العلاقات السودانية المصرية والمسكوت عنه

 


 

رشا عوض
1 March, 2023

 

تواترت بانتظام في مقالاتي عن تحديات اللحظة السياسية الراهنة في السودان منذ الإطاحة بالبشير فكرة ان المدخل المفتاحي للخروج من أزمة السودان التاريخية هو بناء المنصة الوطنية الصلبة المؤهلة اخلاقيا وفنيا لانطلاق مشروع وطني سوداني أركانه السلام والديمقراطية والتنمية المتوازنة والعلاقات الخارجية المضبوطة في اتجاه المصالح الوطنية العليا للسودان، وفي مقدمتها وقف الانحدار الى الفوضى الشاملة والحرب الأهلية والانهيار الكامل للدولة، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه في ظل المعطيات الموضوعية للواقع السوداني إلا بطي صفحة الانقلابات العسكرية والحكم الشمولي مرة واحدة وللأبد عبر مشروع ناجح للانتقال المدني الديمقراطي قوامه “كتلة تاريخية” تضم أصحاب المصلحة والرغبة في التغيير، مشروع يربط السلام بالتحول الديمقراطي في عملية سياسية واحدة تنقل البلاد من وضعيتها الراهنة الى وضعية القابلية للتغيير بوسائل سلمية وديمقراطية.
رغم ان إنجاح هذه العملية هو مسؤولية الجبهة الداخلية السودانية بالدرجة الاولى، إذ ان مهمة إنضاج البديل الديمقراطي والتصدي لأعداء الثورة السودانية والتحول الديمقراطي داخليا وخارجيا رهينة لوحدة وتماسك وتنظيم وفاعلية وكفاءة ووطنية التيار المدني الديمقراطي السوداني، ولكن هناك تداخلات وخطوط اشتباك ساخنة لهذه القضية السودانية مع المحيط الإقليمي والدولي لا يمكن تجاهلها، بل لا يمكن نجاح التحول الديمقراطي إلا بإدارة تلك التداخلات وخطوط الاشتباك ببصيرة وطنية نافذة وبأقصى درجات الاستقامة والنزاهة والإخلاص لمصالح السودان دولة وشعبا، وفي هذا الإطار يحتاج السودان لهندسة حلف دولي استراتيجي لكبح التدخلات الاقليمية المعادية للديمقراطية، وفي ذات الوقت صياغة رؤية متوازنة لعلاقات إقليمية كسبية لا مكان فيها لإهدار سيادة واستقلال السودان عبر وكلاء عسكريين او مدنيين.
على هذه الخلفية تبرز العلاقات السودانية المصرية كملف ساخن، وعقدة لا يمكن تجاوزها في سياق هذه المرحلة الانتقالية، وهي الأعقد والأخطر في تاريخ السودان، ولبلورة رؤية مسؤولة في هذا الملف، لا بد من تسليط الضوء على كل المسكوت عنه، وكشف أهم أسباب أزمة العلاقة بين البلدين، التي أجملها فيما يلي:
أولا: الوقوف مع الخيار الانقلابي دائما وأبدا
مصر الرسمية تعمل على تكريس حكم عسكري في السودان بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وفي هذا الإطار تعمل اذرعها المخابراتية في كل الاتجاهات، من اجل تقوية قبضة العسكر على السلطة وتصنيع حاضنة سياسية لهم، وتتعاون مع النسخة الأكثر قذارة وانتهازية وعمالة من فلول النظام البائد من الاسلامويين والموالين لهم في تنفيذ مخططات خطيرة لتخريب الانتقال المدني الديمقراطي في السودان، ورشة القاهرة الاخيرة التي جمعت ما يسمى بالكتلة الديمقراطية وهي مجموعة انقلابية قوامها فلول المؤتمر الوطني وعناصره الامنية، ودعم مخططات صلاح قوش وعلي كرتي ومحمد طاهر ايلا، وطرح وصفة للاستقرار في السودان على أساس مشاركة حزب المؤتمر الوطني في الفترة الانتقالية دون قيد او شرط، كل ذلك معناه ان مصر الرسمية تتبنى سياسة تجاه السودان تحتقر ثورة شعبه، بل تهدد أمنه القومي واستقراره ! لأن خيار الدكتاتورية العسكرية التقليدية وهو النموذج المفضل لمصر- رغم الرفض المبدئي والاخلاقي له- غير ممكن في السودان من الناحية العملية نظرا لأن هذا الخيار يحتاج جيشا واحدا بقيادة واحدة والسودان الآن فيه الجيش والدعم السريع وعدد من الحركات المسلحة، وبالتالي فإن الخيار المصري يتطلب حسما عسكريا للدعم السريع وهذا يمكن ان يجرجر البلاد الى حرب اهلية خصوصا ان الوصفة المصرية لضرب الدعم السريع مرتبطة عضويا بالاسلامويين وخطتهم في ضرب الدعم السريع بعيدا عن اي مشروع متكامل للتحول المدني الديمقراطي وبعيدا عن الاصلاح الهيكلي للجيش نفسه!
ان التوجه الديمقراطي الوطني في السودان هو الوصول الى هدف الجيش القومي الواحد بعقيدة قتالية وطنية عبر عملية شاملة للإصلاح الامني والعسكري والدمج والتسريح للدعم السريع والحركات المسلحة برؤية وطنية متوافق عليها لا تقود لاستقطابات واصطفافات قبلية وجهوية، وبالتدرج والتمرحل المضبوط بامن وسلام السودان، وفي اتجاه بناء نظام مدني ديمقراطي، اما محاولات ازاحة الدعم السريع بالقوة العارية من اي مشروعية سياسية محترمة أو استدراجه الى مواجهة مع الجيش مسنودة بالطيران المصري لمجرد افساح المجال لعودة الاسلامويين الموالين لمصر او المتواطئين معها في إفشال الانتقال، او سيطرة انقلاب تابع لمصر فهذا سيشعل حريقا يصعب التنبؤ بمآلاته! فكل تجارب الدنيا تشهد بأن اي دولة تستطيع تحديد موعد الدخول في حرب ما، ولكن من الصعب جدا بل مستحيل ان تحدد موعد انتهاء الحرب ومآلاتها خصوصا في ظروف الهشاشة والانقسام، وبالتالي فإن الشيطان الذي يوسوس للبرهان بان ضربة خاطفة وقاصمة ونهائية تقضي على الدعم السريع ممكنة، وبالعون المصري لن تستغرق ساعات او أيام، هو شيطان يرغب في إحراق السودان، ومن يصدق هذه الوسوسة ساذج واحمق! الم نسمع في ليبيا القريبة عن السيناريو الحالم بأن الجنرال خليفة حفتر في ايام معدودة سيكسر شوكة كل المليشيات ويبسط سيطرته كجيش وحيد هناك؟ ماذا حدث على ارض الواقع؟ الم تتحول الايام الى شهور وسنوات دون بلوغ الهدف حتى هذه اللحظة؟
للأسف ما تفعله الدولة المصرية من دعم للعسكر ومؤامرات مع التيار الأكثر انحطاطا من الاسلامويين مستخدمة في ذلك نخبة من السودانيين التنابلة والمغفلين والعملاء هو عدوان على امن السودان، ومع ذلك لم تتصدى القوى السياسية المدنية باحزابها المختلفة لهذا العدوان إلا ببيانات خجولة مرتجفة لا تجرؤ حتى على ذكر مصر بالاسم وتكتفي بمسمى الدولة الجارة او عبارة بعض دول الإقليم!
لا بد من بلورة خطاب سياسي واعلامي سوداني وطني يتصدى بحزم وجرأة لرفض السياسة المصرية المدمرة والخطيرة تجاه السودان والاستعداد لإفشالها بتقوية الاصطفاف المدني الديمقراطي وعزل وكلاء مصر الانقلابيين من سياسيين عملاء أو جبناء أوضعاف، وكتاب وصحفيين مأجورين او مصابين بعقدة الدونية او يجهلون خطورة ما تفعله الدولة المصرية لوطنهم لو احسنا الظن بهم.
ثانيا: الوصاية والاستتباع
العقل الجمعي في مصر مسكون بعقلية الوصاية على السودان، هذه العقلية تتجلى في النظرة اليه كحديقة خلفية لمصر، ومن نتائج ذلك ان التوجه الاستراتيجي للدولة المصرية ظل على الدوام هو إقامة دكتاتورية عسكرية في السودان بشرط ان يكون على رأس هذه الدكتاتورية جنرال تابع للقاهرة وخاضعا لها! أي ان الدكتاتورية العسكرية المطلوبة في السودان هي دكتاتورية خائبة وخانعة وغير وطنية وظيفتها حراسة مصالح الدولة المصرية في السودان وليس حراسة وحماية المصالح السودانية! ولا تلوح في الافق اي مؤشرات لان مصر الرسمية مستعدة للتخلي عن هذه العقلية بل على العكس تماما، هي ماضية في هذا الطريق بقوة أكبر لأنه يحقق لها مصالحها غير المشروعة في السودان! ولن تكف الدولة المصرية عن هذا المنهج في التعامل مع السودان إلا إذا تحررت النخبة السياسية والعسكرية والثقافية والاعلامية السودانية من التبعية لمصر، ونجح المشروع الوطني السوداني في صيانة المصالح القومية وحمايتها.
اي مشروع وطني سوداني محترم يجب ان تكون له رؤية واضحة لتفكيك نظام التبعية لمصر المزروع في الدولة السودانية منذ نشأتها، فنظام التبعية هذا هو التفسير المنطقي الوحيد لسلسلة من تصرفات الدولة السودانية لصالح مصر على حساب المصلحة الوطنية السودانية، على سبيل المثال لا الحصر: هل يعقل ان تقبل دولة بإغراق كامل لمدينة عريقة كمدينة حلفا القديمة وتشريد سكانها الذين فضل بعضهم الغرق بمياه السد العالي على الرحيل لارتباطهم بارضهم! فضلا عن ان المدينة تحوي آثارا تاريخية تؤهلها مستقبلا للاستثمار السياحي، بكل بساطة أغرقت هذه المدينة لإقامة السد العالي الذي لا يقدم للسودان كيلواط واحد من الكهرباء! ولم يتم الامر في سياق اتفاقية مفصلة مع الشركة التي انشأت السد على اي فوائد تنموية مستدامة للجانب السوداني ولم تفكر الحكومة العسكرية الرعناء حينها (حكومة عبود) حتى في إنقاذ الآثار القيمة التي تحكي تاريخنا وقصة حضارتنا بل بكل بساطة أغرقت!!
لو كان لدكتاتورية عبود عقلا استراتيجيا لجعلت من بين شروط الموافقة على اقامة السد العالي اتفاقية قانونية مفصلة ونهائية لترسيم الحدود تضمن سيادة السودان على مثلث حلايب، خصوصا ان النزاع الحدودي على هذه المنطقة انفجر في عهد اول حكومة ديمقراطية في السودان بعد الاستقلال ووصل لدرجة تحريك الحشود العسكرية من السودان باتجاه حلايب قبل ان تحل المشكلة بقرار مصر الانسحاب منها!
اما في عهد البشير فتم الصمت عن احتلال حلايب وتحولت الى قضية منسية، ولكن هل يعقل ان يسمح للدولة المحتلة بالوجود العسكري داخل السودان والقيام بالمناورات واستباحة المياه الاقليمية في البحر الاحمر باستمرار دون “بغم” من الحكومة السودانية!
هل يعقل ان تقبل دولة مستقلة ان تدار العلاقات معها عبر ضباط المخابرات؟
كل هذه المهازل وغيرها حدثت وما زالت تحدث في سودان الدكتاتوريات العسكرية التي جسدت أقصى درجة من العجز الوطني، والسياسة المصرية في السودان بكل اسف هي استدامة هذا العجز الوطني عبر دعم اسوأ نموذج من الجنرالات لتمكينهم من حكم السودان.

الثورة الشعبية التي اندلعت في ديسمبر 2018.
ثالثا: الانصراف عن جوهر الأزمة
عندما تصعد الأزمة المكتومة بين البلدين الى السطح، فإن الرأي العام في مصر بما في ذلك رأي المثقفين، في الغالب لا يقترب من الأسباب الجوهرية التي تشكل جذر الأزمة، بل ينصرف على احسن الفروض، الى خطاب عاطفي عن العلاقات الأزلية والروابط الاجتماعية والمصير المشترك واللغة الواحدة والدين الواحد وكأنما المشكلة هي تنكر السودانيين لهذه الروابط! وعلى أسوأ الفروض ينصرف الخطاب الى جرد حساب طويل ومضخم لأفضال الدولة المصرية على السودانيين، وتصوير اي نقد او احتجاج شعبي في السودان على السياسة المصرية كشكل من اشكال الجحود ونكران الجميل! وهنا لا بد من وقفة موضوعية لوضع الامور في نصابها، بعد الشكر لاستضافة مصر لهذا العدد الكبير من السودانيين، وعلى معاملتها للطلاب السودانيين وقبولها لهم في الجامعات والمعاهد العليا بذات شروط قبول الطلاب المصريين، وبعد شكر عموم المصريين الطيبين الذين يحسنون معاملة الوافدين الى بلادهم، لا بد من الاشارة الى ان السودانيين هناك لا يعيشون على حساب الخزينة المصرية، فمن يذهب للعلاج في مصر ينفق آلاف الدولارات إذ لا يوجد علاج بالمجان حتى للمصريين، فالسودانيون عبر السياحة العلاجية ينفقون ملايين الدولارات في مصر سنويا، اما من يذهبون للاقامة هناك فبعضهم يشترون شققا سكنية تتراوح اسعارها بين 30 الى 200 الف دولار أليس في ذلك فائدة لسوق العقارات ودخول لعملات صعبة؟ حتى غير القادرين على شراء شقق يسكنون بالإيجار وليس على حساب الدولة، فضلا عن ان هناك مليارات الدولارات من مال الشعب السوداني أدخلها الكيزان الى مصر بعد الثورة السودانية واستثمروها في شراء العمارات والفلل الفاخرة في اغلى المجمعات السكنية في مصر، بعد الثورة وهروب الكيزان الى مصر ارتفعت قيمة الجنيه المصري بدون اي مقدمات إذ أصبح الدولار في ذلك الوقت ب 15 جنيه مصري بعد ان كان ب 19 جنيه وفي طريقه الى ال20.
من الناحية الموضوعية يمكن ان تكون هناك أعباء امنية وادارية وضغط على مصر بسبب وجود ملايين السودانيين فيها، ولكن في ذات الوقت هناك مصالح ومنافع اقتصادية وتجارية متبادلة من وجودهم هناك، وهناك مكاسب غير متبادلة وهي ما تحصده مصر بسبب استغلال اراضي وموارد سودانية بشروط مجحفة بسبب تهافت الحكومات السودانية العسكرية، فلا يجوز تصوير السودانيين هناك كمجرد متسولين تتكفل بإعاشتهم الدولة المصرية وعلى هذا الأساس يجب اخراس الاصوات الناقدة للسياسة المصرية في السودان.
ما العمل؟
لن تحل ازمة العلاقات السودانية المصرية إلا بنقاش صريح ومسؤول لكل المسكوت عنه، وفي هذا السياق يجب ان لا يسمح مطلقا في البلدين بخطاب كراهية بين الشعب السوداني والشعب المصري، لأن حسن الجوار والعلاقات الإيجابية والاستثمار في الاخاء والتعاون هو ضرورة للاستقرار والمصالح الاقتصادية والتتنموية في الدولتين. ولا يوجد منطق أصلا في الانصراف عن النقاش العقلاني للقضايا المذكورة في هذه المقالة، والتي تمثل جذر الأزمة بين البلدين الى مناحات ومواويل الحب والكراهية، ومحاولة تصوير السودانيين الغاضبين من السياسة المصرية في السودان كغوغاء وحاسدين وناكري جميل ولا يعرفون مصالحهم، بل تحرضهم جهات أخرى على مصر! دائما يتم تصوير السوداني كغشيم لا يتخذ اي موقف أصالة عن نفسه او بناء على اسباب عقلانية تخصه.
السودانيون الاحرار والشرفاء يكابدون الآن مخاض التحرر من حالة العجز الوطني المزمنة وسببها الرئيس الدكتاتوريات العسكرية التي حكمت أكثر من نصف قرن من عمر الاستقلال، ويكابدون آلام التعافي من فيروس “نقص المناعة الوطنية” الذي حقنه الكيزان في شرايين الوطن، ويجب ان يعلم الشعب المصري الشقيق ان اكتمال التعافي الوطني في السودان ليس خصما عليه، بل يجب ان نسعى بإخلاص وصدق الى ان يكون السودان الديمقراطي عونا لمصر من موقع الاستقلال لا التبعية، وعلى استعداد لبناء شراكات اقتصادية ناجحة ومفيدة للطرفين على ارضية المصالح المشتركة التي تدار بنزاهة وشفافية.
هناك فرص وبدائل متعددة للعلاقات الكسبية بين مصر والسودان لخدمة الاهداف الاقتصادية والتنموية في البلدين، ولكن بشرط ان تكف الدولة المصرية عن تصدير نظام حكمها الذي فقد صلاحيته للاستهلاك المحلي في مصر نفسها للسودان!
ان الوقوف بصرامة ضد الوصاية المصرية وضد الاستتباع واستدامة العجز الوطني في السودان عبر تكريس الدكتاوريات العسكرية التابعة لمصر لا يعني على الإطلاق الرغبة في معاداة مصر او استنفار الكراهية ضد شعبها، بل يعني فقط إقامة العلاقة بين البلدين على أساس عادل ومنصف، لا أكثر من ذلك ولا أقل.
نقلا عن صحيفة التغيير الالكترونية

 

آراء