل بحال من الاحوال. والاهم تحديد معايير للقيادة تسهم في انتاج قادة حقيقيين وليس دكتاتوريون في لباس مدني او عسكري.
ولذلك ما نطلبه من هؤلاء القادة الناشطين في الساحة السياسية، ليس تقديم خطاب عاطفي كما فعل ابراهيم الشيخ (وهي شجاعة يشكر عليها)، ولكن فعل مزلزل يحدث اختراق في تغيير ثقافة الكنكشة، عبر تقديم استقالات جماعية واعتذار للامة السودانية والعمل من الصفوف الخلفية اذا كانت لديهم رغبة في العطاء. فهكذا فعل قادر علي السماح بالبدء في عمل تنظيمات وتحالفات واطروحات جديدة، من غير خلافات وترسبات سلبية واحكام مسبقة. ومن بعدها السعي لاسقاط الانقلاب والتاسيس لمرحلة انتقالية تفضي للدولة المدنية والتحول الديمقراطي.
واخيرا
سفر وفد الي روسيا بهذا الحجم وفي هذه الظروف الداخلية ( من فيضانات وسيول) والخارجية (التي تعيشها روسيا كدولة مارقة علي الشرعية الدولية)، يعكس طبيعة اللامبالة للمسؤولين وحالة الفوضي التي ترزح فيها البلاد بقيادة الجنرال البرهان. وهذا ما يستدعي ان تكرب المؤسسة العسكرية قاشها، وتحسم امر جنرالات المكون العسكري والحركات المسلحة، كحاضنة للفساد المالي والتردي الاداري والفوضي العارمة التي تهدد سلامة البلاد، ومن بعهدها تسليم الامانة (السلطة) لاهلها (قوي الثورة) وتلتزم دورها (الحماية) وتلزم دارها (ثكاناتها). ويكفيها شهادة احد ابطالها في حقها لتعلم اين مكانها في الدولة ومكانتها لدي الشعب، حتي تثوب الي رشدها وتسترد كرامتها! ونقصد مقال الدكتور زهير السراج شاهد من اهلها الذي تناول خطاب العميد ركن (م) زين العابدين عثمان مريود، الذي يؤهله للدخول في لائحة الضباط الشجعان الذين انحازوا لشعبهم ليصبحوا جزء من ايقونات الثورة. ودمتم في رعاية الله.
//////////////////////////////