السودان وتحديات الالتقاء على كلمة سواء!!
عبدالله مكاوي
8 October, 2022
8 October, 2022
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
يعيش السودانيون اوضاع سريالية وسيولة سلطوية لا تبشر بخير، فالدولة تعاني تغييب مؤسسات ووظائف الدولة وتعمها الفوضي من كل ناحية. وكل ذلك بسبب انقلاب 25 اكتوبر الفوضوي. وطالما الانقلاب فعل طائش، فمؤكد ان الانقلابيين شرذمة من الطائشين. لانهم في الاساس قتلة مجرمون ولصوص نهابون، كانوا يشكلون الاداة الباطشة والدرع الحامية لنظام الانقاذ الاجرامي الفاسد. وبعد قيام الثورة وغدرهم بها، تحولوا بقدرة قادر الي قادة يتحكمون في مفاصل السلطة وكل شئون البلاد. وهم سلفا تحركهم طموحات سلطوية ونوازع تسلطية ليس لها حدود، إلا بقدر قلة عقلهم وفقر قدراتهم وتجردهم من كل خصلة حميدة.
وليت الامر توقف عند حدود طموحاتهم الخرقاء الجامحة، ولكنهم سواء بحكم تشابه الطباع او انعدام المؤهلات، استعانوا بالجهلاء والانتهازية وقادة الحركات المسلحة، لمشاركتهم هذه الجبانة الهايصة. وكانت النتيجة، غير بؤس الواقع وتردي الاحوال العامة، طفح شفاهي وانحراف سلوكي ملأ الفضاء العام، من لغة سوقية وممارسات مستفزة ومظاهر همجية، تنم عن الجهل والفظاظة وقلة الحياء، اي شئ اقرب الي العودة القهقرية لما قبل الدولة السنارية. لتصك اسماعنا تهديدات قادة الحركات المسلحة باشعال الحرب في العاصمة وكبريات المدن، وترك بتقرير مصير الشرق (وكانه شريكة حياته) اذا لم يتم تعيين المطلوب للعدالة ايلاء رئيسا للوزراء! اما عن خطرفات البرهان ومستشاره وقائد صحيفته فحدث ولا حرج، خصوصا الاهانة المتعمدة للقوي المدنية والتنمر الكاذب علي البعثة الاممية! اي بصفة عامة عمل الانقلاب المشؤوم علي عسكرة السياسة والسلطة والاقتصاد والاعلام والعلاقات الخارجية، عبر فرض الوصاية واشهار التهديدات المجانية. وهذا ناهيك عن مكرمات حميدتي الذي يتعامل مع الدولة، كنظارة قبلية، يتحكم في مواردها ويحلحل مشاكلها داخل خيمة الدعم السريع. وما يحير تركيزه علي التعليم وهو من يفتقد للتعليم النظامي، ولا نعلم هل هذا مرده لعقدة التعليم المستحكمة، ام لمخطط السيطرة علي اساتذة المدارس وطلاب الجامعات (تشكيل خلايا اولاد حميدتي)! اما خراف مناوي التي اشبعها الظُرفاء تندرا وسخرية، فهي تشير الي عقدة مناوي في ترسم خُطا حميدتي دون جدوي! وحتي عندما يحاول الظهور بمظهر السياسي والقائد، كمنطقة يشعر فيها بالتفوق علي حميدتي، تخذله قدراته المتواضعة واقواله الشتراء وفضحه للمؤامرات خلف الكواليس، وكشفه عن ما يكنه صدره، كبقية قادة الحركات المسلحة، من كره ورغبة في التشفي والانتقام المضمر، من ما يسمونه بالمركز واهله! وعموما شلة الحركات المسلحة الموقعة علي اتفاقية السلام المزعومة، ما زالت تراهن علي ذات خطاب الهامش المبتذل ومصطلحاته المستهلكة، التي تدغدغ بها مشاعر اهله البسطاء، من اجل تحشيدهم صما بكما عميا لا يتساءلون، وليستمر مسلسل الاستثمار في معاناتهم، والاستعانة به في شيطنة ما يسمي بالمركز، لتمارس عليه عادة الابتزاز. وذلك رغم ان المرحلة الانتقالية التي فتحت المجال امامها لنصرة اهلها وانزال شعاراتها علي الارض، قد غدرت بها، ارضاءً للعسكر وما يملكونه من عطايا! وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي ان ازمة هؤلاء القادة مركبة، اي غير مشاعر الغبن وحاجتها للتصريف، إلا انها تشكل كذلك امتداد لازمة صراع النخبة الشمولعسكرية علي السلطة والثروة، الشئ الذي افرز حالة عدم استقرار السلطة وامتناع عن انتاج الثروة وتراكمها رغم توافر الموارد الطبيعية، لينعكس ذلك تكريسا لانتكاسة مزمنة (دوران في حلقة شريرة مفرغة) عاقت مشروع بناء دولة مدنية، وتشكيل لحمة وطنية، وتوطين تنمية مستدامة. والحال كذلك، ما يعيب قادة الحركات المسلحة انهم انحطوا بالصراع الي اسوأ درجاته، بعد استدعاء عوامل القبيلة والجهوية وتصفية الحسابات التاريخية المتوهمة.
والمحصلة، صعدت الي سدة السلطة علي اكتاف الانقلاب شخصيات ومجموعات طموحة، تفتقر للمؤهلات ومواصفات رجال الدولة. والاسوأ من ذلك اصبحت تدير الدولة علي طريقة العصابات والرباطة، وهي توظف اجهزة الدولة ومناصبها العليا، لنهب موارد الدولة المحتلة وللتغطية علي الفساد والجرائم والانتهاكات! والحال كذلك، لاتعاني الدولة تعدد المجموعات والشخصيات المغامرة، كدول موازية تعبر عن جنرالات ومليشيات وعرقيات، ولكن يبدو اننا نعاني حالة ردة تاريخية انعكست علي المفاهيم والمشاعر والسلوكيات. اي هذه المجموعات المسيطرة (وتابعتها المغفلة النافعة، كترك ممثل للادارة الاهلية والجد كممثل للطرق الصوفية وهجو ومبارك الفاضل كتكريس للانتهازية العابرة للانظمة والانقلابات والمراحل الانتقالية) تنتمي فعليا لعصور وحقب وممارسات موغلة في القدم، وتصر علي فرض نموذجها وقيمها علي الدولة واهلها. والسؤال والحال هذه، كيف يمكن الإلتقاء مع هذه الشرذمة الماضوية الهمجية (قبل الدولتية) المسيطرة علي الدولة ومصيرها، وهي سلفا لا تعيش الا في بيئة الفوضي، وتتعارض مصالحها بل و وجودها مع دولة المؤسسات والقانون والعدالة؟!
من الجهة المقابلة نجد القوي المعارضة سواء لجان المقاومة او قوي الحرية والتغيير تسعي لاستعادة المرحلة الانتقالية، كنقطة انطلاق لبناء الدولة المدنية وترسيخ النهج الديمقراطي كآلية لتداول السلطة سلميا، ومن ثمَّ انصراف كل مؤسسة وجهة لاداء دورها المنوط بها.
ولكن ما يميز لجان المقاومة انها تنتمي للمستقبل كلغة عصرية وانماط تفكير متحررة ومفاهيم حديثة تتطلع للمواكبة، وجرأة منقطعة النظير تدفعها لتقديم التضحيات بسخاء علي طريق الثورة. ولكن هذا لا يمنع حاجتها للاستفادة من الخبرات السياسية المتراكمة وتجارب الدول الاخري، لسد ثغرة النضج الماثلة، سواء في طرحها او اصرارها علي الوقوع في ذات فخ النخب الذي تسعي لتجاوزه، والذي ادي لحالة التشرذم والانقسام المزمنة التي تسم التجربة السياسية، وتمنع إلتقاءها في منتصف الطريق، كشركاء في ذات الدولة ولهم نفس الحقوق والواجبات! والمقصود هو التمسك بذات النهج والآليات والمطالب، غض النظر عن المتغيرات، ومن ثمَّ الاصرار علي التزام الآخرين خطهم او رفضهم. وصحيح ان خذلانهم من جانب الحرية والتغيير عبر مفاوضتها ومشاركتها الفاشلة مع العسكر، وكذلك استمرار نهج العسكر بخيانة العهود والغدر بالشركاء، بلؤم واستفزاز، يجعل التعامل معهم او الوثوق بهم يدخل في باب الغفلة والتفريط. اسهم بقدر كبير في تمترس لجان المقاومة داخل طرحها وطموحاتها. ولكن الاكثر صحة ان مشاعر الاحباط او رد فعل الخذلان، لا تُنجح ثورة او تبني دولة! فهكذا نجاح وبنيان يحتاجان للتخطيط والعمل المشترك، ومعرفة الواقع والقدرات والفرص المتاحة، لتحديد افضل الخيارات للتعامل معها، وكذلك دراسة التجارب الخاصة، والمماثلة للآخرين، لتفادي تكرار الاخطاء.
وما يلاحظ علي اطروحات لجان المقاومة انها تركز علي توصيف الازمة وكيفية معالجتها والوصول بها للآمال والتطلعات المرغوبة، اما ادوات انجاز ذلك، ومدي ملاءمتها للواقع المحيط والظروف الراهنة، فهنا تكمن نقطة الضعف المركزية. لذلك ليس مصادفة ان يكون هنالك خلط بين المشروع البديل الذي يطمح لتجاوز النخب السياسية باخطاءها ووجودها، وبين الاداة وهي حراك الشارع! بمعني الفعل الثوري ليس هو المشروع السياسي ولا ينوب عنه وادواته الاحزاب ولا يحق له، ولكنه وسيلة لازاحة العقبات الكاداء الكابحة للحياة السياسية المعافاة، وتحرير الفضاء العام من الاستبداد والاحتكار والوصاية. اي الفعل الثوري يجب ان يتوجه ضد الانقلابات والطغيان والدكتاتوريات، وليس ضد الجميع دون فرز. وإلا تحول هو نفسها لبديل عن الدكتاتورية باسم الشرعية الثورية! وبكلام اكثر وضوح، هل الغرض من الثورة التاسيس للدولة المدنية والتحول الديمقراطي ام شئ آخر؟ فاذا كان الغرض الدولة المدنية والتحول الديمقراطي فهذه لها اشتراطاتها وظروفها المساعدة علي نجاحها، وهي للاسف في اللحظة الراهنة والوضعية القائمة تكاد تكون شحيحة او غائبة تماما! وهو ما يجعل هدف الثورة المرحلي هو استعادة الدولة المختطفة، ومن ثمَّ تهيئة الظروف المساعدة وتحييد الظروف المجهضة للتحول الديمقراطي. اما الخبر السيئ للجان المقاومة فواحد من شروط التحول هو التفاوض مع العسكر المرفوض من جانبها، حتي ولو كان رفض مشروط! وكذلك اتساع القاعدة المرحبة بالتحول الديمقراطي، وهذا يستدعي من لجان المقاومة توسيع مواعينها وتحالفاتها لاستيعاب اوسع طيف سياسي ومهني ومجتمعي، وليس تضييقها والاشتباه في نوايا الحلفاء والراغبين في الانضمام لها بما يشبه فحص الادلة الجنائية! وليس هذا فحسب، بل حتي المجتمع الدولي والدول الاقليمية لها تاثير كبير علي الانتقال الديمقراطي! والحال كذلك، لا يعني رفضها او لعنها ان تاثيرها سيتوقف. وغيرها من مستحقات (اكراهات) الانتقال الديمقراطي، التي يجب وضعها في الحسبان مهما كان راينا فيها او كرهنا واحتقارنا لها؟ فهل لجان المقاومة جاهزة لتخطي عقبة الخذلان والاحباط والارتقاء للروح والرؤية النيلسون ماندلية المتسامحة الناضجة، التي تركز علي المستقبل؟ ام تكنكش في ميثاقها وتحيله الي بقرة مقدسة؟
اما قوي الحرية والتغيير غض النظر عن الراي فيها (لان الكلام علي الواقعية السياسية) فهي ابنة الحاضر، وتتحدث لغة الحاضر، وتستجيب لاكراهات الواقع، ولذلك هي تضع حساب للحلول السياسية والقوي الخارجية وتوازن القوي الداخلية. اي بصفة عامة هي الاكثر دراية وتعاطي مع احتياجات (ضغوطات) التحول الديمقراطي، وعليه هي الاكثر تاهيل للعب هذا الدور، اذا ما تجاوزت اخطاءها الكارثية بصرامة وجدية، ونجحت في بناء تحالف معارض جامع. ولكن نقطة ضعف قوي الحرية والتغيير التي سلبتها هذا الدور، او اضعفتها وشككت فيها ككيان، وبما ادخلنا في نفق التشظي المقلق في الجبهة المدنية المعارضة، هو ليس شراكتها مع العسكر ولكن رهانها علي العسكر، وتغافلها عن تربصهم وتمرير اخطاءهم وتجاوزاتهم، طمعا في شراء رضائهم، حتي كافأهم العسكر بانقلابه عليهم! وهذا مرده السذاجة السياسية الناتجة عن ضعف الخبرة في مجال السلطة (وهذا ما يجب تنبيه لجان المقاومة لمزالقه).
ومن سخرية قدر هذه البلاد المنكوبة، ان واقعية قوي الحرية والتغيير كتشكيل سياسي، يتطلع للتعاطي سياسيا مع محنة الانقلاب، لا يمانع التفاوض والتسوية لانهاء الانقلاب، رغم الكلفة الثورية لذلك وسط الثوار، ولكن المشكلة ان المكون العسكري غير آهل للثقة او راغب في انهاء الانقلاب، كما انه يستثمر في زيادة شُقة الخلاف بين الحرية والتغيير ولجان المقاومة، ولا يكُف عن تحريض ذراعه المصطنعة قوي الحرية والتغير الميثاق الوطني لتعكير صفو المعارضة.
وللاسف هذه الواقعية السياسية يتم الاساءة اليها بصورة مستمرة وتصويرها كوقوع في حضن العسكر وتمرير لمخطاطاتهم، في حين ان من رغب في ذلك تم احتضانه وما زال يستمتع بعائد خيانته (الحركات المسلحة)! ويبدو ان منبع هذه التصورات الخاطئة غالبا الرؤية او المشروع او الغايات المخالفة، ولكن خطورة ذلك انه يعقد مشهد محتقن سلفا ولا ينقصه الاحتقان. وكذلك الدفاع عن الواقعية لا يعني اعفاء الحرية والتغيير من مسؤولية اخطاءها وتقصيرها واهدارها فرصة خلاص الدولة من محنتها التاريخية، وفيما آلت اليه هذه الاوضاع المتردية. وهذا كما سلف يقلل من قدرتها علي اداء دورها المستقبلي كما ينبغي دون دفع اكلافه! ومن هنا مدي حاجتها للجان المقاومة لرد الاحترام لدورها المصداقية لقدرتها. ولكن صعوبة الإلتقاء تكمن ليس من فقدان ثقة اللجان في مصداقية ومقدرة قوي التغيير فقط، ولكن الاهم في منهجية العمل المعبرة عن طبيعة التكوين والوظيفة. ففي حين تتعامل قوي التغيير بلغة سياسية، تستصحب التحديات بواقعية، ومن ثمَّ تعتبر الحراك الثوري اداة ضمن الادوات. نجد ان لجان المقاومة تستعيض بالحراك الثوري عن الواقعية السياسية والكيانات السياسية، او الحراك الثوري هو مشروع التغيير وليس اداة التغيير! والحال ان هذا ليس مصادفة، ولكنه يرجع لطريقة تشكيل اللجان وعملها طوال الفترة السابقة، قبل انتباهها للجانب السياسي المرتبط بالقوي السياسية الراغبة في تجاوزها! لتعمل علي توحيد مواثيقها وتصنع برنامجها البديل، ولكن علي ذات الخلفية (الاداة الثورية) التي اسهمت في تكوينها واكسبتها كل ذاك الزخم والاحترام. والسؤال تكوين بهذه الخلفية وتلك التطلعات، هل سيسهم في تقارب الشُقة بين الطرفين المدنيين، ام يعمق من جراح الانقسام كعادة موروثة، خاصة عندما تعتقد لجان المقاومة انها اصبحت ليست في حاجة لقوي الحرية والتغيير، ان لم نقل في حِل عن القوي السياسية بصفة عامة؟
وبناء علي ما سبق يستبين ان هنالك عقبتان تقفان في طريق الثورة وخلاص البلاد واهلها، العقبة الاولي والاخطر يمثلها حكم القتلة اللصوص، واستماتتهم في التمسك بالحكم، عبر استخدام آليات المماطلة والالتفاف، العنف والارهاب، العمالة والارتزاق، وتصدير الفتن وخلق الازمات للمكون المدني، غض النظر عن ما يترتب علي ذلك، سواء ما تتعرض له الدولة من تدهور وانهيار، او حياة المواطنين من انهاك وشقاء. لان اي ترتيبات جادة وحقيقية لقيام دولة مدنية حديثة، او انجاز تجربة ديمقراطية بديلة، ستخرجهم من المشهد نهائيا، ان لم تحضرهم امام القضاء لمحاكمتهم علي جرائمهم وفسادهم.
والعقبة الثانية، هي كيفية استعادة الثقة بين مكونات الجبهة المعارضة، بعد تجربة مريرة من الاحباط والخذلان؟
والخلاص من هذه العقبات يبدو انه يتطلب وعي متجاوز وبذل جهد نفسي يسمح ببناء روح معافاة جديدة تجمع بين جميع الفرقاء (شركاء الوطن). وفي حال تعذر ذلك، ليس هنالك من سبيل سوي تحشيد كتلة جماهيرية ضخمة لمما رسة ضغوط شديدة علي كل الاطراف، وهو ما يحتاج بدوره لتعبئة شاملة وتنويع انواع المقاومة، ومن ثمَّ يضع المعارضة بمختلف تشكيلاتها امام الامر الواقع، اي فرض وحدتها المرحلية حتي لا تتجاوزها الاحداث، اقلاه علي هدف وخطوات اسقاط الانقلاب وتكملة الفترة الانتقالية. وذلك بالتزامن مع فتح قنوات اتصال مع المؤسسة العسكرية لاقناعها بالانفضاض من حول الجنرالات المجرمين. اما اذا كانت التعبئة اقل من الشمول والمقاومة اضعف من فرض موازين القوي الحاسمة لانتصار الثورة كليا، عندها يمكن التفاوض مع الجنرالات وتوفير الضمانات لهم بالخروج الآمن من المشهد ومنحهم بعض الامتيازات، حتي لا يلجأون للخيار الشمسوني الذي يخسر فيه الجميع. اما اذا كانت التعبئة والمقامة اقل من ذلك بكثير، ووصلنا لحالة توازن الضعف المفضي لاحتمالات لا تبشر بانفراج، فلا مفر من الوصول لتسوية جديدة مع هؤلاء الجنرالات، ولكن بالاستفادة من اخطاء الفترة الماضية وتوافر ضمانات، لمنع تكرارها، وهو طريق طويل ومحفوف بالمخاطر وملئ بالاحباطات، والبقاء علي حافة الحذر، والتنازل عن كثير من التطلعات المدنية والديمقراطيىة والعدلية آنيا، ولكنه اقل كلفة بشرية واكثر محافظة علي الدولة من الانهيار. اقلاه هذا من باب حل سيئ، افضل من حالة عدم الحلول، التي قد تتدهور فيها الاوضاع بصورة مطردة، وتغلق فيها ابواب الامل بالعنف والارهاب.
ولكن ما يجعل المشهد الراهن اكثر التباس وظلامية، هي حالة الاستقطاب الحادة بين السلطة الانقلابية الحاكمة من جهة والقوي الثورية والحزبية المعارضة من جهة، والاسوأ داخل القوي الاخيرة فيما بينها من اجل قيادة الجبهة المعارضة. لتصبح هذه الحالة الانفعالية هي المزاج الذي يحكم المشهد، ويضعف طرح اي حلول عقلانية او مبادرات عملية، بل وتعلي من نجم صعود المتطرفين والجذريين في كلا المعسكرين، الذين يعبرون حقا عن عواطف الكره المتأججة في النفوس، لتكثر تهم التخوين والهبوط الناعم وتتحول التسوية من فعل سياسي حكيم الي شتيمة في جبهة المعارضة. وفي جانب السلطة الانقلابية يسود تحريض القوات المسلحة والمليشيات واجهزة الامن والشرطة علي القوي الثورية والمعارضة. والمحصلة، بدل تداعي الجميع لتهيئة المناخ، للوصول لحلول واقعية تخرج البلاد من محنتها. يتسابق الفاعلون في المشهد، لتسميم الاجواء، ظنا ان في وسع اي منهم حسم الامر لصالحه. اما المأساة الحقيقية ان كل ذلك يحدث في ظل ظروف اقتصادية كارثية وتزداد سوءً يوما بعد يوم، مما ينذر بدخول البلاد مرحلة الفشل الشامل، ومن ثمَّ استحالة الحلول السيئة وغير السيئة.
واخيرا
لو كان هنالك عشم بنسبة 1% في انحياز المؤسسة العسكرية لدعم الثورة والوقوف مع الشعب، لكان هنالك حديث آخر. ودمتم في رعاية الله.
///////////////////////
بسم الله الرحمن الرحيم
يعيش السودانيون اوضاع سريالية وسيولة سلطوية لا تبشر بخير، فالدولة تعاني تغييب مؤسسات ووظائف الدولة وتعمها الفوضي من كل ناحية. وكل ذلك بسبب انقلاب 25 اكتوبر الفوضوي. وطالما الانقلاب فعل طائش، فمؤكد ان الانقلابيين شرذمة من الطائشين. لانهم في الاساس قتلة مجرمون ولصوص نهابون، كانوا يشكلون الاداة الباطشة والدرع الحامية لنظام الانقاذ الاجرامي الفاسد. وبعد قيام الثورة وغدرهم بها، تحولوا بقدرة قادر الي قادة يتحكمون في مفاصل السلطة وكل شئون البلاد. وهم سلفا تحركهم طموحات سلطوية ونوازع تسلطية ليس لها حدود، إلا بقدر قلة عقلهم وفقر قدراتهم وتجردهم من كل خصلة حميدة.
وليت الامر توقف عند حدود طموحاتهم الخرقاء الجامحة، ولكنهم سواء بحكم تشابه الطباع او انعدام المؤهلات، استعانوا بالجهلاء والانتهازية وقادة الحركات المسلحة، لمشاركتهم هذه الجبانة الهايصة. وكانت النتيجة، غير بؤس الواقع وتردي الاحوال العامة، طفح شفاهي وانحراف سلوكي ملأ الفضاء العام، من لغة سوقية وممارسات مستفزة ومظاهر همجية، تنم عن الجهل والفظاظة وقلة الحياء، اي شئ اقرب الي العودة القهقرية لما قبل الدولة السنارية. لتصك اسماعنا تهديدات قادة الحركات المسلحة باشعال الحرب في العاصمة وكبريات المدن، وترك بتقرير مصير الشرق (وكانه شريكة حياته) اذا لم يتم تعيين المطلوب للعدالة ايلاء رئيسا للوزراء! اما عن خطرفات البرهان ومستشاره وقائد صحيفته فحدث ولا حرج، خصوصا الاهانة المتعمدة للقوي المدنية والتنمر الكاذب علي البعثة الاممية! اي بصفة عامة عمل الانقلاب المشؤوم علي عسكرة السياسة والسلطة والاقتصاد والاعلام والعلاقات الخارجية، عبر فرض الوصاية واشهار التهديدات المجانية. وهذا ناهيك عن مكرمات حميدتي الذي يتعامل مع الدولة، كنظارة قبلية، يتحكم في مواردها ويحلحل مشاكلها داخل خيمة الدعم السريع. وما يحير تركيزه علي التعليم وهو من يفتقد للتعليم النظامي، ولا نعلم هل هذا مرده لعقدة التعليم المستحكمة، ام لمخطط السيطرة علي اساتذة المدارس وطلاب الجامعات (تشكيل خلايا اولاد حميدتي)! اما خراف مناوي التي اشبعها الظُرفاء تندرا وسخرية، فهي تشير الي عقدة مناوي في ترسم خُطا حميدتي دون جدوي! وحتي عندما يحاول الظهور بمظهر السياسي والقائد، كمنطقة يشعر فيها بالتفوق علي حميدتي، تخذله قدراته المتواضعة واقواله الشتراء وفضحه للمؤامرات خلف الكواليس، وكشفه عن ما يكنه صدره، كبقية قادة الحركات المسلحة، من كره ورغبة في التشفي والانتقام المضمر، من ما يسمونه بالمركز واهله! وعموما شلة الحركات المسلحة الموقعة علي اتفاقية السلام المزعومة، ما زالت تراهن علي ذات خطاب الهامش المبتذل ومصطلحاته المستهلكة، التي تدغدغ بها مشاعر اهله البسطاء، من اجل تحشيدهم صما بكما عميا لا يتساءلون، وليستمر مسلسل الاستثمار في معاناتهم، والاستعانة به في شيطنة ما يسمي بالمركز، لتمارس عليه عادة الابتزاز. وذلك رغم ان المرحلة الانتقالية التي فتحت المجال امامها لنصرة اهلها وانزال شعاراتها علي الارض، قد غدرت بها، ارضاءً للعسكر وما يملكونه من عطايا! وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي ان ازمة هؤلاء القادة مركبة، اي غير مشاعر الغبن وحاجتها للتصريف، إلا انها تشكل كذلك امتداد لازمة صراع النخبة الشمولعسكرية علي السلطة والثروة، الشئ الذي افرز حالة عدم استقرار السلطة وامتناع عن انتاج الثروة وتراكمها رغم توافر الموارد الطبيعية، لينعكس ذلك تكريسا لانتكاسة مزمنة (دوران في حلقة شريرة مفرغة) عاقت مشروع بناء دولة مدنية، وتشكيل لحمة وطنية، وتوطين تنمية مستدامة. والحال كذلك، ما يعيب قادة الحركات المسلحة انهم انحطوا بالصراع الي اسوأ درجاته، بعد استدعاء عوامل القبيلة والجهوية وتصفية الحسابات التاريخية المتوهمة.
والمحصلة، صعدت الي سدة السلطة علي اكتاف الانقلاب شخصيات ومجموعات طموحة، تفتقر للمؤهلات ومواصفات رجال الدولة. والاسوأ من ذلك اصبحت تدير الدولة علي طريقة العصابات والرباطة، وهي توظف اجهزة الدولة ومناصبها العليا، لنهب موارد الدولة المحتلة وللتغطية علي الفساد والجرائم والانتهاكات! والحال كذلك، لاتعاني الدولة تعدد المجموعات والشخصيات المغامرة، كدول موازية تعبر عن جنرالات ومليشيات وعرقيات، ولكن يبدو اننا نعاني حالة ردة تاريخية انعكست علي المفاهيم والمشاعر والسلوكيات. اي هذه المجموعات المسيطرة (وتابعتها المغفلة النافعة، كترك ممثل للادارة الاهلية والجد كممثل للطرق الصوفية وهجو ومبارك الفاضل كتكريس للانتهازية العابرة للانظمة والانقلابات والمراحل الانتقالية) تنتمي فعليا لعصور وحقب وممارسات موغلة في القدم، وتصر علي فرض نموذجها وقيمها علي الدولة واهلها. والسؤال والحال هذه، كيف يمكن الإلتقاء مع هذه الشرذمة الماضوية الهمجية (قبل الدولتية) المسيطرة علي الدولة ومصيرها، وهي سلفا لا تعيش الا في بيئة الفوضي، وتتعارض مصالحها بل و وجودها مع دولة المؤسسات والقانون والعدالة؟!
من الجهة المقابلة نجد القوي المعارضة سواء لجان المقاومة او قوي الحرية والتغيير تسعي لاستعادة المرحلة الانتقالية، كنقطة انطلاق لبناء الدولة المدنية وترسيخ النهج الديمقراطي كآلية لتداول السلطة سلميا، ومن ثمَّ انصراف كل مؤسسة وجهة لاداء دورها المنوط بها.
ولكن ما يميز لجان المقاومة انها تنتمي للمستقبل كلغة عصرية وانماط تفكير متحررة ومفاهيم حديثة تتطلع للمواكبة، وجرأة منقطعة النظير تدفعها لتقديم التضحيات بسخاء علي طريق الثورة. ولكن هذا لا يمنع حاجتها للاستفادة من الخبرات السياسية المتراكمة وتجارب الدول الاخري، لسد ثغرة النضج الماثلة، سواء في طرحها او اصرارها علي الوقوع في ذات فخ النخب الذي تسعي لتجاوزه، والذي ادي لحالة التشرذم والانقسام المزمنة التي تسم التجربة السياسية، وتمنع إلتقاءها في منتصف الطريق، كشركاء في ذات الدولة ولهم نفس الحقوق والواجبات! والمقصود هو التمسك بذات النهج والآليات والمطالب، غض النظر عن المتغيرات، ومن ثمَّ الاصرار علي التزام الآخرين خطهم او رفضهم. وصحيح ان خذلانهم من جانب الحرية والتغيير عبر مفاوضتها ومشاركتها الفاشلة مع العسكر، وكذلك استمرار نهج العسكر بخيانة العهود والغدر بالشركاء، بلؤم واستفزاز، يجعل التعامل معهم او الوثوق بهم يدخل في باب الغفلة والتفريط. اسهم بقدر كبير في تمترس لجان المقاومة داخل طرحها وطموحاتها. ولكن الاكثر صحة ان مشاعر الاحباط او رد فعل الخذلان، لا تُنجح ثورة او تبني دولة! فهكذا نجاح وبنيان يحتاجان للتخطيط والعمل المشترك، ومعرفة الواقع والقدرات والفرص المتاحة، لتحديد افضل الخيارات للتعامل معها، وكذلك دراسة التجارب الخاصة، والمماثلة للآخرين، لتفادي تكرار الاخطاء.
وما يلاحظ علي اطروحات لجان المقاومة انها تركز علي توصيف الازمة وكيفية معالجتها والوصول بها للآمال والتطلعات المرغوبة، اما ادوات انجاز ذلك، ومدي ملاءمتها للواقع المحيط والظروف الراهنة، فهنا تكمن نقطة الضعف المركزية. لذلك ليس مصادفة ان يكون هنالك خلط بين المشروع البديل الذي يطمح لتجاوز النخب السياسية باخطاءها ووجودها، وبين الاداة وهي حراك الشارع! بمعني الفعل الثوري ليس هو المشروع السياسي ولا ينوب عنه وادواته الاحزاب ولا يحق له، ولكنه وسيلة لازاحة العقبات الكاداء الكابحة للحياة السياسية المعافاة، وتحرير الفضاء العام من الاستبداد والاحتكار والوصاية. اي الفعل الثوري يجب ان يتوجه ضد الانقلابات والطغيان والدكتاتوريات، وليس ضد الجميع دون فرز. وإلا تحول هو نفسها لبديل عن الدكتاتورية باسم الشرعية الثورية! وبكلام اكثر وضوح، هل الغرض من الثورة التاسيس للدولة المدنية والتحول الديمقراطي ام شئ آخر؟ فاذا كان الغرض الدولة المدنية والتحول الديمقراطي فهذه لها اشتراطاتها وظروفها المساعدة علي نجاحها، وهي للاسف في اللحظة الراهنة والوضعية القائمة تكاد تكون شحيحة او غائبة تماما! وهو ما يجعل هدف الثورة المرحلي هو استعادة الدولة المختطفة، ومن ثمَّ تهيئة الظروف المساعدة وتحييد الظروف المجهضة للتحول الديمقراطي. اما الخبر السيئ للجان المقاومة فواحد من شروط التحول هو التفاوض مع العسكر المرفوض من جانبها، حتي ولو كان رفض مشروط! وكذلك اتساع القاعدة المرحبة بالتحول الديمقراطي، وهذا يستدعي من لجان المقاومة توسيع مواعينها وتحالفاتها لاستيعاب اوسع طيف سياسي ومهني ومجتمعي، وليس تضييقها والاشتباه في نوايا الحلفاء والراغبين في الانضمام لها بما يشبه فحص الادلة الجنائية! وليس هذا فحسب، بل حتي المجتمع الدولي والدول الاقليمية لها تاثير كبير علي الانتقال الديمقراطي! والحال كذلك، لا يعني رفضها او لعنها ان تاثيرها سيتوقف. وغيرها من مستحقات (اكراهات) الانتقال الديمقراطي، التي يجب وضعها في الحسبان مهما كان راينا فيها او كرهنا واحتقارنا لها؟ فهل لجان المقاومة جاهزة لتخطي عقبة الخذلان والاحباط والارتقاء للروح والرؤية النيلسون ماندلية المتسامحة الناضجة، التي تركز علي المستقبل؟ ام تكنكش في ميثاقها وتحيله الي بقرة مقدسة؟
اما قوي الحرية والتغيير غض النظر عن الراي فيها (لان الكلام علي الواقعية السياسية) فهي ابنة الحاضر، وتتحدث لغة الحاضر، وتستجيب لاكراهات الواقع، ولذلك هي تضع حساب للحلول السياسية والقوي الخارجية وتوازن القوي الداخلية. اي بصفة عامة هي الاكثر دراية وتعاطي مع احتياجات (ضغوطات) التحول الديمقراطي، وعليه هي الاكثر تاهيل للعب هذا الدور، اذا ما تجاوزت اخطاءها الكارثية بصرامة وجدية، ونجحت في بناء تحالف معارض جامع. ولكن نقطة ضعف قوي الحرية والتغيير التي سلبتها هذا الدور، او اضعفتها وشككت فيها ككيان، وبما ادخلنا في نفق التشظي المقلق في الجبهة المدنية المعارضة، هو ليس شراكتها مع العسكر ولكن رهانها علي العسكر، وتغافلها عن تربصهم وتمرير اخطاءهم وتجاوزاتهم، طمعا في شراء رضائهم، حتي كافأهم العسكر بانقلابه عليهم! وهذا مرده السذاجة السياسية الناتجة عن ضعف الخبرة في مجال السلطة (وهذا ما يجب تنبيه لجان المقاومة لمزالقه).
ومن سخرية قدر هذه البلاد المنكوبة، ان واقعية قوي الحرية والتغيير كتشكيل سياسي، يتطلع للتعاطي سياسيا مع محنة الانقلاب، لا يمانع التفاوض والتسوية لانهاء الانقلاب، رغم الكلفة الثورية لذلك وسط الثوار، ولكن المشكلة ان المكون العسكري غير آهل للثقة او راغب في انهاء الانقلاب، كما انه يستثمر في زيادة شُقة الخلاف بين الحرية والتغيير ولجان المقاومة، ولا يكُف عن تحريض ذراعه المصطنعة قوي الحرية والتغير الميثاق الوطني لتعكير صفو المعارضة.
وللاسف هذه الواقعية السياسية يتم الاساءة اليها بصورة مستمرة وتصويرها كوقوع في حضن العسكر وتمرير لمخطاطاتهم، في حين ان من رغب في ذلك تم احتضانه وما زال يستمتع بعائد خيانته (الحركات المسلحة)! ويبدو ان منبع هذه التصورات الخاطئة غالبا الرؤية او المشروع او الغايات المخالفة، ولكن خطورة ذلك انه يعقد مشهد محتقن سلفا ولا ينقصه الاحتقان. وكذلك الدفاع عن الواقعية لا يعني اعفاء الحرية والتغيير من مسؤولية اخطاءها وتقصيرها واهدارها فرصة خلاص الدولة من محنتها التاريخية، وفيما آلت اليه هذه الاوضاع المتردية. وهذا كما سلف يقلل من قدرتها علي اداء دورها المستقبلي كما ينبغي دون دفع اكلافه! ومن هنا مدي حاجتها للجان المقاومة لرد الاحترام لدورها المصداقية لقدرتها. ولكن صعوبة الإلتقاء تكمن ليس من فقدان ثقة اللجان في مصداقية ومقدرة قوي التغيير فقط، ولكن الاهم في منهجية العمل المعبرة عن طبيعة التكوين والوظيفة. ففي حين تتعامل قوي التغيير بلغة سياسية، تستصحب التحديات بواقعية، ومن ثمَّ تعتبر الحراك الثوري اداة ضمن الادوات. نجد ان لجان المقاومة تستعيض بالحراك الثوري عن الواقعية السياسية والكيانات السياسية، او الحراك الثوري هو مشروع التغيير وليس اداة التغيير! والحال ان هذا ليس مصادفة، ولكنه يرجع لطريقة تشكيل اللجان وعملها طوال الفترة السابقة، قبل انتباهها للجانب السياسي المرتبط بالقوي السياسية الراغبة في تجاوزها! لتعمل علي توحيد مواثيقها وتصنع برنامجها البديل، ولكن علي ذات الخلفية (الاداة الثورية) التي اسهمت في تكوينها واكسبتها كل ذاك الزخم والاحترام. والسؤال تكوين بهذه الخلفية وتلك التطلعات، هل سيسهم في تقارب الشُقة بين الطرفين المدنيين، ام يعمق من جراح الانقسام كعادة موروثة، خاصة عندما تعتقد لجان المقاومة انها اصبحت ليست في حاجة لقوي الحرية والتغيير، ان لم نقل في حِل عن القوي السياسية بصفة عامة؟
وبناء علي ما سبق يستبين ان هنالك عقبتان تقفان في طريق الثورة وخلاص البلاد واهلها، العقبة الاولي والاخطر يمثلها حكم القتلة اللصوص، واستماتتهم في التمسك بالحكم، عبر استخدام آليات المماطلة والالتفاف، العنف والارهاب، العمالة والارتزاق، وتصدير الفتن وخلق الازمات للمكون المدني، غض النظر عن ما يترتب علي ذلك، سواء ما تتعرض له الدولة من تدهور وانهيار، او حياة المواطنين من انهاك وشقاء. لان اي ترتيبات جادة وحقيقية لقيام دولة مدنية حديثة، او انجاز تجربة ديمقراطية بديلة، ستخرجهم من المشهد نهائيا، ان لم تحضرهم امام القضاء لمحاكمتهم علي جرائمهم وفسادهم.
والعقبة الثانية، هي كيفية استعادة الثقة بين مكونات الجبهة المعارضة، بعد تجربة مريرة من الاحباط والخذلان؟
والخلاص من هذه العقبات يبدو انه يتطلب وعي متجاوز وبذل جهد نفسي يسمح ببناء روح معافاة جديدة تجمع بين جميع الفرقاء (شركاء الوطن). وفي حال تعذر ذلك، ليس هنالك من سبيل سوي تحشيد كتلة جماهيرية ضخمة لمما رسة ضغوط شديدة علي كل الاطراف، وهو ما يحتاج بدوره لتعبئة شاملة وتنويع انواع المقاومة، ومن ثمَّ يضع المعارضة بمختلف تشكيلاتها امام الامر الواقع، اي فرض وحدتها المرحلية حتي لا تتجاوزها الاحداث، اقلاه علي هدف وخطوات اسقاط الانقلاب وتكملة الفترة الانتقالية. وذلك بالتزامن مع فتح قنوات اتصال مع المؤسسة العسكرية لاقناعها بالانفضاض من حول الجنرالات المجرمين. اما اذا كانت التعبئة اقل من الشمول والمقاومة اضعف من فرض موازين القوي الحاسمة لانتصار الثورة كليا، عندها يمكن التفاوض مع الجنرالات وتوفير الضمانات لهم بالخروج الآمن من المشهد ومنحهم بعض الامتيازات، حتي لا يلجأون للخيار الشمسوني الذي يخسر فيه الجميع. اما اذا كانت التعبئة والمقامة اقل من ذلك بكثير، ووصلنا لحالة توازن الضعف المفضي لاحتمالات لا تبشر بانفراج، فلا مفر من الوصول لتسوية جديدة مع هؤلاء الجنرالات، ولكن بالاستفادة من اخطاء الفترة الماضية وتوافر ضمانات، لمنع تكرارها، وهو طريق طويل ومحفوف بالمخاطر وملئ بالاحباطات، والبقاء علي حافة الحذر، والتنازل عن كثير من التطلعات المدنية والديمقراطيىة والعدلية آنيا، ولكنه اقل كلفة بشرية واكثر محافظة علي الدولة من الانهيار. اقلاه هذا من باب حل سيئ، افضل من حالة عدم الحلول، التي قد تتدهور فيها الاوضاع بصورة مطردة، وتغلق فيها ابواب الامل بالعنف والارهاب.
ولكن ما يجعل المشهد الراهن اكثر التباس وظلامية، هي حالة الاستقطاب الحادة بين السلطة الانقلابية الحاكمة من جهة والقوي الثورية والحزبية المعارضة من جهة، والاسوأ داخل القوي الاخيرة فيما بينها من اجل قيادة الجبهة المعارضة. لتصبح هذه الحالة الانفعالية هي المزاج الذي يحكم المشهد، ويضعف طرح اي حلول عقلانية او مبادرات عملية، بل وتعلي من نجم صعود المتطرفين والجذريين في كلا المعسكرين، الذين يعبرون حقا عن عواطف الكره المتأججة في النفوس، لتكثر تهم التخوين والهبوط الناعم وتتحول التسوية من فعل سياسي حكيم الي شتيمة في جبهة المعارضة. وفي جانب السلطة الانقلابية يسود تحريض القوات المسلحة والمليشيات واجهزة الامن والشرطة علي القوي الثورية والمعارضة. والمحصلة، بدل تداعي الجميع لتهيئة المناخ، للوصول لحلول واقعية تخرج البلاد من محنتها. يتسابق الفاعلون في المشهد، لتسميم الاجواء، ظنا ان في وسع اي منهم حسم الامر لصالحه. اما المأساة الحقيقية ان كل ذلك يحدث في ظل ظروف اقتصادية كارثية وتزداد سوءً يوما بعد يوم، مما ينذر بدخول البلاد مرحلة الفشل الشامل، ومن ثمَّ استحالة الحلول السيئة وغير السيئة.
واخيرا
لو كان هنالك عشم بنسبة 1% في انحياز المؤسسة العسكرية لدعم الثورة والوقوف مع الشعب، لكان هنالك حديث آخر. ودمتم في رعاية الله.
///////////////////////