السِمات المشتركة بين دَلالات اللون الأبيض فى الثقافة السودانية والثقافات الإفريقية

 


 

 

yousifidris@yahoo.com

هذا المقال مقتطف من مخطوطة كتاب بعنوان اللون الأبيض واللون الأسود: دلالات وأبعاد فى الثقافة السودانية، أتطلع أن يٌنْشر قريباً إن شاء الله.
يعتقد البعض أن دلالات اللون الأبيض في الثقافة السودانية ذات جذر عربي محض و أن لا جذور لها في الثقافة الإفريقية، و كأن الثقافة الأفريقية تعلى شأن اللون الأسود دون اللون الأبيض. يهدف هذا المقال لتوضيح أن الثقافات الإفريقية تشبه الثقافة السودانية في هذه الدلالات.
تقرن الثقافة السودانية بين كلمة أبيض و الدلالات الايجابية كحسن المخبر وجمال الأفعال والأقوال والنوايا والأحوال والتفاؤل والسعادة، وتستخدم كلمة أبيض للمدح والفخر والاستحسان، ويحظى اللون الأبيضَ بأفضلية على اللون الاسود عند السودانيين والشواهد علي ذلك كثيرة في الأمثال والأشعار والغِناء و غير ذلك، وهذا إرث أفريقي أصيل، وربما كان بعض أصله من الموروث العربي أيضاً. نورد أدناه شذرات من هذه الدلالات.
عندما تتمنى المرأة السودانية الريفية مستقبلاً جميلاً لبنتها فهي تقول: إن شاء الله تَبْقِى تَبَراً مِنَوِّر وقَمَراً مِدّوِر. والتَبَر نبات موسمي زاحف ذو زهر أبيضٍ جميلٍ، وعندما ينور (يزهر) التَّبَر يغطي كل الأرض التي ينمو فيها بلون أزهاره البيضاء، والقمر المِدّوِر هو البدر المكتمل المُضِيئ الأبيض، فالأمر أمرُ فأل وخير ولهذا جاءت الأشياء ذات اللون الأبيض. وقد شبه الشاعر صالح عبد السيد أبوصلاح بسمةَ الحسناء ببياض التَبَر في قصيدته المشهورة "قسم بمحياك البدري" التي لحنها وغناها كرومة، فقال:
هواك برضاى ما جبري
بسيمات فاهك التَبَري
ياجميل كم قللت صبري
وقد وصف ود شوراني بسمة الحسناء ببياض التَّبَر فى مسدار الهِضْلِيم فقال:
الضّو قال لِى لا تسافر مِلاقِي الحَرْ
أبْرُد وشِــــــــــد على ود البِطِـــــيْرَنْ فَرْ
قُتْلو الرّاتعة في قَفَر الأراضي البَرْ
فَرْ بسماها فاق تَبَر النّدى البِنْشَر
يطلق السودانيون كلمة البَيَاضْ علي المكافأة المالية أو العينية التي تقدم للفكي أو الفقير (الفقيه) مقابل خدماته من رُقْيَة أو حِجاب أو حُواطة (حِرز ووِقاية) وكأن وصفها بالبياض مؤشر للتفاؤل بالخاتمة السعيدة للخدمة المرجوة منه ، ويقدم البياض لشيخة الزار ولضاربة الودع (سِتْ الوَدِع) لتبتدر به جلستها ومفتاحاً للتفاؤل وفاتحة خير لاستقراءاتها. ومن التعبير المتداول في السودان: أولاد المصارين البُيُض، كناية عن الحظوة، والنية البيضاء وصفاً للنية الحسنة، وتحفظ الذاكرة الشعبية الكثير من الحكم والأقوال للشيخ العبيد ود بدر منها قوله " بياض النّية بِبِين في الذٌرّية".
للون الأبيض حضور لافت في أسماء المواقع الجغرافية بالسودان فأسماء القرى والمدن السودانية المشتقة من اللون الأبيض كثيرة منها مدينة الأبيض في كردفان وود الإبَيّض بشرق الجزيرة وبيضاء والبِويضاء بمنطقة مشروع الجنيد في الجزيرة وأم بيّاضة في دارفور والحلة البيضاء بمنطقة مروي والأبْيضاب بمنطقة المتمة وبحيرة أبيض بجنوب كردفان وقوز أبيض بشمال كردفان وود الإبيّض بولاية سنار علي الضفة الغربية لنهر الرهد جنوب مشروع الرهد و قرية نلوة ( Nulwaبيضاء بلغة المحس).
وفي شعر الدوبيت يقول ود شوراني:
عرب الخَلّى قلبي إنوح وبصرى مِسَاقِـــد
شَبَكوا الشّيل حَمَارْ وَكْتين صغِيرُن راقِد
حَبَرو العالي فوق ضهر أب مَشالاً زاـيد
إنْشَق دَرْبٌو أبيض وإدْرِت الحُول عايــــــد
ودربو أبيض أي طريقه ومساره حسن ومحفوف بالسلامة والخير.
وجاء في قصيدة بلادي للشاعر إسماعيل حسن:
بلادي جنة للشافوها أو للبرّة بيها سِمِع
بلاد ناساً تَكِرم الضيف حتي الطير يجيها جعان ومن أطراف تِقِيها شِبِع
إلي أن يقول:
وتِدَّفَّقْ مياه النيل علي الخيران بياض الفُضّة في وهج الهجِير بيشِع
وصْف إسماعيل حسن لماء النيل ببياض الفِضَّة إشارة إلى أنها قيّمة كالفضة وجميلة ونقية وأخّاذة، فهى تشع، وهذه واحدة من حالات الإحتفاء باللون الأبيض، فللفضة لونها الذي توصف به أشياء أخرى فنقول لون ذلك الشىء فِضّي.
يرتبط اللون الأبيض في أقمشة الملابس السودانية (الجلابية والعمة والشال والطاقية...إلخ) بثقافة تفضيل اللون الأبيض، دون أن نغفل ملائمة هذا اللون فى المنسوجات للشمس الساطعة في السودان ودور الأقمشة البيضاء في التخفيف من أثرها الحراري علي الأجسام، وأغنية البنات الشعبية - جلابية بيضاء مكوِيّة حبيبي بسحروك ليّا- شاهد علي الاحتفاء الوجداني ببياض الأزياء.
وقد قال خليل فرح محتفياً بشباب السودان وبزيهم الأبيض الجميل وموكبهم المنسق كالحمائم البيضاء: أين مني الفي زهوه باسق
في شبابو نقي من مفاسق
بين ثيابو البيض المناسق
حولك إشْبَه رتل الحـــــــــمام
وفي الامثال: الشاة البيضاء المتهومة بالشحم، فقد ظن بها حسن الصحة الجسدية الذى يتجلى فى الشحم لمجرد اشتراكها معه في بياض اللون، ويضرب المثل لمن يظن به سعة في المال أو المعرفة أو الخير بناءً علي ما يوحي به مظهره فقط، وهو ليس كذلك.
أورد الرحالة الألماني جوستاف ناختيقال من الملاحظات عن بعض موروثات قبيلة الفور التى كانت سائدة إبان رحلته من ودّاي لدارفور عام 1874م، ووصف تلك الموروثات بأنها بقايا عادات وثنية قائلاً " لقد كان للفور إله أسمه كالقه( يبدو أن استخدام ناختيقال لكلمة إله غير موفق)، وكانت أمكنة عبادته هي الصخور والأشجار المقدسة، وهي أماكن ليست معروفة فى تلك الأقاليم فحسب، بل ما زالت الخِراف البِيض أو الرمادية تُذبح هناك قرباناً عندما تشح الأمطار أو فى أيام المرض أو عقم النساء وتلطخ الصخرة أو الشجرة بالدم السائل من الحيوان الذبيح المُضحَى به بينما يركع المتقرب ويتلو أدعيته ومطالبه للرب كالقه" 1. ويستخدم الفور في لغتهم كلمتى برا فتا، بمعنى قلوبنا صافية مثل اللبن، وكلما فتا، بمعنى قلب أبيض وهى من الدلالات الايجابية للأبيض في ثقافة الفور.
للون الأبيض دلالاته الإيجابية عند قبائل البجا فهو يرمز لرجاحة العقل والحكمة، وترتدى نساء البجا كبيرات السن الثياب البيض في مناسبات الأعراس. وللون الأبيض حضوره في مناسبات الزواج عندما يشيد بيت الزوجية من البروش فهى تفرش على الأرض ويذبح عليها حمل أبيض (إيّلَ هُوّبْ، بلغة البداويت) تفاؤلاً ثم تستخدم البروش بعد ذلك في تشييد المنزل.
وللون الأبيض دلالات إيجابية عديدة عند قبيلة الشٌلٌك في جنوب السودان، فاللون الأبيض يرمز عندهم للحياة والخير والصلاح وكل ما هو إيجابي، فهو في ثقافتهم لون الحياة والنماء. وعندما يقول أحدهم " فينج أتار" التي تعني حرفياً "الأرضُ إبْيَضَّت"، فهو دلالياً يقصد "إنبلج الصبح"، وعندما يتمنى أحدهم الخير لاخر في مسعاه، يقول له:"شياض كي تار" وهي حرفياً "أسلك ببياض" ولكن دلالياً "لتسلك بالخير"، وإذا أراد أحدهم أن يفاخر بحسن خلقه ونزاهته وأمانته، فهو يقول:"شينقا تَرْ" أي أياديَّ بيضاء. وعند تتويج رِث الشلك يلبس الزَّي التقليدي للشلك (لاووه) باللون الأبيض ويظل الزّي الأبيض ملازماً له ولغيره من قادة القبيلة" العٌمَد" دلالة على السلطة والتكليف، بيد أن أفراد القبيلة العاديين لا يلبسون الزّي الأبيض إلا نادراً ومن تلك الحالات مناسبة الزواج حيث يلبس العريس الزّي الأبيض إحتفاءً، ويزين الخرز الأبيض ساق الشلك تبركاً وجلباً للأمن والسلم 2. ومن مراسم تنصيب العمدة عند الشلك؛ أن ﻴﻘﻭﻡ أهل ﺍﻟﻌﻤﻭﺩﻴﺔ ﺒﺭﺒﻁ ﺴُﻜْﺴُﻙٍ ( خرز) ﺃﺒﻴﺽ في رجله رمزاً للبركة.
يعتبر الهوسا اللون الأبيض رمزاً للقيم الحسنة والإيجابية وللأشياء المرغوبة، وعندما تقترن كلمة أبيض ( فارِى بلغة الهوسا) بكلمات أخرى مثل قلبه أبيض فهى تعنى طيب، ورزين، وسعيد، ومبتهج، وتعبير دمه أبيض يعنى محبوب 3. ويستخدم اللون الأبيض في التراث الثقافي للزولو بجنوب إفريقيا، رمزاً للنقاء والقيم الأخلاقية الحسنة، ومن الهدايا الخاصة من الأم لطفلتها سلسلة من الخرز الأبيض ترتديها حول خصرها طوال فترة المراهقة، رمزاً لعذريتها ونقائها. وتتواصل فتاة الزولو مع من تحب عبر أعمال الخرز الملون لتبعث عبره رسائل بمضامين مختلفة، وحين تريد تجنب حرج الخطاب الأول المباشر وحساسية موضوع العلاقة الخاصة، تكون أولى رسائل التعبير عن الحب سلسلة من الخرز الأبيض. كما أن اللون الأبيض يرمز عندهم للتسامح والعفو، ومن طقوس المصالحة داخل عائلة الزولو أن تٌرْمَى خرزة بيضاء داخل إناء به ماء ثم يغسل كل أفراد العائلة أيديهم في هذا الإناء، وتدل الخرزة البيضاء في الإناء على أن المصالحة ستتحقق لأن كل الأدران التى يحملها أفراد العائلة ستٌمْتَص بواسطة الخرزة البيضاء وتتحول للون أبيض. ويحمل المحاربون في موكب العرض دروعاً بيضاء رمزاً للسلام بين الناس في عيد أُكْوِيشْواما احتفالاً بأول ثمار الموسم الزراعي لدى الزولو4. ويرمز اللون الأبيض(فُوفُو) في ثقافة الأكان (الأشانتي) بغانا للأمل ولبشائر الخير والنصر والنقاء والفضيلة والابتهاج وهو لون الملوك ورمز للذوات الروحية التى ينبغى أن تُخشى مثل الآلهة. ويطلق على اللون الأبيض بلغة اليوربا في نجيريا فُنْ فُنْ ، وهو يحمل دلالات إيجابية عندهم مثل اللطف والنقاء والشعور السلمي، كما يطلق تعبير فُنْ فُنْ على اّلهة الخير وعلى مُسْتقرِئ الأحداث، كما يتوقع من الأشخاص الذين يلبسون الأزياء البيضاء فعل الخير وألاّ يفعلون شراً أو أن يشاركوا فيه5.
وفي ثقافة مجموعة إنديمبو Ndembuفي جنوب القارة الأفريقية (أنجولا و جوارها) فإن للون الأبيض دلالات إيجابية فهو يعنى عندهم، الخير والنقاء والحظ الحسن والصحة والعافية والحياة.
يرمز اللون الابيض عند قبيلة الماساي للصحة والنقاء والسلام والخير الذي يجلبه لبن الأبقار، كما يعتبر الأبيض لوناً مقدساً. وتتجلى رمزية النقاء أثناء طقس العبور من الطفولة لمرحلة المحاربين الصغار، حيث يستخدم اللون الأبيض علامة مميزة بعد الختان ليرمز للنقاء أثناء مرحلة البرء من جرح الختان(emorata) إذ يحمل المحارب الصغير علامةً بيضاء على وجهه. ويستخدم اللون الأبيض عند الماساي للحماية من المؤثرات الخارجية السيئة، حيث يلبس الأطفال الخرز الابيض للوقاية من الأمراض ويلبسه الصبيان المختونين حديثاً لحمايتهم أثناء هذه الفترة الصعبة من أعمارهم، كما تلبس البنات المختونات الخرز الأبيض والصدف (الوَدِعْ) الأبيض لحمايتهن من العين الشريرة6.
مراجع و مصادر:
1-جوستاف ناختيقال -تاريخ دارفور ترجمة النور عثمان أبكر -الشركة العالمية للطباعة والنشر-2011- ص161.
2- سايمون أبرام أضوك، اللون الأبيض عند قبيلة شلو (الشلك). 3 مايو 2019 .
https://ar-ar.facebook.com/184307873669/posts/1015720392531367 0/
3-Pauline M. Ryan, Colour Symbolism in Hausa Literature. Journal of Anthropological Research Vol. 32, No. 2 p. 144.
4-Biyela N. G. 2013. Colour Metaphor in Zulu Culture: Courtship Communication in Beads. American International Journal of Contemporary Research, Vol. 3 No.10;37 -41.
5-Folorunso Clement Oluwole, Mohd Hamdan Bin Hadji Ahmad, Dilshan, Remaz Ossen. 2013. Colour Utilization among the Yorubas of Southwest Nigeria: An Empirical Analysis. Journal of Basic and Applied Scientific Research. 3(5)78-82.
6-Bonita Bon Mar 4 2022. https://www.bonitabon.com/post/culture-in-colours-the-maasai-colours. Accessed on 6 April 2022.

 

آراء