الصلات السودانية – الارترية؛ وهجُ الملاذ وظلاله: عن إبراهيم ود الفراش وإبراهيم “شل” 

 


 

 

عفو الخاطر:


شتان ما يومي على كورها       ويوم حيان اخي جابر

                                                                       "الاعشى"


على امتداد القرون لم تهن وما ضعفت وشائج الاقوام التي سكنت السواحل الشمالية - الشرقية للقارة الافريقية، لا سيما فيما يعرف الان بإرتريا والسودان الحديث والصومال وجيبوتي، حينما استقرت مجموعاتهم القبلية والقومية في سواحل وسهولٍ وهضابٍ امتدت من حيث ارتطمت أمواج "سينوس ارتريوس" (الاسم القديم للبحر الأحمر) بالصخور ثم هدأت على رمال شطآنه قبل ان يقفل بها الجَزْر عائداً إلى الأرخبيل أو إلى الجُزُر المتناثرة بين ضفتي هذا الممر المائي الضيق الذي حمل على مر العصور مللا ونحلا، مثلما شق عبابه تجار، ومغامرون، ومستكشفون، ومهاجرون، وطلاب لجوء، ومنفيون، وباحثون عن الامن والأمان، وفارون من العسف والاضطهاد، وسفن غزاة، والقاصدون مصادر الرزق الوفير، والعابرون إلى مياه اشد زرقة أو أقل اضطراباً، والمتوجهون إلى يابسة أخرى يكثر فيه المن والسلوى وتلمع فيها درر يخطف بريقها الابصار وإن كانت تقبع تحت  كثبان الرمال.


    سُحن هؤلاء مختلفة جدا، والسنتهم شتى. بعض هؤلاء القى رحله قريباُ من البحر يرخى سمعه لصوت الأمواج المتلاطمة فيستبد به الشوق ويشتد به الجوى، لينشر سارية الابصار، حنيناً لأرض الأجداد، بلا جدوى! والبعض الاخر توغل في مجاهل تلك الأرض "الجديدة" يمكث حيث طاب له المقام ساحلاً وسهلاً وجبلا. لكن أواصر المقيمين الذين اندمجوا مع السكان المحليين سلماً في غالب الأحيان، وحرباً بين فينة وأخرى، لم تنقطع البتة؛ يأتون ديار بعضهم رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. أسـسوا حضارات سادت ثم بادت، بينها حضارة عدوليس عند قُرقُسُم بالقرب من مصوع، والسلطنة الزرقاء في سنار، وما بينهما وقبلهما في غير زمان وغير مكان، ممالك أخرى في نبتة ودنقلا ومروي والمغرة وسوبا وهجر وسواها ساعدت على توثيق العرى كما شادت جسوراً ممتدة ودروباً ممهدة من النور والاشعاع والرخاء، لا العذاب؛ اعقبها قليل من الأسى في أيام تلت الانهيار حينما اضمحلت واندثرت نلك الحضارات وأفل نجم المنارات وانزوى. كأنما الشاعر الانقليزي، ادوين موير، رأى ذلك كله فتمثله في رائعته "إبراهيم":


      لقد جاء واستراح، وأصاب نجاحاً وازدهاراً، ومضى

      مخلفاُ وراءه ممالك لرعاة صغيرة مبعثرة في المدى

      وفوق كل مملكة سماؤها الفارقة

      تلك السماوات لا تشبه السماء المستديرة العظيمة التي سافر عبرها

      والتي ارتحلت معه، لكنها تغيرت لما استراح

      فاض ذهنه بالأسماء

      اسماء تعلمها من ألسنة غريبة يتكلم بها الغرباء


    لم تزل تلك الوشائج التي ضربت جذورها عميقاً في تربة صالحة، كما جدائل الصلات المفتولة، راسخة وقوية ومشدودة، حتى حينما يستبد الغضب بالبعض فيعرّض بأهله في المدن البعيدة، وبمضيفيه في نواحٍ أخرى نائية. جرى ذلك مع شاعر العامية السودانية الفحل إبراهيم ود الفراش في مصوع، ثم في اسمرا اثناء اخر رحلة من رحلاته التي درج عليها لتوصيل البريد الرسمي وجباية الضرائب والمكوس والعشور. فقد شكي بعض أهل مصوع حامل البريد الاميري إلى قاضى المدينة بسبب خلاف نشب بينهم، فاستبقاه القاضي ردحاً من الزمن، ولم يأذن له بالسفر الا بعد أن سويت القضية وتقاضى الناس ما ادعوه من حق عليه، ونال هو ما له عليهم. كان ود الفراش – كعادته – في عجلة من امره، يريد العودة سريعاً إلى مقر عمله لينجز أعمالاً اخرى مناطة به، وليصل محبوبته التي تركها في بربر. كان شوق ود الفراش لوليفته، الدون لحق، "وتعني عز الذليل"، يقض مضجعه طيلة أيام احتجازه الإجباري ومنعه من المغادرة الذي طال وتمدد. وحينما غادر المدينة هجاهم فاستوفى حقه بأبيات حفظها الناس وتناقلوها حينذاك، ولكنها تلاشت في طيات النسيان وغابت عما دُوّن فيما بعد. قال ود الفراش:


    ناس مصوع ناساً بلايا

    بريدو الشبكة وكتر الشكايا

    لابسين قرابيب عاملين ولايا

    شايلين مدوسم في روسم ماشين حفايا.


    كان سكان الأطراف الغربية للمدينة في نواحي "أم كلو" و "حطملو" و"اماتري" وما حولها ييممون وجوهم ناحية الشرق، صباحاً، فيذهبون راجلين إلى شبه جزيرتي "طوالوت" ومصوع للعمل هناك ثم يقصدون ديارهم مشياً على الاقدام والشمس تميل إلى الغروب. كانت الشمس تستقبلهم في غدوهم ورواحهم، تلهب اعينهم بسياط اشعتها اللاسعة؛ وشمس مصوع ساطعة في كل الفصول، تغتصب المزن الهتون، لتلد قوس قزح كلما تساقط المطر على التربة المكسوة بالملح الممزوجة والمعجونة به. كانوا يخلعون نعالهم واخفافهم، يظللون بها عيونهم اتقاء وهج الشمس صباحاً وسياطها مساء، ولا ينتعلونها الا عندما يبلغون أماكن عملهم أو حينما يقتربون من دورهم قبيل الغسق. كذلك كان المصوعيون يرتدون المئزر "الفوطة" في النصف الأسفل من أجسادهم، ذلك الازار الذي يلبسه اليمنيون والاسيويون، ولكن لا يرتدي الناس مثله في السودان الا السيدات المتزوجات أو من سبق لهن الزواج، أما الفتيات الابكار في ذلك الزمان فكن يرتدين الرحط وهو سيور متدلية من الجلد. ولما كان ود الفراش يتحرق شوقاً للدون لحق آثر ان يختصر الطريق عبر الهضبة الارترية ومن ثم إلى عنسبا وسهول بَرْكه، فوصل إلى اسمرا حيث زفه الصبية وسار خلفه المارة والفضوليون من الذين لم يسبق لهم رؤية بعير من قبل، يتأملون هذا الحيوان العجيب ومن يمتطيه.

    لم تكن الجمال مألوفة في تلك النواحي إذ هي غير قادرة على السير في الطرق الجبلية وفوق الصخور، فالجمل سفينة الصحراء. كانت الحمير والبغال وقليل من الخيل هي الحيوانات الاهلية التي يستعملها سكان الهضبة في ركوبهم ونقل احمالهم وتنقلهم واسفارهم. لم يهنأ له مقام هناك والحشود تتبعه متعجبة من هذا المخلوق الغريب، فقرر المغادرة سريعاً إلى حيث السهول والرمال. الا انه انشد هاجياً مصوع مرة أخرى تسبقها اسمرا في ذات الوقت، فقال:


    اسمرا الكعبة ومصوع بلاد الشوم

    اتنين في الطريق والتالتة في الخرطوم


    غز ود الفراش السير على ظهر بعيره "البانقير"؛ (وهي كلمة بجاوية تعني الجمل الذي لا يظمأ ابداً والقادر على السفر الطويل وعلى قطع المسافات البعيدة.) وقد وردت في اشعار ود الفراش والحاردلو وود ضحوية وغيرهم كلمات كثيرة هي في الأصل من قاموس الهدارب "البداويت" والتقري لتصبح فيما بعد جزءً من مفردات المحكية السودانية، لا سيما في إقليم البطانة ومناطق شرق السودان ووسطه.

    كانت لشاعرنا جِمال أخرى منها "الباردقم"، لكن في رحلاته إلى مصوع وربوع ارتريا ظل يصطحب البانقير ويأنس اليه لما يعرفه عنه من جلد وصبر وقوة تحمل. الا ان شاعرنا الذي يضج رجولة ووسامة وشجاعة واقداماً وكرماً وبذلاً تلقى حينما وصل إلى بربر طعنة نجلاء قلبت كل الموازين عنده. فغيابه الطويل تسبب في فقدان محبوبته لفتى آخر كان يرومها ويتحين الفرص للفوز بها، فاستغل بعده عنها كل تلك الفترة الطويلة ليدرك بغيته. تركته من قال فيها أجمل الشعر الذي سارت به الركبان، ودافع عنها دفاعاً مستميتاً، وأراد الاقتران بها رغم أنف اسرته وأهله الذين عابوا أصلها وفصلها. كانت الدون لحق أمة لأسرة ثرية من جعليي بربر، مشهورة بالجمال والدلال.

    تبدل حبه الجارف فتحول إلى بغض طافح. نسي الغزل الرفيع وتحول إلى الهجاء المر وإلى استنباط الحكمة وبذل النصيحة. ولعل المثل الدارج الذي ينهى عن الاخذ بكلام اهل الاختصاص والتمسك برأي أهل الخبرة والتجربة ابتدعه ود الفراش قبل غيره (اسأل مجرب ولا تسأل طبيب). ففي معرض هجائه للدون لحق شمل الجواري كلهم دون استثناء:


    لا تجالس الخديم ليهن تقرب

    وتبقالن حبيب للمال تخرب

    يقيدن سمعتك فد يوم تغرب

    ولا تسأل طبيب أسأل مجرب


    لم يعمر إبراهيم ود الفراش بعد تلك الرحلة المشؤومة وتلك الخيانة النكراء الا وقتاً قصيراً حيث تغلب عليه البعوض فداهمته حمى الملاريا التي انهت حكاية فتى كان نسيج وحده، شاعراً رأى البعض ان مساديره تبز مسادير الحاردلو وتضاهيها روعة وجمالاً. لم يتجاوز السنجك (ضابط تحت إمرته خمسمائة من الجند) السادسة والثلاثين حينما رحل تاركاً خلفه شعراً تغنت به الأجيال ورددت اصداءه المهامه والفلوات، كما الحُداة وقوافل الرحالة، وطرزت ابياته اسحار السُمار وليالي العاشقين. بعض شعره اندثر، إذ لحق رواته بقائله إلى دار الخلود، وبعضه كاد ان يضيع، ومنه الابيات الواردة فيما سلف التي هجا بها أهل مصوع وسكان اسمرا.


    ظل ود الفراش وهو يرمح على ظهر بعيره حاضراً إلى وقت قريب في مغلفات الرسائل وخزائن المصارف، وفي الحوانيت وعند التجار وداخل جيوب ومحافظ الناس، فقراء كانوا أو اغنياء، رجالاً ونساء. كان ذلك في أول طابع بريد في تاريخ السودان يصور رسمه وهو على ظهر بعير يوشك ان يحلق في عنان السماء وفوق هام السحاب وهو يسابق الريح، ثم تحول الطابع إلى طرة العملة المعدنية وظهر الأوراق النقدية السودانية لردح من الزمن، بدءاً بالاستقلال إلى عهد حكومة انقلاب مايو/أيار 1969 حينما استبدلت العملة لتمحو رسماً جميلاً لأول ساعي بريد سوداني، حامل البريد الاميري الرسمي إلى الامصار، شاعر الحب والغزل والعشق والفخار والشجاعة والمدح والهجاء والوصف والمسادير. زال رسمه من النقود لما هبطت قيمتها واضمحلت حتى أضحت سراباً وذكرى، كأن جرابه الذي يتدلى من مكوره حفظ قيمة العملة، ثم انحدرت إلى هاوية سحيقة لمّا غاب عنها.


    كانت تلك الاشعار والحكايات مما ترويه سيدتان، وهما تحتسيان القهوة ضحىً؛ تتناولان فيه ما يصل السودان بإرتريا وتتحدثان عما انساب من مياه دفاقة في جداولهما ولغاتهما وحيواتهما. سيدتان من الذهب العتيق الذي لم يعد مثله في الوجود. كانت فاطمة بت ود دوبا تأتي إلى العاصمة المثلثة، بين فينة وأخرى، من سنكات أو سواكن، والخمسينيات من القرن الماضي تكاد تنتصف، ذلك قبيل استقلال السودان بقليل، قبل وبعد حوادث مارس 1954 الدامية التي صاحبت زيارة الرئيس المصري، محمد نجيب، إلى الخرطوم. كانت سيدة تجاوزت منتصف العمر حينئذ، ذات جمالٍ وقور لا يخفى على الناظرين رغم السنين، دائمة الحضور حتى في صمتها؛ تأبى الابتسامة أن تفارقها، لتضفي نوراً وضاءً على تقاسيم ملامحها فتزيد لون بشرتها الحنطي الذي يميل إلى البياض ألقاً باهراً. حديثها الآسر يترقرق دونما ضوضاء، برفق واناة، ولكن بوضوح وجلاء، تنثر فوقه ضحكة مقتضبة عابرة أو ضحكات متتاليات متصلات حينما تبلغ الحكاية ذروة الامتاع أو السخرية أو الطرافة أو الغرابة أو التعجب الممزوج بالتساؤل أو كل ذلك معاً. وكانت صاحبتها، نفيسة تامر، تشاطرها ضحكاً بضحك، وهي تزيد تفاصيل أخرى إلى الحكاية أو تروي شعراً قاله بطل الرواية أو دار حول احداثها يومئذٍ، وهي التي كانت تعرف منابت الناس وأصولهم ليس من سحنهم فحسب، بل من أصواتهم والفاظهم وهمهماتهم ومشيتهم وقعودهم ووقوفهم. ومن تلك الحكايات ما جرى لود الفراش في سنكات وسواكن وبربر ومصوع واسمرا وكسلا ودارفور وغيرها، وما حدث لود ابسن في البطانة، وقصص العشاق في شرق السودان وسهول بَرَكه، وحكاية تاجوج وبامسيكه غير التي وردت في المسرحية المشهورة، ومواقف اغا أبو الكلام - أول المحامين في السودان الذي أطلقت عليه كنية ابي الكلام لفصاحته امام المحاكم وشيوخ العشائر والقبائل وارباب الإدارة والشعائر الدينية أصحاب السلطة القضائية يومئذٍ، وفي دوائر الدولة - وكان هو من ربط بينهما بصلات الدم والقربى، فأسس لذلك الود الذي جمعهما.

    اعتادت فاطمة قطع المسافات الطويلة بين شرق السودان وعاصمة البلاد، وتحملت مشاق السفر الذي يستغرق أياماُ في ذلك الزمان لكي تزور اقرباءها: اسرة الفريق احمد محمد الجعلي، أول قائد للجيش السوداني، الذي ينادونه بأحمد محمد القائد، دون كنيته لان كلمة القائد كانت كافية وافية للدلالة على الرجل المعني فلا يخلط البعض بينه وبين من يحمل نفس الاسم – وهم كثر – أو من يلحق ذات انتماءه القبلي باسمه؛ واسرة ابن عمه ونسيبه الذي خلفه في قيادة القوات المسلحة، الفريق إبراهيم عبود. ولد القائدان في بلدة "محمد قول" بشرق السودان وترعرعا فيها وأوثقت المصاهرة عرى الدم والقربى بينهما فازدادت الصلة صلابة ومنعة؛ واختلفا إلى دور العلم ذاتها حتى إلى مدرسة الهندسة في كلية غردون التذكارية، ثم التحقا بوحدات متماثلة في الجيش المصري ومن ثم في قوة دفاع السودان، وقاتلا في ارتريا ابان الحرب العالمية الثانية معاً، الأول برتيبة بكباشي (مقدم) والثاني برتبة يوزباشي (نقيب). لكن فاطمة، قبل أن تعود إلى الشرق، تتوقف لبضعة أيام عند صاحبتها، نفيسة، في امدرمان، كأنما كانت تلك الزيارة طقساً ملزماً لاستعادة إرث القرون، وجلاء صدأ النفوس الذي تراكم من رهق السفر والترحال حيناً، والسكون في بعض الأحيان والحنين إلى الماضي والالفة في أحيان كثيرة. كانت "أيام نفيسة" تختلف من رحلة إلى أخرى، فهي قد تأتي بين زيارتين لأسرتي القائدين أو تكون مسك الختام. انقطعت تلك الأيام النفيسة عندما رحلت عن امدرمان صاحبة فاطمة إلى بقاع أخرى لسبب أو لآخر، ووفاة قرينها من بين تلك الأسباب. الا ان نفيسة تامر لم تنقطع، وهي تسرّح بصرها بعيداً إلى ما وراء الأفق، عن ترداد الحكايات ورواية الاشعار وذكر رفيقتها والامثال الدارجة وغيرها بلغات ورطانات عددا.

    بعد رحيل حليلها، لقيت تلك المرأة الفريدة المتفردة وصغارها عنتاً وحيفاً وجوراً وظلماً من أهله، فأكسبها ذلك جلداً وصبراً، وكساها كرماً وأريحية ورحمة وعطفاً وتسامحاً وغفرانا، فقابلت السيئة بالحسنة، والشحناء بالحسنى، فلم تفارق الابتسامة فمها وعينيها ولا سكتت ضحكتها الوضاءة حتى حينما يعتصرها الألم ويشجيها ويشقيها غبن اشد مضاضة من ضرب الحسام المهند. كانت تلقي بكل ذلك العسف خلف ظهرها، أو تكتمه بين جوانحها فيقوي عزيمتها، فما أحنى ظهرها الحمل الثقيل، بل ظلت هامتها مرفوعة وقامتها ممشوقة وعزيمتها مشدودة. غير ان عينيها لم تغفل عن الاشواك والعقبات التي توضع امامها في كل حين، إذ لم ترخ جفونها كي لا ترى العوائق التي ما فتئت تعترض طريقها، فتمنطقت بالحذر تحيط به صغارها. ذلك الحذر هو ما دفعها لان تعهد بابنها البكر لبعض أقاربه في حي السجانة بالخرطوم، لأسابيع قليلة، بعيداً عن امدرمان لرعايته حتى تعود من عزاء اخيها الأكبر عبر الحدود. لم تأمن عليه عند أهله مخافة الجوع والمسغبة والإهمال والترويع والمذلة. وفي السجانة أحسنوا رعايته وأكرموا وفادته وتجاوزوا عن عبث الصغار بعطف وحنان. غص حلقه لما عادت أمه من سفرها الطويل لتأخذه من تلك الدار الخيرة إلى حيث يقيم فيلمس ما تعانيه هي مرة أخرى. كانت تلك الأيام استراحة وجيزة من الكرب والغم والجفاء! أحسنت إلى من أساء اليها، وأكرمت من حرمها، وأعطت من أمسك يده عنها وعن أبنائها. في يوم من الأيام مرض أحد أبنائهم وكان في عمر ابنها البكر. اشتدت به الحمي والقيْ والوهن، فظلوا يداوونه بالأعشاب والأدوية البلدية من جردقة وقَرَضْ وحرجل ومحريب، وهلمجرا. الا أن حاله ما انفك يتدهور وصحته تسوء. كانت تتميز غيظاً وهي ترى ما يفعل أهل الصبي به، فنادت ابنها لترسله إلى الشارع العام كي يأت بسيارة اجرة تقلهم إلى عيادة النطاسي البارع الراحل الدكتور عبد الحميد صالح، ريثما ترتدي ملابسها وتطلب من أهل الطفل المريض تجهيزه لتأخذه معها. لم يرافقهم أحد، حتى من باب حب الاستطلاع. كان هذا الطبيب الانسان خدن زوجها الراحل، وآل على نفسه بعد رحيل صديقه الصدوق أن يتولى علاج اسرته ومن يخص هذه الاسرة الصغيرة. تكفل دائماً بالعلاج جميعه وبالدواء. استقل ثلاثتهم سيارة الأجرة متجهين إلى عيادة الدكتور عبد الحميد صالح الكائنة عبر الشارع من مشفى الخرطوم. بعد أن فحص الطبيب الماهر الطفل قال لها: لو تأخرتم سويعات قليلة لانفجرت الزائدة الدودية وأودت بحياته. أجرى اتصالاً بأطباء في المشفى، ثم عاد ليطلب منها أخذه إلى هناك فهم في انتظاره، وقد كان. أجريت للطفل عملية جراحية طارئة لاستئصال المصران الأعور الملتهب. بعدها عادت مع ابنها إلى امدرمان بدون الطفل المريض وأخبرت أهله بما جرى. لم تكن وسائل الاتصال في ذلك الزمن كما هي اليوم! حينئذٍ هُرعوا إلى المشفى. لكنها لم تكتف بذلك، بل ذهبت في اليوم التالي لتعوده فوجدته قد استرد عافيته ولونه.

    أقام أهله "الكرامة" بعد عودته سالماً معافى إلى داره، دعوا إلى هذا الجمع القاصي والداني، والبعض جاء من تلقاء نفسه، عيادة للمريض، لكن ما من أحد دعاها وابنائها إلى هذا الحفل. لزمت بيتها مع صغارها، سعيدة بما صنعت، ولم تأبه لهذا النكران. كانت سعادتها غامرة حينما أدركت صواب قرارها بألاّ تترك ابنها بين ظهرانيهم اثناء غيابها.

    كانت السيدة الصابرة شديدة الاعتداد بالنفس من غير تكبر، بل بتواضع يُخجل الاخرين فيطأطئون الرؤوس اجلالاً واحتراماً. كانت تذل قرشها ولا تذل نفسها أو تصغّر من شأنها. في يوم من الأيام داس بعض أهل زوجها على طرف لها في مدينة كسلا لما توقفت عندهم لبضعة أيام وهي في طريقها مع صغارها لقضاء العطلة الصيفية في ارتريا، وقد اعتادت أن تفعل ذلك في كل مرة، فالدار بيت كبير العائلة، ولا يجوز تجاوزها. لكن تلك الإساءة كانت رجع صدى لما يدور في امدرمان، فصغرت الدار وكبير العائلة لم يعد كذلك. ولما بدأت رحلة العودة إلى منزلها في عاصمة السودان الوطنية، توقفت أيضاً في كسلا، لكنها اختارت الاستراحة في نُزل "الضيقي" الصغير عند أطراف السوق إلى أن تستقل القطار حينما يأذن فصل الخريف والأمطار المنهمرة على طول الطريق، لا سيما في مدن وبلدات الجزيرة بحركة القطارات.

    لم يعتد الناس، في تلك الأيام، إقامة النساء والعائلات فيما يشبه الخانات أو ما يسمونه باللوكندات. كان ذاك النُزل مأوى لصغار التجار ولسائقي الشاحنات ومن على شاكلتهم من عابري السبيل. تردد موظفو النُزل كثيرا قبل أن يفردوا لها غرفة في وسط الساحة. ثم طبق خبر إقامة المرأة وابنائها في ذلك الخان آفاق كسلا وانتشر وصفها واسمها وأسماء أبنائها في جميع انحاء المدينة انتشار النار في الهشيم. عرف بذلك الكافة، ومنهم الأهل والاقارب لكنهم لم يحركوا ساكناً! وفي ضحى اليوم التالي جاء إلى الخان إبراهيم حاج أبو بكر المعروف في المدينة بإبراهيم شل مع زوجه الصالحة وابنائه، كان مديرا لمحطة المحروقات الكبيرة التي يزين شعار شركة شل مبناها ومعداتها وهي تطل على وسط مدخل المدينة المواجه لنادي الميرغنية الرياضي حيث يكون السوق على مرمى حجر. سمع إبراهيم كغيره بالخبر العجيب "والمستهجن"، فهو يعرفها وزوجه تعرفها ويعرفان أهلها في ارتريا وقدرها وقدرهم وأهل زوجها الراحل في كسلا، تربطهم أواصر وثيقة من المودة وعُرى الجوار والعشرة والالفة. طلبا منها أن تحزم امتعتها لتذهب هي وأطفالها معهما إلى بيتهما في حي "أبو خمسة"، وكان حياً حديث العمران حينذاك. تمنعت السيدة طويلاً ورفضت بشدة قائلة بأن اقامتها في الخان لن تطول سوى يوم أو يومين، لكنهما واصلا الالحاح قائلين انهما لن يبرحا المكان بدونها وسيمكثان معها، فانصاعت لإلحاحهما. ومذاك أصبح منزلهما المترع بالمحبة والكرم الفياض والترحاب وحسن الضيافة محط رحلها في ذهابها وايابها إلى ارتريا اثناء العطلات الصيفية، إذ لم يبدِ أهل أبنائها واقاربهم بادرة للاتصال بهم والاطمئنان عليهم أو السؤال عنهم، وكسلا في ذلك الزمان لا يخفى فيها شيء، مفتوحة على مصراعيها، يُعرف الغادي فيها والرائح والواصلون إلى محطة القطار أو الحافلات، والخارجون والداخلون من منفذ الجوازات أو من "اللفة" والمختبئون في مزارع الموز حيث يتسلل اليها المخالفون، كانت تلك الوقائع من أحاديث المدينة وسمر أهلها وزوارها.

    في ذلك المنزل الممتلئ رغداً التقى أبناؤها نجماً من نجوم كرة القدم كانوا من المعجبين به ومشجعيه، فقد جاء إلى كسلا ابن عم إبراهيم شل لحضور زواج أخيه، يوسف، من شقيقة زوجه؛ وهن كريمتي رجل الاعمال الارتري وأحد وجهاء اسمرا، حسن مبروك. أتى حبشي "محمود الحاج أبوبكر"، نجم فريق الهلال والفريق القومي السوداني، الذي كان في السنة الثالثة من دراسته في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم، ثم أصبح فيما بعد وكيلاً لوزارة الشباب والرياضة إلى المدينة للمشاركة في زواج ابن عمه. ولأن لصاحبي الفرح من شأن ومكانة بين الناس، كانت الدار العامرة تفيض في ذلك اليوم السعيد بالزوار من ارجاء السودان كافة ومدن وبلدات وقرى محافظة كسلا وأحياء المدينة، ومن تخوم ارتريا وأقاصيها ومن جوارهما، يروون الحكايات ويضربون الامثال بألسن عددا، ويسردون قصص الدروب التي سلكوها وساروا عليها والانحاء التي مروا بها بدون تأويل أو تفسير أو ترجمة؛ فمعظم الحضور – نساءً ورجالاً، شيباً وشباباً وأطفالاً - يتقن أكثر من لغة ويضحك ملئ شدقيه برطانة وأخرى في مزيج يطرب ويشجي.

    في ستينيات القرن الماضي أمضى إبراهيم شل بعض الوقت في العاصمة الارترية، اسمرا، حيث تولى إدارة المقهى المشهور الذي يملكه حماه، حسن مبروك، ويتوسط شارع الامبراطورة منن، وهو الشارع الموازي لشارع الامبراطور هيلي سلاسي الذي تغيرت أسماؤه منذ أن كان طريق موسوليني "كورسو موسوليني" ابان الاستعمار الإيطالي، إلى أن استقر الآن بعد التحرير ليصبح شارع الحرية. كان المقهى في اسمرا، من حيث موقعه وتردد الناس عليه، مثيلا لمحطة شل للوقود في كسلا، يمر به وبها غالبية السكان والزوار الذين يستطيع الحصيف معرفة كنههم ويدرك الحذر مرامهم ويقرأ اللبيب مرادهم، خيراً أو شراً. وإبراهيم حصيف وحذر ولبيب، وفوق ذلك ودود، لين العريكة. كان بين فينة وأخرى يمتطي دراجته الهوائية يجول بها على مهل بعض انحاء اسمرا ما بين المقهى في شارع الامبراطورة منن وبيت حماه في شارع بحر دار ثم يتجاوز المكان الى الكاتدرائية القبطية نزولاً عبر الحواري ثم صعوداً الى محطة السكك الحديدية، وبعدها يعود الى المقهى مرورا بجامع الخلفاء الراشدين وسوق الأسماك والخضر والفاكهة وسينما امبيرو في شارع الامبراطور. تتجمع لدى إبراهيم اثناء هذه الجولة تفاصيل صورة حركة الناس في أهم مفاصل المدينة واشكال عسس وعيون أجهزة المباحث الاثيوبية كما ملامح الفدائيين الارتريين الذي يدخلون العاصمة خلسة نهاراً جهاراً، فالليل لا يسترهم بل يكشف سترهم حين تخلو شوارع المدينة من المارة وتجوب حواريها وطرقها قوافل الخفراء والجواسيس. كانت الثورة الارترية قد اندلعت واشتد ساعدها بعد معركة تقوربا وعمليات الفدائيين في المدن المختلفة. في غالب الأحيان كان إبراهيم يجد بعض هؤلاء وأولئك في المقهى يحتسون الشاي أو يتناولون فطوراً خفيفاً. كان يدعو الا يكتشف أحدهم الآخر ويندلع قتال لا يريده أحد في هذا المكان. في بعض الأحيان كان يشير خفية بعينيه للفدائيين بمغادرة المكان، وكانوا يغادرون الواحد تلو الآخر دون جلبة أو لفت للأنظار.

    كان منزل حماه يتوسط منزل أحمد ولّو، وهو واحد من أهم العناصر الاستخباراتية العاملة في قصر الحاكم العام الاثيوبي "القبي"، ومنزل الكفالييري علي تامر، رجل الاعمال والوجيه. كان أحمد ولّو مسلماً من قومية الارومو الاثيوبية، ومشهوراً بين الناس، همساً، بالقالاوي. يكره الارومو تسميهم بالقالا ويشمئزون منها، مثلما يكره التقراي تسميتهم بالعقامي وينفرون منها. كان أحمد قصير القامة، سريع الخطى، ذرب اللسان. يخرج من بيته الى القصر ويعود اليه سالكاً طرقاً مختلفة في كل يوم. كان يعرف أهل المدينة والقاطنين إلى جواره أو على دروب القصر يتجاذب معهم أطراف الحديث ويحاول أن يلتقط معلومة هنا أو هناك وشكوى عن حال من الأحوال. كان يتوقف عند صاحب الحانوت اليماني المتزوج من ارترية مسيحية، ثم يعرج على محل صانع الأحذية والجلديات الإيطالي، ماكلوزو، الذي يظل جالساً خلف طاولته طيلة اليوم، مما يذكرني بالأنشودة الإنجليزية التي كنا نرددها في المدرسة عن صانع الأحذية العجوز جون "Shoemaker John is a very Oldman. He works at night and day”. ومن خلال الازقة كان يصل الى شارع الامبراطورة ثم صعوداً الى القصر، وفي اليوم التالي يسلك طريقاً آخر يقوده الى شارع الصاغة فيتوقف عند دكان أبو القاسم تبيدي المزدحم بالنسوة، ويأتي الى بائعي الصحف والخردوات الحضارمة، وهكذا من درب الى آخر صباحاً وفي العودة الى داره مساءً. كان يجمع الاخبار والحكايات، خبراً من هنا وحكاية من هناك، وقيل انه تسبب في اعتقال الكثيرين الى أن قام الفدائيون الارتريون بتصفيته في قلب العاصمة في وضح النهار والثمانينيات تطرق الأبواب. لم يشكل احمد ولّو تهديدا لإبراهيم شل أو حماه واسرته، فقد حماهم الجوار والحذر من أذاه.

    في كسلا، كانت محطة شل هي مركز اتصالات الثورة الارترية. لم تكن الهواتف متوفرة بكثرة في المدينة بل هي قليلة، ولم تكن في مكاتب الثورة الارترية خطوط هاتفية، فلجأوا الى إبراهيم شل الذي سمح لهم، بأريحية، استخدام هاتف المحطة لإجراء مكالماتهم أرسالاً أو استقبالاً مع الخرطوم حيث القيادة السياسية الأقرب، وبورتسودان حيث المصادر الرئيسية للتموين والامداد، ومع القضارف احدى ركائز التمويل وبقية المدن السودانية إن استدعى الآمر. لم يكن الاتصال سهلاً، فقد ينتظر بعض أعضاء القيادة الثورية لجبهة التحرير الارترية ساعات طوال في مكتب إبراهيم حتى يتسنى الاتصال، ويمتد ذلك الانتظار ساعات إضافية في موسم الامطار. في هذه الاثناء كانت اخبار المدينة في متناول أيديهم يأتي بها أصحاب السيارات وسيارات الأجرة والشاحنات وغيرهم، ويتيح لهم الانتظار رصد عناصر الأعداء. لإبراهيم شل أيادي بيضاء في فترة دقيقة من تاريخ الثورة الارترية، شكلت بداية انتشارها وتكوين المناطق العسكرية الخمس على غرار تجربة الثورة الجزائرية وذلك بعد اندلاعها في الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1961. مياه كثيرة جرت تحت الجسر، فهل تحققت آمال وأماني الارتريين بُعيد الاستقلال؟ وهل ما زالت القصص والحكايات تروى كما كانت من قبل؟!


elsouri1@yahoo.com

 

آراء