السودان يتنفس تحت الماء!!
عبدالله مكاوي
25 August, 2022
25 August, 2022
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
اوضاع السودان راهنا تذكر باغنية عبدالحليم حافظ من كلمات نزار قباني رسالة من تحت الماء. فالدولة الآن تغرق فعليا في السيول والامطار والفيضانات، والازمات المستحكمة تناديها نحو الاعماق.
اما طريقة تعامل السلطة الانقلابية مع كارثة بحجم السيول والامطار والفيضانات، فهي اكبر من الكارثة نفسها! وهي تتعامل بكل هذا البطء والعجز وقلة الاكتراث والتوهان والشكوي والتنصل من المسؤولية. بل حتي محاولة الجنرالات وقادة الحركات المسلحة المساهمة في درء الكارثة، شابها محاولة التكسب من الكارثة! لدرجة ان المتضررين تجاوزو السلطة الانقلابية لطلب العون من الخيرين في الداخل والخارج!
والحال ان كارثة انقلاب 25 اكتوبر هي المؤسسة لسلسلة من الكوارث المتعاقبة، ابتداءً من قطع مسيرة الانتقال كبصيص امل للخروج من مأزق الدولة الفاشلة والمهددة بالانهيار، وليس انتهاءً بتصدر المشهد من قبل قيادات لا تمت للقيادة بصلة، ولكنها فارضة نفسها باستغلال اجهزة الدولة العسكرية او استخدام قواتها الخاصة الاهلية! وهو ما جعل البلاد لا تعش حالة اغتصاب للسلطة بقوة السلاح فحسب، ولكنها رهن لسطوة الجهل والهمجية والاطماع الفردية. ومعلوم ان وجود قيادة غير مؤهلة ولا مسؤولة، يعني في المحصلة انعدام القيادة، وتاليا الانفتاح علي المجهول وبما في ذلك اسوأ الاحتمالات!
ولكن لماذا وصل بنا التدهور لدرجة تسنم السلطة بواسطة فاقد تربوي وقيمي ومؤسسي؟
السبب في اعتقادي يعود للتمادي في اهدار الفرص، الناتج عن نوع من الفجوة داخل الوعي لمدركات من شاكلة الانتقال والدولة والحزب والجيش والقيادة والسياسة ...الخ ليتم التعامل معها ليس كاشياء موضوعية او بطريقة محايدة، او باعتبارها منظومات اعتبارية او مناهج ونظريات وبرامج لها وظائف معينة واغراض محددة، وانما يعاد تاويلها ومن ثمَّ توظيفها لتخدم اغراض مغايرة ذات صلة بمصالح فردية او كيانات خاصة. والحال كذلك، هنالك مسافة بين حقيقة الاشياء وطريقة التعاطي معها، الشئ الذي يفرغ هذه الاشياء (مؤسسات مناهج..الخ) من محتواها، ولذلك لا تؤدي اغراضها، بل الصحيح غالبا ما تؤدي لنتائج معاكسة، كان من افرازاتها هذا الواقع المتردي علي كافة المستويات. وهو ما سمح بظهور هذه الهلاميات علي سطح المشهد، ولتدفع البلاد الي قاع الاعماق.
ولنضرب مثال حي وهي مرحلة الانتقال:
فهذه المرحلة تاتي عقب اسقاط انظمة انقلابية استبدادية، تحيل الدولة الي مزرعة خاصة للانقلابيين سواء كانو عسكريين او مدنيين، متوسلة في ذلك القمع والعنف والارهاب. وبعد تضحيات جسام تنتهي بثورة تسقط حكومة النظام كتتويج لمسيرة طويلة من المقاومة. وبدل ان تتحول تجربة الانقلاب والاستبداد الي عبرة وعظة توجه مرحلة الانتقال، وذلك بالتركيز علي التاسيس لبديل ديمقراطي ودولة مؤسسات، والتخلص من ارث النظام الانقلابي الاستبدادي. وهو ما يتطلب بذل المزيد من التضحيات والجهد والعمل المضاعف والتماسك طوال فترة الانتقال. إلا ان ما يحدث هو انفجار الاطماع والمطالب والاحتقانات والاحتجاجات كلها دفعة واحدة، دونما وضع اعتبار لهشاشة فترة الانتقال، وهي مواجهة بعمل مزدوج (معالجة اخطاء الماضي والتخطيط لبناء المستقبل) من ناحية، وتربص اعداءها من ناحية مقابلة.
وكنموذج قضية الشهداء والضحايا فهي قضية اخلاقية قبل ان تكون عدلية. ولكن من يتقبل ان الاولوية لبناء اجهزة العدل واصلاح ما اصابها من خراب كهدف استراتيجي! وعلي ذلك قس قضايا ومطالب اقل منها وبما لا يقاس، إلا ان اصحابها شهروها في وجه الفترة الانتقالية بكل جرأة، كمطالب اساتذة الجامعات واهل الشرق والحركات المسلحة وغيرها، فجميعها اتت بمطالبها القصوي، لتطرحها خلال فترة الانتقال! في حين ان المطلوب من الفترة الانتقالية تصحيح الاخطاء ووضع الاسس لعدم تكرارها.
وعموما يبدو ان النقص في وعي طبيعة المؤسسات والكيانات والانشطة المجتمعية وكل ما يمت للدولة والحياة المدنية بصلة، يتخطي السياسيين والقياديين ليصبح سمة للمناصب والوظائف من المدراء الي اصغر موظفين، حيث نجد الخلط بين الوظيفة والشخص، او نعاني حالة شخصنة الوظائف. ولذا ليس مصادفة ان تسمع مكتبي وعربتي وحاسوبي، ونوع من السطوة للرئيس علي المرؤس ومن المرؤس علي المواطن. بدل الحديث علي المكتب والعربة والحاسوب والخضوع للوائح الخدمة وتقديم الخدمات للمواطنين.
وقد يعزا ذلك للجانب الثقافي او التقليدي او العقل الرعوي او غيره مما يشغل بال المهتمين، إلا ان الشاهد في الامر ان هنالك عدم انسجام بين النفس والوعي فيما يخص الدولة ووظيفتها والحياة المدنية ومتطلباتها. ويبدو ان هذا ما جعل هنالك فراغ بين التنظير والتطبيق، او تولُّد نوع من العقلية تنشغل بالظواهر ويستغرقها التحليل، ولكن من دون تمثُل الحلول وتحويلها لسلوك وممارسات وتجارب برامج عمل في مواجهة التحديات! وقد يرجع ذلك للخوف من الفشل وفقدان الثقة، كنتاج لالتباس الهوية او سيطرة الوهم، ومن ثمَّ، شله للقدرة او تضخيمه للذات من غير اسس موضوعية.
والحال كذلك يعجز العقل عن السيطرة علي الهوي وبما في ذلك العادة. اي اذا كان العقل يقبل التنظيم والتجريب والفصل بين العام والخاص، فان الهوي هو ما يخلط كل شئ، مفسحا المجال لسيادة الرغبات وسيطرة النزعات الذاتية. والظاهر ان عدم ضبط العلاقة بين العقل والهوي والعلم والعادة والعام والخاص، هو العامل الاساس في الدوران في حلقة مفرغة من تجريب المجرب والتدهور بصورة مطردة.
كما ان عدم الخروج من قوقعة الهوي والعادة والذات، ورفض الدخول في اطر الانضباط، بالاستجابة لاحكام العقل والعلم والموضوعية. هو ما حكم بالخضوع لسلطات الحزب الاجهزة الجهة القبيلة العرق ... المصلحة الخاصة. وهذا ما جعل عملية الحوار تحاكي حوار الطرشان، وعملية التسوية من الصعوبة بمكان. واذا صدف ان نجح الحوار وقاد للتسوية، فهي سلفا تمتاز بالهشاشة، بسبب فقدان الثقة وكثرة الشكوك والتربص، والاكثر صحة هو صعوبة الانعتاق من دائرة الافكار والعلاقات والارتباطات الخاصة.
ولذلك ومنذ مجازفة الاستقلال، لم يوجد فضاء عام مشترك، يسمح ببناء روابط وطنية ومصالح عامة، او عقد اجتماعي يساهم في ترسيخ بناء الدولة. وهو عينه ما جعل بناء هوية وطنية جامعة، تستقطب الانتماء المركزي حولها، حالة غير موجودة وليست في وارد الوجود مع توافر الانتماءات الضيقة المكتفية بذاتها.
والحال ان هذا التباين كان يمكن ان يكون جيد ودلالة حيوية، لو كان يحتكم لمعايير موضوعية متفق عليها وفي اطار قضايا ذات اولوية. إلا انه كان محكوم بالتنافر بسبب تضارب الاولويات وغياب الضوابط، وبما في ذلك استدعاء القوات المسلحة للانخراط في الحياة السياسية، ومن يومها فقدت الحياة السياسية جدواها كساحة صراع مدني طابعه السلمية، واحترامها كقيمة ايجابية لدي قطاعات عريضة غير مسيسة.
وحتي الانتماءات ذات الفضاء العريض كالرياضة والفنون التي وجدت فراغ متسع لملئه. نجد ان الرياضة وسمها التعصب والفنون الشللية، ومن ثمًّ عدم القدرة علي بناء تصورات مشتركة تساهم في تطويرها وترقية ذائقتها. وبمعني آخر، التمترس في خانة محددة وبناء ايديولوجية حولها (تصور شامل يستغني ومن ثمَّ يحتقر كل ما هو خارجه) ادي لغياب التنافس العادل والبيئة الصحية اللذان يدفعان بعجلة التطور للامام. والحال ان ذلك ما كان ليحدث لولا تسطيح الامور، الذي اسهم بدوره في تسطيح العقول، اي اعدادها لتقبل شئ واحد (عقيدة قائد حزب مهنة تخصص فريق فنان، معيار جمال او قيمة) الشئ الذي ضيق الفضاء العام واجدب الحياة وجعلها حكر لقلة في كافة المجالات.
وعلي العموم، يبدو ان تكوين الشخصية السودانية المتناقض، ساعد بدوره علي خلط القيم بالمعايير والاهداف بالوسائل والممكن بالمستحيل والاحتكار الفعلي بالمشاركة الشكلية. اي جعل الاهتمام والسعي لحل المشاكل، يتحول بدوره لمشاكل اعقد تضاف للمشكل الاصل! بعد ان يتحول لمنازعات وتحديات واطماع شخصية او حزبية او مناطقية او عرقية، تُستدعي لها ترسانة من الترسبات النفسية والاحكام المسبقة والاخطاء التاريخية.
وبالرجوع للاوضاع الراهنة والازمة المستحكمة، التي نجدها تزداد غرقا يوما بعد يوم في دوامتها، إلا اننا نجد الجميع يتمسك بذات تصوراته ورؤيته لحل الازمة، رغم انها لم تحل الازمة بل زادتها تعقيد! فهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي ان الازمة الراهنة في اصلها، ازمة شخوص وكيانات مسيطرة، ترغب في حسم الامور لصالحها، مع جهلها ان الامور غير قابلة للحسم، سواء بسبب هشاشة حالة البلاد او تشرذم مكوناتها شذرا مذرا.
واخيرا
المؤكد ان كارثة السيول والفيضانات نكبة كبيرة، ولكن تًعاظُم كارثيتها، يرجع ليس لغياب الاستعداد المسبق والتعامل الجاد معها، وانما لغياب الدولة وتنازع مهامها وتقاسم مواردها بين شلة من المجرمين والانتهازيين. كما ان مشاكل الدولة والمجتمع رغم تعقيداتها إلا ان هنالك كانت دائما امكانية لحلها، ولكن مصادرة المؤسسة العسكرية الانقلابية لهذه الامكانية بحجة الوصاية، هو ما جعل المشاكل تزداد تعقيدا والمجتمع تفككا مع مرور الايام، لتطال التعقيدات والمشاكل كيان ووظيفة ووجود المؤسسة العسكرية نفسها، بدخول عامل الدعم السريع وتمدده الاخطبوطي في كافة الفراغات. والحال كذلك اذا كانت المؤسسة العسكرية هي من اغرقت البلاد في بحر الازمات، فان الدعم السريع هو الحجر الذي يبقيها في اعمق الاعماق. وكأن رمزية ربط الشهداء بالحجارة للبقاء في قاع النيل، هو البرنامج الذي تعد به قوات الدعم السريع البلاد والمجتمع. وعليه من غير وضع معالجة عملية وحكيمة لكيفية التعامل معهما وتحديد ادوارهما في المرحلة القادمة (بحيث تستصحب ثقافتها التسلطية ومصالحها التي راكمتها بالاستيلاء علي السلطة وقدرتها علي اجهاض الانتقال والتحول الديمقراطي). يؤسفني القول ان قاع الازمات وكتم الانفاس (فرص الخلاص) هو قدر هذه البلاد المنكوبة. ودمتم في رعاية الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
اوضاع السودان راهنا تذكر باغنية عبدالحليم حافظ من كلمات نزار قباني رسالة من تحت الماء. فالدولة الآن تغرق فعليا في السيول والامطار والفيضانات، والازمات المستحكمة تناديها نحو الاعماق.
اما طريقة تعامل السلطة الانقلابية مع كارثة بحجم السيول والامطار والفيضانات، فهي اكبر من الكارثة نفسها! وهي تتعامل بكل هذا البطء والعجز وقلة الاكتراث والتوهان والشكوي والتنصل من المسؤولية. بل حتي محاولة الجنرالات وقادة الحركات المسلحة المساهمة في درء الكارثة، شابها محاولة التكسب من الكارثة! لدرجة ان المتضررين تجاوزو السلطة الانقلابية لطلب العون من الخيرين في الداخل والخارج!
والحال ان كارثة انقلاب 25 اكتوبر هي المؤسسة لسلسلة من الكوارث المتعاقبة، ابتداءً من قطع مسيرة الانتقال كبصيص امل للخروج من مأزق الدولة الفاشلة والمهددة بالانهيار، وليس انتهاءً بتصدر المشهد من قبل قيادات لا تمت للقيادة بصلة، ولكنها فارضة نفسها باستغلال اجهزة الدولة العسكرية او استخدام قواتها الخاصة الاهلية! وهو ما جعل البلاد لا تعش حالة اغتصاب للسلطة بقوة السلاح فحسب، ولكنها رهن لسطوة الجهل والهمجية والاطماع الفردية. ومعلوم ان وجود قيادة غير مؤهلة ولا مسؤولة، يعني في المحصلة انعدام القيادة، وتاليا الانفتاح علي المجهول وبما في ذلك اسوأ الاحتمالات!
ولكن لماذا وصل بنا التدهور لدرجة تسنم السلطة بواسطة فاقد تربوي وقيمي ومؤسسي؟
السبب في اعتقادي يعود للتمادي في اهدار الفرص، الناتج عن نوع من الفجوة داخل الوعي لمدركات من شاكلة الانتقال والدولة والحزب والجيش والقيادة والسياسة ...الخ ليتم التعامل معها ليس كاشياء موضوعية او بطريقة محايدة، او باعتبارها منظومات اعتبارية او مناهج ونظريات وبرامج لها وظائف معينة واغراض محددة، وانما يعاد تاويلها ومن ثمَّ توظيفها لتخدم اغراض مغايرة ذات صلة بمصالح فردية او كيانات خاصة. والحال كذلك، هنالك مسافة بين حقيقة الاشياء وطريقة التعاطي معها، الشئ الذي يفرغ هذه الاشياء (مؤسسات مناهج..الخ) من محتواها، ولذلك لا تؤدي اغراضها، بل الصحيح غالبا ما تؤدي لنتائج معاكسة، كان من افرازاتها هذا الواقع المتردي علي كافة المستويات. وهو ما سمح بظهور هذه الهلاميات علي سطح المشهد، ولتدفع البلاد الي قاع الاعماق.
ولنضرب مثال حي وهي مرحلة الانتقال:
فهذه المرحلة تاتي عقب اسقاط انظمة انقلابية استبدادية، تحيل الدولة الي مزرعة خاصة للانقلابيين سواء كانو عسكريين او مدنيين، متوسلة في ذلك القمع والعنف والارهاب. وبعد تضحيات جسام تنتهي بثورة تسقط حكومة النظام كتتويج لمسيرة طويلة من المقاومة. وبدل ان تتحول تجربة الانقلاب والاستبداد الي عبرة وعظة توجه مرحلة الانتقال، وذلك بالتركيز علي التاسيس لبديل ديمقراطي ودولة مؤسسات، والتخلص من ارث النظام الانقلابي الاستبدادي. وهو ما يتطلب بذل المزيد من التضحيات والجهد والعمل المضاعف والتماسك طوال فترة الانتقال. إلا ان ما يحدث هو انفجار الاطماع والمطالب والاحتقانات والاحتجاجات كلها دفعة واحدة، دونما وضع اعتبار لهشاشة فترة الانتقال، وهي مواجهة بعمل مزدوج (معالجة اخطاء الماضي والتخطيط لبناء المستقبل) من ناحية، وتربص اعداءها من ناحية مقابلة.
وكنموذج قضية الشهداء والضحايا فهي قضية اخلاقية قبل ان تكون عدلية. ولكن من يتقبل ان الاولوية لبناء اجهزة العدل واصلاح ما اصابها من خراب كهدف استراتيجي! وعلي ذلك قس قضايا ومطالب اقل منها وبما لا يقاس، إلا ان اصحابها شهروها في وجه الفترة الانتقالية بكل جرأة، كمطالب اساتذة الجامعات واهل الشرق والحركات المسلحة وغيرها، فجميعها اتت بمطالبها القصوي، لتطرحها خلال فترة الانتقال! في حين ان المطلوب من الفترة الانتقالية تصحيح الاخطاء ووضع الاسس لعدم تكرارها.
وعموما يبدو ان النقص في وعي طبيعة المؤسسات والكيانات والانشطة المجتمعية وكل ما يمت للدولة والحياة المدنية بصلة، يتخطي السياسيين والقياديين ليصبح سمة للمناصب والوظائف من المدراء الي اصغر موظفين، حيث نجد الخلط بين الوظيفة والشخص، او نعاني حالة شخصنة الوظائف. ولذا ليس مصادفة ان تسمع مكتبي وعربتي وحاسوبي، ونوع من السطوة للرئيس علي المرؤس ومن المرؤس علي المواطن. بدل الحديث علي المكتب والعربة والحاسوب والخضوع للوائح الخدمة وتقديم الخدمات للمواطنين.
وقد يعزا ذلك للجانب الثقافي او التقليدي او العقل الرعوي او غيره مما يشغل بال المهتمين، إلا ان الشاهد في الامر ان هنالك عدم انسجام بين النفس والوعي فيما يخص الدولة ووظيفتها والحياة المدنية ومتطلباتها. ويبدو ان هذا ما جعل هنالك فراغ بين التنظير والتطبيق، او تولُّد نوع من العقلية تنشغل بالظواهر ويستغرقها التحليل، ولكن من دون تمثُل الحلول وتحويلها لسلوك وممارسات وتجارب برامج عمل في مواجهة التحديات! وقد يرجع ذلك للخوف من الفشل وفقدان الثقة، كنتاج لالتباس الهوية او سيطرة الوهم، ومن ثمَّ، شله للقدرة او تضخيمه للذات من غير اسس موضوعية.
والحال كذلك يعجز العقل عن السيطرة علي الهوي وبما في ذلك العادة. اي اذا كان العقل يقبل التنظيم والتجريب والفصل بين العام والخاص، فان الهوي هو ما يخلط كل شئ، مفسحا المجال لسيادة الرغبات وسيطرة النزعات الذاتية. والظاهر ان عدم ضبط العلاقة بين العقل والهوي والعلم والعادة والعام والخاص، هو العامل الاساس في الدوران في حلقة مفرغة من تجريب المجرب والتدهور بصورة مطردة.
كما ان عدم الخروج من قوقعة الهوي والعادة والذات، ورفض الدخول في اطر الانضباط، بالاستجابة لاحكام العقل والعلم والموضوعية. هو ما حكم بالخضوع لسلطات الحزب الاجهزة الجهة القبيلة العرق ... المصلحة الخاصة. وهذا ما جعل عملية الحوار تحاكي حوار الطرشان، وعملية التسوية من الصعوبة بمكان. واذا صدف ان نجح الحوار وقاد للتسوية، فهي سلفا تمتاز بالهشاشة، بسبب فقدان الثقة وكثرة الشكوك والتربص، والاكثر صحة هو صعوبة الانعتاق من دائرة الافكار والعلاقات والارتباطات الخاصة.
ولذلك ومنذ مجازفة الاستقلال، لم يوجد فضاء عام مشترك، يسمح ببناء روابط وطنية ومصالح عامة، او عقد اجتماعي يساهم في ترسيخ بناء الدولة. وهو عينه ما جعل بناء هوية وطنية جامعة، تستقطب الانتماء المركزي حولها، حالة غير موجودة وليست في وارد الوجود مع توافر الانتماءات الضيقة المكتفية بذاتها.
والحال ان هذا التباين كان يمكن ان يكون جيد ودلالة حيوية، لو كان يحتكم لمعايير موضوعية متفق عليها وفي اطار قضايا ذات اولوية. إلا انه كان محكوم بالتنافر بسبب تضارب الاولويات وغياب الضوابط، وبما في ذلك استدعاء القوات المسلحة للانخراط في الحياة السياسية، ومن يومها فقدت الحياة السياسية جدواها كساحة صراع مدني طابعه السلمية، واحترامها كقيمة ايجابية لدي قطاعات عريضة غير مسيسة.
وحتي الانتماءات ذات الفضاء العريض كالرياضة والفنون التي وجدت فراغ متسع لملئه. نجد ان الرياضة وسمها التعصب والفنون الشللية، ومن ثمًّ عدم القدرة علي بناء تصورات مشتركة تساهم في تطويرها وترقية ذائقتها. وبمعني آخر، التمترس في خانة محددة وبناء ايديولوجية حولها (تصور شامل يستغني ومن ثمَّ يحتقر كل ما هو خارجه) ادي لغياب التنافس العادل والبيئة الصحية اللذان يدفعان بعجلة التطور للامام. والحال ان ذلك ما كان ليحدث لولا تسطيح الامور، الذي اسهم بدوره في تسطيح العقول، اي اعدادها لتقبل شئ واحد (عقيدة قائد حزب مهنة تخصص فريق فنان، معيار جمال او قيمة) الشئ الذي ضيق الفضاء العام واجدب الحياة وجعلها حكر لقلة في كافة المجالات.
وعلي العموم، يبدو ان تكوين الشخصية السودانية المتناقض، ساعد بدوره علي خلط القيم بالمعايير والاهداف بالوسائل والممكن بالمستحيل والاحتكار الفعلي بالمشاركة الشكلية. اي جعل الاهتمام والسعي لحل المشاكل، يتحول بدوره لمشاكل اعقد تضاف للمشكل الاصل! بعد ان يتحول لمنازعات وتحديات واطماع شخصية او حزبية او مناطقية او عرقية، تُستدعي لها ترسانة من الترسبات النفسية والاحكام المسبقة والاخطاء التاريخية.
وبالرجوع للاوضاع الراهنة والازمة المستحكمة، التي نجدها تزداد غرقا يوما بعد يوم في دوامتها، إلا اننا نجد الجميع يتمسك بذات تصوراته ورؤيته لحل الازمة، رغم انها لم تحل الازمة بل زادتها تعقيد! فهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي ان الازمة الراهنة في اصلها، ازمة شخوص وكيانات مسيطرة، ترغب في حسم الامور لصالحها، مع جهلها ان الامور غير قابلة للحسم، سواء بسبب هشاشة حالة البلاد او تشرذم مكوناتها شذرا مذرا.
واخيرا
المؤكد ان كارثة السيول والفيضانات نكبة كبيرة، ولكن تًعاظُم كارثيتها، يرجع ليس لغياب الاستعداد المسبق والتعامل الجاد معها، وانما لغياب الدولة وتنازع مهامها وتقاسم مواردها بين شلة من المجرمين والانتهازيين. كما ان مشاكل الدولة والمجتمع رغم تعقيداتها إلا ان هنالك كانت دائما امكانية لحلها، ولكن مصادرة المؤسسة العسكرية الانقلابية لهذه الامكانية بحجة الوصاية، هو ما جعل المشاكل تزداد تعقيدا والمجتمع تفككا مع مرور الايام، لتطال التعقيدات والمشاكل كيان ووظيفة ووجود المؤسسة العسكرية نفسها، بدخول عامل الدعم السريع وتمدده الاخطبوطي في كافة الفراغات. والحال كذلك اذا كانت المؤسسة العسكرية هي من اغرقت البلاد في بحر الازمات، فان الدعم السريع هو الحجر الذي يبقيها في اعمق الاعماق. وكأن رمزية ربط الشهداء بالحجارة للبقاء في قاع النيل، هو البرنامج الذي تعد به قوات الدعم السريع البلاد والمجتمع. وعليه من غير وضع معالجة عملية وحكيمة لكيفية التعامل معهما وتحديد ادوارهما في المرحلة القادمة (بحيث تستصحب ثقافتها التسلطية ومصالحها التي راكمتها بالاستيلاء علي السلطة وقدرتها علي اجهاض الانتقال والتحول الديمقراطي). يؤسفني القول ان قاع الازمات وكتم الانفاس (فرص الخلاص) هو قدر هذه البلاد المنكوبة. ودمتم في رعاية الله.