العفو أو الإفلات من العقاب؟ (3-5)

 


 

 

العفو أو الإفلات من العقاب؟ (3-5):
نقد أولي لتقرير لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا
.. بقلم: د. محمود ممدانى .. ترجمة عصام على عبد الحليم

كيب الغربية. تضم المنطقة المعروفة باسم ويسترن كيب (كيب الغربية) مقاطعات ويسترن كيب ونورثرن كيب (كيب الشمالية). تميزت بحادثات الإبادة الجماعية لسكان خويسان الأصليين، والاختطاف الواسع النطاق لأطفال خويسان للعمل القسري، واستيراد آلاف من العبيد الإندونيسيين والهنود ومن شرق إفريقيا، وقد انتجت سرديات لتاريخ هذه المنطقة ما قبل البارثيد، تميزت بالمبالغة من خلال إعلانها "منطقة تفضيل العمل للملونين"، والتي حولتها تدريجيا إلى منطقة ذات أغلبية وصفت بأنها "ملونة."
ووجدت اللجنة أن " كيب الشمالية عانت تاريخا طويلا من نزع ملكية الأراضي والإزالة القسرية". في إشارة إلى 1960، وهي بداية المرحلة الافتتاحية التي تقع ضمن تفويضها، اعترفت اللجنة بأنه " تم نقل الأفارقة بشكل رئيسي إلى بوفوثاتسوانا، وذلك -مرارا- لفسح المجال لإقامة معسكرات عسكرية لقوات الدفاع الجنوب أفريقية (سادف)". في عام 1980، أدت عمليات الإزالة القسرية إلى خصخصة" المستوطنات الزراعية الجماعية المستقلة." لكن تقريرها لا يعطي أرقاما لأولئك الذين تم إبعادهم قسرا من هذه المجتمعات. عندما يتعلق الأمر بتحديد ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المنطقة، تسجل اللجنة أن 52 ٪ كانوا ضحايا "سوء المعاملة الشديدة" وتلاحظ: "كان الشكل الأكثر شيوعا لسوء المعاملة الشديدة المبلغ عنه هو الضرب، يليه – وقريبا منه - السجن وإصابات إطلاق النار "[لجنة الحقيقة والمصالحة 3: 391, 393, 8, 18]. ولا يوجد ذكر " لعمليات الإزالة القسرية.

ترانسفال. ترانسفال هي المركز الصناعي لجنوب إفريقيا. تقع في القلب منها مدينة سويتو في جنوبها الغربي. خلال عقد 1960، " عملت الحكومة بشكل منهجي على عكس تدفق الأفارقة إلى المناطق الحضرية، وإعادة هيكلة القوى العاملة الصناعية إلى قوة واحدة تتكون أساسا من العمالة المهاجرة". أشارت اللجنة إلى تقديرات أنه" تم إعادة توطين أكثر من مليون مستأجر عمالي ومستوطنين مزارعين، و400 ألف من سكان المدن، في مناطق محلية(homelands)، وهي التي زاد عدد سكانها بنسبة 70 ٪ في عام 1960 " [لجنة تشير الحقيقة والمصالحة 3: 529 - 30، 18]. لخصت هذه العبارة -"إعادة التوطين"- سلسلة من الإجراءات، من هدم المنازل وتدمير الممتلكات الثابتة وترحيل الممتلكات المنقولة والأشخاص، وكلها قامت على الاستخدام المباشر للقوة وللوحشية بدرجات متفاوتة. لقد كانت فترة من القمع الشديد، حتى لو واجهتها مقاومة علنية قليلة-لذلك فمن المفارقات العظيمة أن اللجنة سجلت "أقل عدد من الانتهاكات (473) لهذه الفترة "، وعزت هذه الأرقام المنخفضة إلى" عوامل مثل بعد تاريخ تلك الأحداث التي غطتها الصراعات السياسية التي جرت في التاريخ القريب، ووفاة الشهود المحتملين، وتلاشي ذاكرة الأحياء منهم " [لجنة الحقيقة والمصالحة 3: 531، 115]. الشيء الوحيد الذي لم تضع له اللجنة اعتبارا هو مسؤوليتها الخاصة: هل يمكن أن تكون تلك المعرفة المؤكدة بأن اللجنة لم تعتبر "عمليات الإزالة القسرية" انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان-وبالمقابل تكلمت عن " تلاشي الشهود"- أبقت -بذلك- "الشهود" بعيدا عن تقديم المظالم إلى اللجنة؟ هل يمكن أن يكون قرار اللجنة بتفسير شروطها الخاصة بشكل ضيق، قد طمس من السجل الرسمي أكثر الممارسات القمعية، تلك التي تؤثر على أعداد كبيرة من الناس العاديين في جنوب إفريقيا؟

لم يقتصر الأمر على طرد السكان المحليين السود الذين قاوموا الاستقلال-مثلا برفض جنسية المحليات - قسرا، ولكن كذلك السكان السود المقيمين في جنوب إفريقيا" البيضاء "الذين تم تعريفهم على أنهم" بقع سوداء " تم استهدافهم أيضا بالإبعاد القسري. قدًر تحقيق تم توزيعه على نطاق واسع، واستشهد به من قبل ’ مشروع الناس الفائضون’، عدد الافراد الذين تم نقلهم قسرا ب 3.5 مليون شخص من قبل دولة جنوب إفريقيا بين عام 1960 و1982 دعما لبرنامج تنمية المحليات العرقية. اللجنة أقرت بأن 3.5 مليون قد تم نقلهم قسرا [لجنة الحقيقة والمصالحة 2: 409، 134] وأن العملية تضمنت "عمليات طرد جماعي، هجرة قسرية، تجريف، تدمير أو الاستيلاء على المنازل، والحمل الإلزامي لجوازات للمرور، والإبعاد القسري إلى أحياء مدن الصفيح الريفية وزيادة الفقر واليأس " [ص 1: 34، 545]. لم يمر حتى ولا جيل واحد منذ أن انتهت هذه الأعمال الوحشية. لم يكن غريبا أن كلا من الضحايا الباقين على قيد الحياة، ومناصريهم بين الناشطين والعاملين في أنشطة تنظيم المجتمع، افترضوا أن الترحيل أو الإزالة القسرية ستكون محور التركيز الأساسي للجنة الحقيقة والمصالحة. لكن غابت استجابة اللجنة: فبعد الإشارة إلى أن "عمليات الإزالة القسرية "كانت" اعتداء على حقوق وكرامة الملايين من جنوب أفريقيا، " ادعت اللجنة أنها لا تستطيع أن تقر بها، حيث أن هذه الانتهاكات "قد لا تكون ’ جسيمة’ على النحو المحدد من قبل قانون تأسيس اللجنة " [لجنة الحقيقة والمصالحة 1: 34,4، 45]

وتغرز ظاهرة " الإبعاد القسري "الشك في جميع الثنائيات الثلاثة التي خلقتها اللجنة وبنت عليها تفسيرها شديد الضيق لما يشكل انتهاكا" جسيما": التمييز بين" حقوق السلامة الجسدية "و" حقوق العيش الكريم "، وبين الحقوق الفردية والحقوق الجماعية، وبين الدوافع" السياسية " والدوافع غير السياسية. لقد انتهكت عمليات الترحيل القسري الأشخاص كما استهدفت ممتلكاتهم على حد سواء.
لقد انتهكت الحقوق لكل من الجماعات والأفراد، بهذا الترتيب، نظرا لأن المستهدفين تم تعريفهم أولا وقبل كل شيء على أنهم مجموعات-عرقية في جنوب إفريقيا البيضاء، تمثل "بقع سوداء"، وتم تعريفهم عرقيا في محليات محددة على أنهم "غرباء إثنيون" - وعندها فقط كأفراد ينتمون لهذه المجموعات. أخيرا ، على الرغم من إزالة البعض من الأوطان لمعارضتهم المباشرة لمشروع الفصل العنصري ، إلا أن جميع عمليات الإزالة القسرية كانت نتيجة مباشرة لتنفيذ الدولة لمشروعها السياسي، مشروع الفصل العنصري الكبير ، وهو مشروع كان جماعه ومضمونه إضفاء الطابع العنصري على الفضاء والمجتمعات في جنوب إفريقيا البيضاء، وإضفاء الطابع العرقي على الفضاء والمجتمعات في جنوب إفريقيا السوداء.
تمرير القوانين والعمل القسري
تضمنت قوانين المرور المراقبة العرقية والإثنية للسكان السود، والاستهداف العنصري للمعارضين السياسيين المشتبه بهم. كان العام الذي ابتدأ فيه تفويض اللجنة، 1960، هو العام الذي وسعت فيه حكومة الحزب الوطني قوانين المرور لتشمل النساء "من السكان الأصليين". ولقد مثلت مظاهرات شاربفيل في 21 مارس تتويجا للاحتجاجات الجماهيرية ضد هذا التطور.

بعد عام 1960، الزم كل شخص بالغ" من السكان الأصليين " في جنوب إفريقيا، ذكرا كان أم أنثى، على حمل جوازات مرور. في المقابل، ترتب على ذلك – بالتوازي - رصد حركة كل "مواطن" في البلاد من خلال اللوائح الإدارية التي تشرف على فرضها قوات الشرطة. وفقا لتقديرات معهد جنوب إفريقيا للعلاقات العرقية، تم إصدار أوامر إدارية لأكثر من مليون شخص بمغادرة المناطق الحضرية بحلول عام 1972 [لجنة الحقيقة والمصالحة 3: 528، 13]. إلى جانب مراقبة السكان "الأصليين"، تم وضع قوانين المرور أيضا لغرض سياسي محدد للغاية. "منذ أوائل الستينيات، كانت قوانين المرور هي الأداة الأساسية التي تستخدمها الدولة لاعتقال وتوجيه الاتهام إلى خصومها السياسيين" [لجنة الحقيقة والمصالحة 3: 16 128].

شكل مخالفو قانون المرور نسبة كبيرة من نزلاء السجون طوال فترة سريانه -والتي استمرت لمعظم الوقت خلال وجود اللجنة. في الواقع، وجدت اللجنة أن نسبة المخالفين للقانون كانت "عالية، مثلت واحدا من كل أربعة سجناء خلال 1960 و1970" [لجنة الحقيقة والمصالحة 4: 200، 18]. تم إرسال المخالفين لقانون المرور إلى السجن لسبب واحد فقط: لم يستوفوا الشرط الإداري المتمثل في أن الأغلبية العرقية السوداء من السكان عليها حمل جواز مرور، وان يتوافق وجودهم مع القيود الإدارية المفروضة على حركتهم اليومية. ووافقت اللجنة على أن "معاملة المخالفين لقانون المرور يمكن أن تفسر على أنها انتهاك لحقوق الإنسان"، لكنها ما زالت ترفض إدراج فئة سجناء قانون المرور في جلسات الاستماع المؤسسية بشأن السجون. على الرغم من حقيقة أنه "تم تقديم حجة قوية لإدراج هذه الفئة من سجناء القانون العام في جلسات الاستماع، رفضت اللجنة، وأسست رفضها على أن هؤلاء كانوا سجناء بموجب القانون العام وليسوا" سجناء سياسيين. ومع ذلك، فإن "القانون العام" الوحيد الذي انتهكه هؤلاء السجناء هو قانون المرور، وهو القانون الذي يجرم ممارسة حق أساسي من حقوق الإنسان، وهو الحق في حرية التنقل. اعتبار المسجونين بسبب مخالفة قانون المرور فقط كسجناء في القانون العام-وحرمانهم صراحة من وضع السجناء السياسيين كان لدعم وإقرار الإطار القانوني للفصل العنصري. على حد تعبير اللجنة: "تقرر أن قوانين المرور وآثارها تقع خارج تفويض اللجنة، خاصة بالنظر إلى شرط أن كل انتهاك يجب أن ينشأ في سياق سياسي" [لجنة الحقيقة والمصالحة 4: 200,?6-8, 10].

عندما تصنف الدولة جميع سكانها عنصريا، ثم تدمغ كل عضو في الأغلبية المعرقنة بوثائق تسمح للمسؤولين الإداريين بمراقبة كل حركة يقومون بها -وباستخدام عدد متكاثر من اللوائح الإدارية القائمة على التصنيف العنصري، تسمح لقيادتها باستهداف المعارضين السياسيين المشتبه بهم- فمن أي وجهة نظر يمكن أن يقال أن الدافع وراء هذه المجموعة من الممارسات لم يكن سياسيا ؟

منظومة سجون المزارع
لم تكن فئة سجناء قانون المرور هي الفئة الوحيدة المستبعدة من جلسات الاستماع المؤسسية للجنة بشأن السجون، وهي التي رفضت الإقرار بأن هذه الفئة عانت من "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان" في الفترة 1960-94. كما تم على الأقل استبعاد فئتين هامتين أخيرتين. أول هذه كانت فئة سجناء المزارع. كان نظام سجون المزارع سيئ السمعة مرتبطا مباشرة بنظام قانون المرور. أدى فشل شخص أسود في إبراز تصريح (جواز) مرور إلى اعتقاله. مع تزايد عدد الاعتقالات، ازداد العبء المالي على الدولة. اقترحت وزارة شؤون السكان الأصليين حلا لهذه المشكلة في تعميم العام 23 لعام 1954:

من المعروف أن أعدادا كبيرة من السكان الأصليين يتم اعتقالهم يوميا بسبب مخالفات ذات
طبيعة تقنية بحتة. تكلف هذه الاعتقالات الدولة مبالغ كبيرة من المال ولا تخدم أي غرض مفيد.
ولذلك أجرت وزارة العدل وشرطة جنوب أفريقيا وهذه الوزارة مشاورات بشأن المشكلة
وطورت مخططا يهدف إلى حث المواطنين الأصليين العاطلين عن العمل الذين يهيمون في الشوارع
في مختلف المناطق الحضرية، على قبول العمل خارج هذه المناطق الحضرية. [كيو تي دي.
في لجنة الحقيقة والمصالحة 4: 202

عليه، عندما يفشل "السكان الأصليون" من الآن فصاعدا في إصدار تصريح"، لم يتم نقلهم إلى المحكمة، ولكن إلى مكاتب العمل حيث سيتم تحفيزهم أو إجبارهم على التطوع. “من الناحية النظرية، كان يجب إخبارهم أنهم إذا "تطوعوا" للعمل في المزارع، فسيتم إسقاط التهم الموجهة إليهم بالمقابل. وقد كانت النتيجة، كما لاحظت اللجنة أن "الاعتقالات بسبب عدم إبراز تصريح المرور أصبحت مصدرا غنيا للعمالة في المزارع"، مما يضمن للمزارعين " إمدادا رخيصا من العمالة". هذا النوع من الإساءة التي يمكن الوقوف عليها كما في حالة مثل هذا" المتطوع " تم عرضها في ساحة المعرفة العامة من خلال إفادة خطية من أحد هؤلاء العمال، روبرت نكوبي، وقعها في أواخر 1950

بعد أن كنت هناك [في مزرعة] لمدة أربعة أشهر تقريبا، لاحظت ذات يوم صبيا رئيسا، توميلا،
كان يبلغ من العمر ستة عشر عاما فقط، يضرب أحد العمال الذي كان يقطع الحطب. بعد الاعتداء
لاحظت أن أنف هذا الرجل كان ينزف كثيرا. جلس الرجل واستمر أنفه ينزف وترك هناك حتى تم
حبسنا في الساعة السادسة. في صباح اليوم التالي لم يتمكن من النهوض والعمل. كان يرتجف طوال
الوقت. لم يعمل لمدة ثلاثة أيام وتوفي صباح يوم السبت. قال الصبي الرئيس، فيليب، لأربعة من
العمال أن يحملوه إلى الغرفة حيث يتم الاحتفاظ بالموتى وترك الجثة هناك حتى صباح الاثنين. بعد
ظهر يوم الاثنين حوالي الساعة الرابعة والنصف، حملت أنا وسبعة آخرون، بمن فيهم فيليب، الجثة
ودفنها في المزرعة. كانت هناك قبور أخرى حيث دفناه. لم أر طبيبا أو الشرطة يأتون لرؤية الجثة
قبل دفنها. [لجنة الحقيقة والمصالحة 4:203, [17]

لقد عرفت اللجنة هذه الحقائق، لكن فئة سجناء المزارع لم تظهر في جلسات الاستماع الخاصة بتجربة السجن. لما لا؟ لأنه، قالت اللجنة، "لم يأت أحد لتقديم الأدلة" [لجنة الحقيقة والمصالحة 4: 202,?16]. إذا افترضنا في هذه الحالة، أن لا أحد، تشير إلى ضحايا نظام العمل الزراعي؛ فانه من المستحيل أن تشير إلى مديري تلك المؤسسات، للجنة كامل الحق القانوني في استدعاء شهود مترددين أو حتى غير راغبين-وقد فعلت ذلك في حالات أخرى-ولكن، من الواضح، ليس في هذه المسألة، ليس مديري تلك المؤسسات.

الاعتقال بدون محاكمة
والفئة الثانية من السجناء المستبعدين من جلسات الاستماع في السجون هي فئة السجناء المحتجزين دون محاكمة. وقدرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان العدد الذي احتجز بين عامي 1960 و1990 بـ "حوالي 80 ألف جنوب أفريقي"، وقد أتيحت تقاريرها للجنة. وأشارت اللجنة إلى أن الاعتقال كثيرا ما يكون مصحوبا بالتعذيب وأحيانا بالموت. والواقع أن الأفراد كثيرا ما يحتجزون حتى يمكن استجوابهم وترهيبهم، بدون خوف من أي مساءلة أو عقاب. وكما قالت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، حسب ما اقتطفت لجنة الحقيقة والمصالحة

ولا شك في أن شرطة الأمن تعتبر قدرتها على تعذيب المحتجزين مع الإفلات التام من العقاب حجر الزاوية في نظام الاعتقال. وهو يضع المعتقل تحت الإخضاع الكامل للشرطة بغرض انتزاع المعلومات والأقوال والاعترافات، في كثير من الأحيان بغض النظر عما إذا كانت صحيحة أم لا، من أجل ضمان محاكمة ناجحة، وتحييد تام لمعارض آخر لنظام الفصل العنصري. في بعض الأحيان يتم استخدام التعذيب على المعتقلين قبل أن يتم طرح سؤالهم الأول لتليينهم. وفي أحيان أخرى، يستخدم التعذيب في وقت متأخر من عملية الاستجواب عندما يكون المحتجز عنيدا وصعبا.4

كانت أسوأ حالة وفاة أثناء الاحتجاز هي حالة ستيف بيكو. لكن أعداد المعتقلين، ومن تعرضوا للتعذيب، وحتى من قتلوا، لم تكن صغيرة. استشهدت اللجنة دون تعليق، بتقديرات اللجنة المعنية بحقوق الإنسان بأن حوالي 80 ألف قد اعتقلوا بين عامي 1960 و1990- وأن "ما يصل إلى 80% منهم أطلق سراحهم في نهاية المطاف دون تهمة، وبالكاد 4% منهم أدينوا بأي جريمة" [لجنة الحقيقة والمصالحة 4: 201، 112]. ثم قدمت تقديرا لأولئك الذين تعرضوا للتعذيب-" يعتقد أن ما يصل إلى 20 ألف معتقل تعرضوا للتعذيب أثناء الاحتجاز " [4: 201، 114] -دون ذكر أي مصدر. وفيما يتعلق بالوفيات أثناء الاحتجاز، لاحظت اللجنة وفاة 73 محتجزا بموجب التشريعات الأمنية، لكنها لم تستطع تقديم تقديرات بعدد المحتجزين بموجب القانون العام الذين ربما ماتوا أثناء الاحتجاز [لجنة الحقيقة والمصالحة 4: 201-02، 114].
ولم تقدم اللجنة أي أسباب قانونية لاستبعاد فئة المحتجزين من جلسات الاستماع في السجون. وقالت إن أسبابها عملية وليست قانونية. ببساطة لم يكن لديها الوقت: "كانت هناك أسباب عملية وليست قانونية لاستبعاد الاحتجاز من جلسات الاستماع في السجن. كان على مجموعة العمل أن تأخذ في الاعتبار حقيقة أنه يمكن تخصيص يومين فقط لجلسة الاستماع، مما يضع ضغطا هائلا على برنامج مثقل بالفعل " [4: 201، ط 11]. للنظر في عواقب لجنة مكلفة بـ “إنشاء صورة كاملة قدر الإمكان لأسباب وطبيعة ومدى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان " من عام 1960 إلى عام 1994، دعونا ببساطة نضع في اعتبارنا الأرقام المعنية: ما يقدر بنحو 80 ألف معتقل، قيل إن 20 ألف منهم تعرضوا للتعذيب أثناء الاعتقال، مقابل حوالي أكثر من 20 ألف، اعترفت بها اللجنة كضحايا للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. إذا تمكنت اللجنة من الاعتراف باعتقال، تعذيب وموت ستيف بيكو باعتباره انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، لماذا لا يمكن أن تقدم نفس الاعتراف للآخرين الذين واجهوا مصيرا مشابها؟

حكم القانون
جادل روبرت أ. ويليامز مؤخرا بأن "السمة المميزة لخطابات الغرب الاستعمارية لتبرير الاحتلال " كانت " رؤية مركزية لنظام عالمي تم إنشاؤه من خلال القانون وعمليات إنتاجه " [18-19]. أيضا لاحظت حنة أرندت الادعاء النازي بأن حكمهم كان متوافقا مع سيادة حكم القانون [انظر أصول الشمولية]. وبالمثل، لا يمكن لأي شخص درس خطاب دولة الفصل العنصري إلا أن يذهله ادعائها بأنها حكم القانون.
واسمحوا لي أن أوضح هذه النقطة بمثالين. لقد ناقشت بالفعل أعلاه حالة نظام العمل الزراعي، حيث تم منح المخالفين لقانون المرور الاختيار بين عقوبة السجن و "التطوع" للعمل في مزرعة. عندما جلبت الإفادة المكتوبة (التي تم الاستشهاد بها سابقا) والتي شهدت بالموت من الضرب في إحدى المزارع، انتباه الجمهور إلى إساءة استخدام هذا النوع من العمل، أوقفت الدولة نظام العمل الزراعي وتبعتها بإصلاح قانوني في غضون أسابيع. سد قانون السجون المعدل لعام 1959 ثغرتين: أولا، أدخل إجراء يمكن بموجبه معالجة "المخالفين لفترات قصيرة" بسرعة من قبل المحاكم وإرسالهم إلى المزارع؛ ثانيا، وضع أي تحقيق في حياة المزرعة خارج نطاق حرية الصحافة، من خلال النص على "اعتبار المزارع سجونا وأن نشر أي شيء عن ظروف السجن دون موافقة مسبقة من مفوض السجون يعتبر جريمة جنائية" [4: 201-03].
مثال آخر من نفس الفترة يسلط الضوء على كيفية قيام نظام الفصل العنصري بتحويل الشرعية إلى نوع من الفتشية او الصنمية (يمنحها نوع من القدسية) والتلويح بها كأداة تهديد. قبل عام 1956، حكمت المحاكم أحيانا ضد وزارة شؤون السكان الأصليين عندما طردت الاخيرة "السكان الأصليين" من المناطق الحضرية. لوضع حد لتدخل المحاكم، نجح فيرورد في تمرير قانون حظر السكان الأصليين المحلي من خلال البرلمان في عام 1956. يحظر القانون أي محكمة قانونية من التدخل في أوامر الترحيل ضد "السكان الأصليين" في أي مكان في البلاد. والمحاكم ملزمة، ربما لأنها أيدت سيادة القانون. احتفل فيرورد في البرلمان:" ليس لدى المحاكم ما تفعله أكثر من قبول القوانين وشرحها " [إيفانز 116]. اليوم، يبدو أن مشروع قانون فيرويرد لم يحد من جدول أعمال محاكم الفصل العنصري فحسب، بل أيضا لجنة الحقيقة والمصالحة لما بعد الفصل العنصري.
إذا كانت الجرائم ضد الإنسانية ترتكب تحت عباءة سيادة القانون، فكيف لنا أن ندرك مفهوم سيادة القانون؟ لقد طُلِب من لجنة الحقيقة والمصالحة كجزء من تفويضها، "تقديم توصيات إلى الرئيس فيما يتعلق بإنشاء مؤسسات تفضي إلى مجتمع مستقر وعادل، والتدابير المؤسسية والإدارية والتشريعية التي ينبغي اتخاذها أو إدخالها من أجل منع ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان" [4(ح)، لجنة الحقيقة والمصالحة 2: 57، 131]. واستجابة لهذا الجزء من تفويضها، نظمت اللجنة جلسات استماع مؤسسية بشأن الجهاز القضائي. هذه هي الطريقة التي صاغ بها ديفيد ديزينهاوس النقاش في تقديمه الافتتاحي لجلسات الاستماع:

هل "يتكون القانون بشكل ابتدائي من القواعد التي تدين بوجودها إلى إصدار إيجابي من قبل هيئة تشريعية أو باعتراف صريح من قبل محكمة"، أم أنها تتكون من "المبادئ التي تجعل فكرة الحكومة في
ظل سيادة القانون فكرة منطقية، فكرة أن مثل هذه الحكومة تخضع لقيود تفرضها مبادئ مثل الإنصاف، المعقولية والمساواة في المعاملة"؟ وقام برسم تفسيرين بديلين لسيادة القانون: الأول، "نهج الحقائق الواضحة" الإجرائي والوضعي بالكامل الذي اتكأ عليه المشروع القانوني للفصل العنصري؛ والآخر "نظرية القانون ضد الوضعية" المعنية بالإجراءات وكذلك مضمون القانون. وبطريقة مغايرة لنهج الحقيقة الواضحة الذي يخفض القانون إلى "محتوى أوامر الأقوياء"، و " يتطلب من القضاة أن يتجاهلوا في تفسيرهم للقانون قناعاتهم الجوهرية حول ما يجب أن يكونه القانون"، نادى ديزنهاوس بفهم للقانون كتعبير عن علاقة متبادلة بين الحاكم والمحكوم علاقة يلتزم الحكام فيها أنفسهم ليس فقط بالخضوع أمام القانون، ولكن بجعل القانون يكفل المساواة بين الجميع". [ديزينهاوس 183، 152]

في تقديم ديزينهاوس، يعني الالتزام بحكم القانون، أن القانون يضع حدودا لممارسة سطوة الدولة-بحيث يكون الحكام "مسؤولين أمام سلطة القانون" - وأن القانون يعامل جميع الرعايا على قدم المساواة. لكن اللجنة وجدت نفسها في مأزق. فإذا رفضت نهج " الحقيقة الواضحة "لصالح "نظرية قانونية ضد الوضعية" -لو أنها بالفعل ميزت بين ما هو قانوني وما هو مشروع، بين القانون والحق-لكان عليها توسيع نطاق تفسيرها الخاص، والاعتراف بأنه في أي وقت تعامل قانون الفصل العنصري مع الأشخاص بشكل غير متساو، كما هو الحال عندما أنشأ تشريعا تمييزيا عنصريا أو إثنيا، فانه لا يمكن اعتبار هذا التشريع بمثابة الخط الفاصل بين ما هو قانوني وما هو سياسي. وهكذا، على سبيل المثال، سيتعين على اللجنة أن تنظر مخالفي القانون ليس فقط كسجناء بموجب القانون العام ولكن أيضا كسجناء سياسيين. وبالمثل، لا ينبغي اعتبار "عمليات الإزالة القسرية" تعبيرا عن سيادة القانون، بل يجب اعتبارها جزءا لا يتجزأ من مشروع سياسي عنصري وعرقي، بل تمثل ألنقيض لمفهوم سيادة القانون.
وفي الوقت نفسه، لا تستطيع اللجنة أن تدعم شرعية الفصل العنصري كشكل من أشكال القانون أو سيادة القانون خشية أن ينظر إليها على أنها تتبنى الفتشية (الصنمية) القانونية للفصل العنصري. حلت اللجنة هذه المعضلة من خلال تبني “نظرية القانون الضد وضعية " في جلسة الاستماع المؤسسية، ولكنها التزمت "بمنهج الحقائق الواضحة" في جلسات الاستماع الخاصة بالضحايا.
وفي جلسات الاستماع المؤسسية، نفت أن الفصل العنصري يمثل سيادة القانون؛ ولكن في جلسات الاستماع الخاصة بالضحايا ، واصلت اعتبار قانون الفصل العنصري بمثابة الخط الفاصل بين ما هو قانوني وما هو سياسي-حتى عندما يعامل القانون رعاياه بشكل واضح بشكل غير متساو ، كما هو الحال عندما يميز ضد الأغلبية على أسس عرقية و/أو إثنية.

كان تقديم ديزينهاوس معيبا للغاية. اقتصرت الآلية القانونية التي يستخدمها للتحليل على مجموعة القوانين ونظام المحاكم والممارسات القانونية التي حكمت السكان غير الأصليين في جنوب إفريقيا. فقد كان هذا ، في الواقع ، هو النظام القانوني الذي تكلم لغة الحقوق وادعي ملكية عباءة سيادة القانون. وعندما يتعلق الأمر بالسكان الأصليين، فإن المشكلة لم تكن مجرد استبعادهم من الوعد بسيادة القانون القائمة على الحقوق، وإنما طرح موضوعة سيادة القانون الرسمية في موضع المساومة. كان السكان الأصليون يحكمون بمجموعة مختلفة من القوانين، نظام المحاكم والممارسات، التي قدمت معا ادعاءات مختلفة في التمسك بالشرعية، عندما فرضت "التقاليد" و "الاعراف". شاركت اللجنة في هذا الخلل المذكور. وليس من قبيل المصادفة أن يظل هذا النظام "العرفي" غير مرئي تقريبا في تقرير اللجنة. من غير المرجح أن يكون أي شخص يقرأ التقرير المكون من خمس مجلدات قد تعرًف بشكل خاص على كيفية حكم الفصل العنصري رعاياه من السكان الأصليين.

لهذا السبب، عندما جاءت اللجنة لسرد تاريخ النظام القانوني في جنوب إفريقيا، اقتصرت روايتها على تاريخ النظام "المدني" الذي حكم المواطنين من غير السكان الأصليين؛ لم يكن لديها ما تقوله عن العملية التي من خلالها ظهرت الأنظمة "العرفية" المتعددة التي حكمت السكان الأصليين. وهذه هي الطريقة التي لخصت بها اللجنة تاريخ سيادة القانون في "النتائج التي توصلت إليها فيما يتعلق بالدولة وحلفائها" في المجلد الأخير من التقرير، حيث ذكرت:

في بداية فترة ولايته، كان نظام الحكم في البلاد بلا شك نظاما غير عادل وتمييزي، لكنه كان
لا يزال في الأساس نظاما من القوانين، وإن كان نظاما غير عادل. ففي مجرى العقدين الأولين من
فترة ولايته، تآكلت سيادة القانون بشكل مطرد، وافتقد نظام الإدارة العامة مضمونه الديمقراطي
المتبقي. بحلول الوقت الذي تولى فيه الرئيس بوتا السلطة، تميز النظام بالقمع الشديد. ومع ذلك، لم
تعتمد بعد سياسة قتل خصومها. تمتد الفترة التي دخلت فيها دولة جنوب إفريقيا في عالم سوء السلوك
الإجرامي من وصول بي دبليو بوتا إلى السلطة في عام 1978 إلى أوائل عام 1990، بما في ذلك جزء
من الفترة التي شغل فيها خليفته منصبه. [لجنة الحقيقة والمصالحة 5: 213، الألغام التركيز

وعلى الرغم من أن خطوط الترسيم بين الفترات لم تكن واضحة، إلا أن اللجنة حددت ثلاث تطورات أساسية كمفتاح لتآكل سيادة القانون. الأول هو إعادة هيكلة السلطة القضائية بدعم من الأغلبية البرلمانية، وهو تطور اعتبرته اللجنة " مكافئا للتزوير الدستوري". الفصل الخاص بجلسات الاستماع المؤسسية حول" المجتمع القانوني "يتحدث عن بداية" الالتزام السطحي "بسيادة القانون" من قبل الحزب الوطني " من منتصف 1950 مع " إعادة هيكلة الموظفين القضائيين وقسم الاستئناف، "عندما" قدم الناخبون البيض دعمهم للتزوير الدستوري الذي لجأت إليه الحكومة للتحايل على البنود الراسخة في قانون جنوب إفريقيا " [لجنة الحقيقة والمصالحة 4: 101، 132]. التطور الثاني الذي أدى إلى تآكل سيادة القانون هو استخدام أساليب التعذيب ضد المعارضين السياسيين والمعتقلين. يستشهد الفصل الخاص بـ" الدولة داخل جنوب إفريقيا بين عامي 1960 و 1990 "بسلطة لا تقل عن جو سلوفو بأنه" حتى عام 1960/61، تم خوض الصراع تحت الارض وفقا لقواعد محترمة، وبقناعة "أنه" لا تزال هناك سيادة للقانون "مع" محاكمة عادلة في محاكمهم "؛ ثم أضاف: "حتى عام 1963، لم أكن أعرف عن أي حادثة تعرض فيها أي سجين سياسي للتعذيب. وتابعت اللجنة تأهيل بيان سلوفو: "في حين لا يبدو أن التعذيب قد استخدم على المعتقلين السياسيين في المناطق الحضرية، وعلى معتقلي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي حتى عام 1963, الا أن اللجنة تلقت معلومات عن الاستخدام الواسع النطاق لجميع أشكال التعذيب ضد المتمردين الريفيين المتورطين في ثورة بوندولاند في عام 1960، وضد أعضاء ومؤيدي حركة بوكو التابعة لحزب المؤتمر الشعبي العام."
هذا التحول في استخدام التعذيب من القضايا الجنائية إلى القضايا السياسية، تزامن كذلك مع توافر المساعدة الأجنبية في تكنولوجيا التعذيب:" كان يعتقد على نطاق واسع من قبل العديد من النشطاء السياسيين في ذلك الوقت أنه في أوائل 1960، تلقت فرقة خاصة من رجال الشرطة الأمنية، تدريبا خاصا في تقنيات التعذيب في فرنسا والجزائر، وأن ذلك تسبب في زيادة مفاجئة وكبيرة في حالات التعذيب " [لجنة الحقيقة والمصالحة 2: 195، 1121-23]. أما التطور الثالث الذي حددته اللجنة كمفتاح لتقويض سيادة القانون فهو تحول " السلطة الحقيقية لوضع القواعد من البرلمان ومجلس الوزراء، إلى هيئة إدارية غير منتخبة، وهي مجلس أمن الدولة الذي عمل خارج نطاق المراقبة العامة". مع هذا التحول في عقد 1980”، أصبح من الواضح أن سيادة القانون قد انتهت". في البداية، استهدف مجلس أمن الدولة أعضاء الجماعات ’ الإرهابية’ العاملة خارج جنوب إفريقيا". ثم،" من منتصف 1980، بدأ التركيز على المعارضين داخل جنوب أفريقيا" [لجنة الحقيقة والمصالحة 1: 42-43، 176، 79].

إن هذه السردية عن انهيار سيادة القانون في جنوب أفريقيا، بدءً من التحايل على قانون جنوب أفريقيا في منتصف 1950، والتي بلغت ذروتها في "القتل المأذون به من قبل جهاز الدولة" في منتصف 1980، هي التي تجعل من المنطقي فهم لماذا فسرت اللجنة تفويضها الواسع بشكل ضيق للغاية- ولماذا ركزت بالكامل على إزالة الحدود الدستورية لممارسة سلطة الدولة، وليس -على الإطلاق- على إنشاء هيكل قضائي يجعل من السكان مجموعات إثنية وأعراق متساوية بشكل أساسي. وفي حين أن التطور الأول كان داخليا في تاريخ الفصل العنصري، فإن التطور الأخير هو الذي عرًف الفصل العنصري بأنه شكل قانوني للدولة، ووفر معيارا حقيقيا لميلاده القانوني وسلط الضوء على ملامح شخصيتها القانونية.

isamabd.halim@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء