الفصل العاشر من كتاب “ما وراء السودان الحديث: شعوب المستنقعات

 


 

 

الفصل العاشر من كتاب "ما وراء السودان الحديث Behind The Modern Sudan"
شعوب المستنقعات
The Peoples of the Marshes
Henry Cecil Jackson هنري سيسيل جاكسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة للفصل العاشر من كتاب "ما وراء السودان الحديث Beyond the Modern Sudan"، للإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون. نشرت دار نشر ماكميلان الكتاب في لندن عام 1955م.
عمل جاكسون في مجال الإدارة بالسودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، ولخص تجربته في الحكم والإدارة في عدد من المقالات والكتب التي وصف في بعضها عادات السودانيين وأمثالهم في مختلف المديريات التي عمل فيها، وأرَّخَ في بعضها الآخر لبعض الشخصيات السودانية مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وقد ترجمنا من قبل بعض فصول هذا الكتاب، ومقتطفات من بعض كتب ومقالات مختلفة لهذا الإداري الكاتب.
المترجم
****** ******** *********
بعد أن ودعنا، أنا و(الرائد) ووربيرتون، ذات صباح باكر مضيفي الكريم الودود الدكتور باز، غادرنا مقرنا المريح في Source Youbo لأتابع مأموريتي التفتيشية الطويلة. وبعد مسيرة عدة أسابيع كانت بلاد الزاندي خلفنا. وآب ووربيرتون ليتابع عمله في علاج المصابين بمرض النوم، وبقيت أنا في السهول العشبية المنبسطة في بلاد الدينكا. كانت سبع سنوات قد مرت منذ أن طفت – لأول مرة – في مناطق القبائل النيلية، وكنت سعيدا بالعودة للمرور على شعوب المستنقعات.
ويمكن القول بأنهم، في بعض النواحي، لا يزالون يعيشون في العصر الحجري (كُتِبَ هذا الزعم في خمسينيات القرن الماضي. المترجم) لأنهم لم يتعرفوا بَعْدُ على العمل بالمعادن. غير أنه نسبة لعدم وجود حجارة في محيطهم، لَجَأُوا مضطرين إلى استخدام الأدوات والآلات المصنوعة من عظام الحيوانات، أو ما يجدونه في الغابة. ووجدت في زيارتي تلك بعض الحراب المعدنية، ولكنهم كانوا قد تحصلوا عليها بالمقايضة مع جيرانهم الأكثير تقدما مثل جا لوو (Ja Lou) "الجور" (1) الذين اكتشفوا فن صهر الحديد الذي وُجد في بعض أجزاء مديرية بحر الغزال.
وندم الكثيرون على اِضْطِرَارهم لإدخال تعقيدات مدنية صاخبة ضَجِرة لا تهدأ لهذا الشعب البسيط صاحب الاحتياجات القليلة المتواضعة. كانت تلك التعقيدات قد شملت من ضمن علامات "التقدم" ليس فقط أنبل الإبداعات في مجال الأدب والموسيقى والفن، ولكن أيضا اضطرابات لا تنقطع في الحياة بالمدن الكبرى، وتَعَرُّض لأخطار الإشعاعات والقنابل الذرية. وبالمقارنة مع حياة الناس بالمدن الكبرى، نجد أن حياة الشعوب النيلية التي تقوم على رعي الأبقار تتميز بالهدوء والسكينة، مثل حياة العرب الرحل الذين لا يملكون سِوَى القليل من الإبل أو المعز، وخيم مصنوعة من وبَرَها أو شعرها، وأقل القليل من الأدوات المنزلية، حتى تتسنى لهم حرية الحركة أينما ومتى يريدون ولأي وقت يرغبون، وليس مع الواحد منهم سوى القليل من التمر، وقِرَبة ماء مصنوعة من جلد المعز، وحربة أو سيف.
غير أنه لم يكن من الممكن ترك تلك القبائل النيلية على حالتها تلك. فبالإضافة لتربيتهم لأبقارهم في سلام، كان من عاداتهم أيضا الدخول في غارات حربية وصراعات قبلية. فكل من يجد منهم في نفسه من القوة ما يكفي لغزو جاره الأضعف لا يتردد في سلبه ما عنده من أبقار، إما عندما تنقص أبقار (الغازي) بسبب مرض الطاعون البقري، أو حتى عندما يرغب في دفع مهر زواج بعض أبنائه. لذا وجدت الحكومة نفسها مواجهةً بنفس المشكلة التي واجهت السلطات في الهند في المنطقة الواقعة على الحدود الشمالية – الغربية. ورد في كتاب " قصة قوة مالاكاند الميدانية: حلقة من حرب الحدود" لونستن شيرشل عن المومند Mohmands قوله: "كان من الممكن أن يبقوا لأمد غير محدد على تلك الحال من الهمجية المُنحَطّة، التي قد تلقى قبولا عند بعض الناس في إنجلترا. غير أنهم صاروا يعتدون على غيرهم". وكان رجال الدينكا والنوير، وهم يداومون على ممارستهم لحملات سرقة الماشية، يحرمون الآخرين من الحرية التي يبتغونها لأنفسهم. لذا كان لزاما على الحكومة أن ترسل حملات مسلحة (من الشرطة أو الجيش) لاستعادة الأبقار المنهوبة، ولحماية الضعفاء، أو لتنتقم من الذين يقومون بهجمات غير مبررة ضد نقاط الشرطة الصغيرة. ولا يمكن تمويل مثل تلك الحملات إلا بفرض ضرائب أو غرامات (على المعتدين) من باب الردع.
وبما أن تلك القبائل النيلية لم تكن قد اكتسبت بعد معرفة استخدام النقود، فقد كانوا يدفعون تلك الغرامات والضرائب بالأبقار. وخلق هذا سوء فهم متطاول بين الحكومة والأهالي، الذين رأوا – أو قالوا بأنهم يرون – أن مصادرة الحكومة لأبقارهم (كغرامة أو ضريبة) لا تختلف قليلا أو كثيرا عما قاموا به هم أنفسهم من نهب لأبقار غيرهم. وكانت لديهم نفس النظرة تجاه الحكومة في فرضها لغرامات على غزوهم لغيرهم وإخلالهم بالسلم. وفي خلال الحرب الأخيرة وجد باشمفتش المنطقة صعوبة جمة في الإجابة على تساؤل النوير عن قيمة ما ينبغي على الحكومة دفعه كغرامة لهجومها على الغزاة القادمين من إثيوبيا.
وكان من المستحيل على الحكومة، ولسنوات طويلة جدا، إقامة علاقات ودية مع شُعُوب المستنقعات. كان هؤلاء يعيشون في مناطق ممتدة وشاسعة بحيث لم يكن متاحا للمفتش البريطاني زيارتها إلا لِمامًا. ففي بعض المواسم كان الجفاف من الشدة بحيث لم يكن ممكنا زيارة تلك المناطق إلا بعد معرفة دقيقة – لم تتيسر إلا بتدرج شديد – بأماكن وجود المياه. وفي مواسم أخرى كانت فيضانات الأنهار تحول كل الأراضي إلى مستنقعات وبحيرات متشابكة، وكان على المفتش في مأموريته التفتيشية أن يخوض أو يسبح أو يتجول في المنطقة وهو على ظهر زورق ضيق يسرب الماء.
وبالإضافة لذلك، عانى الدينكا والنوير الكثير من العنت والضَّيْم على أيادي تجار الرقيق من الأتراك والعرب. ويُقَالُ بأن هؤلاء قد قتلوا أو اِسْتَعْبَدُوا حوالي مليون من الدينكا. لذا لم يكن الدينكا على استعداد لأي نوع من التعامل مع ذوي البشرة البيضاء. ويختبئ الأهالي في وسط الأعشاب الغزيرة الطويلة، أو بمناطق السدود التي يتعذر الوصول إليها لغيرهم، وذلك لكراهيتهم لكل الأجانب الذين ظلوا لعقود يقسون عليهم ويُسِيئُونَ معاملتهم. ولجأ الأهالي إزاء ذلك للمقاومة السلبية، أو أحيانا للعداء النشط. وكان مشهد تجمع ثُّلَّة من المحاربين وهم يلوحون بحرابهم في فخر واعتزاز، ويأبون أي شيء يربطهم بممثل الحكومة، هو مقدمة غير مشجعة لما كان من المفروض أن يكون تفاوضا وديا.
وفي أيامنا الباكرة كانت نظرتنا للأهالي ولعاداتهم الأكثر قذارة نظرةً تغلب عليها الكآبة وخيبة الأمل، ولم ننظر إلا قليلا للجانب الأفضل في سكان المستنقعات. وكان واجبنا الرسمي يقتضي أن نفرض عليهم قيودا لا يقبلون بها، مما أفضى إلى حرماننا من إقامة علاقة ودية كنا نسعى بإخلاص لإقامتها معهم. وكان إخماد الصراعات القبيلة وإيقاف سرقات الأبقار وإنفاذ القانون والنظام من الأمور المقيتة لأولئك الناس الذين يؤثرون الاستقلالية ويمجون أي نوع من التدخل فيما اِعْتَادُوا عليه من نمط حياة. كان يبغضون نوع التغيير الذي كنا نحاول إدخاله إليهم، تماما كما كنا سنأبى نحن أن يحاول أجانب إيقاف الصيد أو كرة القدم عندنا. وكانت الضرائب التي فرضناهم عليها – رغم ضآلة قيمتها – تمثل لشعب يعشق الحرية مثلهم رمزا للخضوع لقوة خارجية صُعِّبَ عليهم فهم مقاصدها.
لقد كان نمط حياة هؤلاء الناس همجيا، تماما مثل أراضيهم التي يعيشون عليها. غير أنها كانت حياة خالية من القلق الذي يصاحب دوما تراكم الممتلكات غير الضرورية. من بمقدوره – إذن – أن يشجب خيارهم؟
وكنت قد رأيت بنفسي أحوالهم وهم يتعرضون للجوع (خاصة عندما يفقدون أبقارهم بسبب الطاعون البقري). وأشهد بأنهم كانوا يقابلون تلك الأحوال الصعبة بلا قلق وبثبات وصبر تعلموه من قديم. ربما كان يرون هذا الجوع من الأمور العادية في الحياة، مثلما نرى نحن نزلات البرد أو الانفلونزا في إنجلترا. إنهم قوم يقنعون بالقليل، وهنا تكمن سعادتهم. ولكنهم عندما يكونون جوعى في بعض الأحايين، فمرد ذلك هو إيثارهم تناول القليل من الطعام أكثر من العمل من أجل الحصول على طعام أكثر وفرة. وإن أصيبوا بالأمراض المدارية، فلهم من المناعة ما يقيهم شرور الأمراض الأخرى التي تتأتى، لا محالة، من التمدن المفرط. وإن وجدوا أنفسهم أحيانا ضحايا لغزوة (حكومية) عابرة، يفرون من ويلات الغارات الليلية، وأخطار القنابل الطائرة التي لا تتوقف. وإن تعرض أحدهم لعضة ثعبان سام، فالخطورة هنا أقل مما قد يتعرض له المرء في حادث مروري في شارع بإنجلترا. وفوق هذا وذاك، فهم يستمتعون بنعمة عظيمة نادرة هي نعمة الفراغ، ولديهم وقت لا نهاية له يفعلون فيه ما يشاؤون، ويستمتعون بما يفعلون.
ويخلص كثير من الناس إلى أن سكان المستنقعات كَسالَى بطبعهم، لأن وتيرة حياتهم تميل إلى المَهْلُ والتأني. ومن السهل أن يأخذ المرء عنهم ذلك الانطباع. فقد كنت كثيرا ما أرى من السطح الأعلى لباخرتي ذات المجاديف شخصا منهم يقف وحيدا بلا حراك في وسط تلك الخضرة الرتيبة، وترجعني صورته وهو في ذلك الوضع الساكن لصورة طائر من طيور المستنقعات وهو جاثم بلا حراك. كان الرجل منهم يقف محدقا لساعات في تلك المستنقعات، وقد وضع قدم إحدى ساقيه على مفصل ركبة ساقه الأخرى، محافظا على توازنه بالميل على عصا أو حربة. كانوا انطوائيون وغافلون عن العالم الخارجي بحيث يبدون في أوضاعهم الغربية تلك وكأنهم في تمام الاستغراق في التأمل. ربما كان ذلك الرجل المتأمل يفكر في أبقاره المحبوبة، أو أن تلك الوقفة هي أريح وضعية في مكان ليس فيه مكان جاف ليجلس عليه المرء.
لقد تأبَّى رجال المستنقعات بالتأكيد على أداء أي عمل لم يعتادوا عليه من قبل، وكانت استجابتهم لأوامر الحكومة بطيئة، رغم أنها كانت في صالحهم. وكانت الحَمَّالَة (العِتالة) وإنشاء الطرق من أبغض المهن بالنسبة إليهم، رغم أنها من المهن التي تدر دخلا كافيا، بينما صار آخرون في مناطق تقع جنوب مناطقهم (مثل الزاندي) بعد فترة على استعداد دوما للعمل كحمالين وعمال في مجالات المواصلات. وفي هذا يختلفون عن النوير والدينكا، الذين كانوا، إضافة لعدائهم للرجل الأبيض – بصورة عامة - لا يرون أن مثل الأعمال تناسبهم لأسباب لم يكن من الممكن التحقق منها في البداية. لا يمكن إنكار أن طول قامة الدينكاوي لا تناسب حمله لثَقَل على رأسه، إذ أن الثَقَل سيتأرجح، ويسبب لحامله الكثير من العنت الجسدي. وتم التخلص من ذلك في بعض المناطق باستخدام عمود بدائي من الخيزران يُوضَع على الكتف لحمل الأثقال على الجانبين (milkmaid's yoke). ولم تفهم أسباب العزوف عن تلك الأعمال (رغم أنها توفر بعد أيام قليلة من العمل نقودا تكفي لشراء الملح وقطعة قماش صغيرة، أو حتى بعض الكماليات مثل الشاي والسكر والصابون والخرز) إلا بعد أن تبين أن أعمالا مثل قطع الحشائش وعَزْقها في الطريق يُعَدُّ عندهم من أعمال النساء، ولا يليق بكرامة ومروءة الرجل. وبالفعل، كان الرجل بمنطقة ما يضع عليه إِزَارا (مريلة) نسائيا من الجلد قبل أن يبدأ في مثل تلك الأعمال، وذلك في محاولة منه للتأكيد على أن تلك الأعمال لا تناسب الرجال. وكما هو الحال في كل المجتمعات المتخلفة فإن لكل نوع جنس صنفا محددا من الأعمال. وبعد سنوات عديدة تذكرت تقسيم الأعمال عند رجال المستنقعات عندما قال لي رجل (إنجليزي) عاطل عن العمل بمدينة ليفربول، وله زوجة مريضة بالسل وقعيدة في بيتها، وأطفال يذهبون للمدارس، أنه لا يمانع في السير لأميال لزيارة زوجته، وأخذ أطفاله إلى المدارس وإرجاعهم منها، والذهاب للتسوق، وأداء كل الأعمال المنزلية، ولكنه وضع خطا (أحمر) أمام تنظيف عتبة الباب الأمامي، إذ أنها من أعمال النساء.
وللنوير والدينكا أيضا تقسيم للأعمال بين الرجال والنساء. ودعنا ننظر إذن لمجتمع العاملين في أراضي المستنقعات المجاورة النيل الأبيض، حيث تغيرت الحياة بعض الشيء منذ أن كنت قد قضيت بينهم الكثير من الوقت قبل ثلاثين عاما.
يبدأ يومهم بحلب الأبقار، وإيقاد النار من روثها وأعمال منزلية أخرى. وفي حوالي العاشرة صباحا، يقوم بعض الرجال والصبية بسوق الأبقار للرعي بعد أن ينزاح النَّدَى عن الأعشاب، ويبقون في حراستها من أي من بشر أو حيوان مفترس. وقد تتفق أحيانا عائلتان أو ثلاثة على تقاسم مهمة أخذ الأبقار للمرعي.، وتلك هي المهمة الأَساسيّة في النهار، بينما ينشغل من يبقى منهم في المعسكر بأعمال أخرى متنوعة. يقوم الرجال بتلميع حرابهم الحديدية، أو يصنعون حرابا جديدة من قرون الثيران الوحشية والغزلان، ويحَضَّرون الشباك والأَشْرَاك، والأوتاد لربط الأبقار. ويقومون أيضا بحفر الجداول لتصريف الماء عند فيضان النيل إلى بحيرات صغيرة يصطادون فيها السمك. ويستخرجون الأسماك من الطين الذي تختبئ فيه عند جفاف ماء النهر. وعندما يحل الشتاء يقومون، بأقل مجهود، بإجبار الأسماك على الظهور على السطح بتحريك الطين الجاف رويدا رويدا في محاكاة لطقطقة المطر. وكنت أَسَتُمَتَّع وأتعجب من السهولة والبساطة التي تتم بها خداع الأسماك، فتصعد للأعلى وهي تتلوى. لا بد أنها تخيلت وجود عاصفة أغرقت مجرى الماء الذي جف.
وبجانب كل ذلك، كان عليهم أيضا قطع الحشائش والقصب لوضعه على سقوف أكواخهم، أو إصلاح زرائب أبقارهم ومصدات الرياح، التي كان من اللازم إصلاحها في كل مرة يتحركون فيها من مرعى إلى مرعى آخر. ويجوفون قطعا من الخشب الرقيق ليصنعوا منها غَلاوين للتبغ، أو مساند للرأس. ويستخدمون أصداف الحلزون لتناول العصيدة (المديدة) porridge، ويصنعون معالق حسنة الصنع بأدواتهم البدائية. وتشغلهم تلك الأعمال طوال النهار حتى ترجع الأبقار ليتم ربطها في زرائبها. وتُحلبُ الأبقار مرة أخرى، وتُوقَدُ نيران الروث، ويجلس الجميع لتناول وجبتهم البسيطة المكونة من العصيدة أو الذرة. وقد يضيفون لها أحيانا السمك المجفف أو بعض الأعشاب العطرية لإكساب طعامهم بعض النكهة.
وكانت أعمال النساء تشمل طحن الذرة بمدقة خشبية غليظة في ملاط (فندق) خشبي، وتحضير الطعام، وصنع القدور. وكن يصنعن – بمهارة فائقة – سلالا من القش المَضفُور، وأَكْيَاساً بيضاوية الشكل لحمل الذر طول الواحدة 3 – 4 أقداما، ومَصافٍ للمريسة، وكل أغراض البيت الأخرى.
وفي غضون الفترة التي كن يقضينها في أداء أعمال البيت، كن يستمتعن بفراغ - لا تجده كثير من النساء الأوربيات أو الأمريكيات اليوم- يَصْرِفْنَه في النميمة والدردشة أو زيارة صاحباتهن، أو في عمل أي شيء يردنه. وهن يتمتعن بحقوق وامتيازات أكبر من تلك التي كانت عن جداتنا في القرن الماضي (أي القرن التاسع عشر. المترجم). كان بمقدورهن أن يذهبن إلى حفلات الرقص دون وَصيّ أو وصيفة، وكانت لهن حرية اختيار أزواجهن، والحق في تطليق الزوج الذي يسيء معاملة زوجته، والحصول على حقوق (مادية) لا تتركها في حالة فاقة وعوز (وهذه ميزة تحسدهن عليها كارولين نورتون (2)). وكان لهن الحق أيضا في الدفاع عن أنفسهن في مجلس الكبراء. غير أن النساء في هذه المنطقة لم يكن يتمتعن بحقوق الملكية (غالبا للأبقار) مثل الرجال، إلا أن مرد ذلك ربما كان عدم قدرتهن الجسدية على الدفاع عن الأبقار عندما يهاجمها انسان أو حيوان مفترس.
وكان الأطفال يعيشون حياة سعيدة، ويلعبون بالطين، ويصنعون منه بيوتا صغيرة لكلبة المنزل أو لصغارها. وكانوا يساعدون أيضا في بعض الأعمال المنزلية الخفيفة، ويلعبون مختلف الألعاب، منها لعبة تشبه الهوكي، يستخدمون فيها كرة من الطين وعِصِي منحنية. وكانوا يستمتعون ببناء بيوت صغيرة لأنفسهم، مستخدمين أصداف القواقع وبراعم الأزهار أو حتى طُرُوز/ نماذج (models) من الطين تمثل الأبقار التي يحلمون بامتلاكها في المستقبل. وكانوا أحيانا يمثلون أنهم يصطادون فيلا، مثلما يفعل آبائهم، ويجلسون أعلى "شجرة سجق" (3) ويحاولون رمي شيء على وعاء للبذور يُجَرُّ تحتهم. وتبدأ الحياة الجادة مبكرة جدا عند الصبية. فعند بلوغ الصبي سن الثامنة، يبدأ الدخول في معارك صورية، وفي تعلم أسرار القتال الفعلي، مثل رمي الحربة في خط مستقيم. وفي ذات السن يتعلمون السباحة، إذ أنهم سيقضون الكثير من أوقاتهم في الماء، أو في تجديف زورق صغير يمكن أن ينقلب في أي لحظة في الماء.
ويحصل الناس هنا على اللحم من الحيوانات الوحشية التي يصطادونها أو التي يوقعونها في شراكهم. ويندر جدا أن يأكلوا لحوم الأبقار إلا في حالات تستلزم تقديم قرابين، أو عندما ينفق الحيوان متأثرا بالطاعون (وفكرة أكل لحم مثل ذلك الحيوان كريهة). وقد قامت الحكومة منذ زمن بمنع مثل تلك الممارسات وغيرها. إلا أن السكان كانوا قبل نحو ثلاثين عاما (أي في منتصف عشرينات القرن الماضي. المترجم) يسقطون حيوانات وحشية مثل الأفيال وأفراس النهر والزَرافيّ في حفر (pits) عمقها نحو 10 قدما، وعرضها 6 أو 7 أقدام، يتناقص في الأسفل إلى 4 اقدام في الأسفل، حيث توضع فيه جذوعا خشبية حادة أحيانا. وتُحفر مثل تلك الحفر (التي تغطى بالقش أو بالأغصان المقطوعة) على طرق السير التي تسلكها الحيوانات وهي في طريقها للسقيا، وتُغَطَّى مثل تلك الحفر بالقش أو بالأغصان المقطوعة. وكانت تلك الطريقة تستخدم لصيد إناث الأفيال أو صغارها، وكذلك الزَرافيّ. أما الأفيال الذكور الكبيرة ذات الأنياب فقد كانت تحس بوجود الحفرة وتتحاشى الوقوع فيها.
وكان السكان هنا يصطادون الزَرافيّ ومختلف أنواع الظباء بإيقاعها في شِباك تتكون من إطار دائري لحبل مضفر، عليه أشواك أطرافها حادة ومتجهة للداخل. ويُتْرَكُ فراغ في المنتصف، حيث يضع الحيوان قدمه. وتُلَطَّخُ السُيُور التي تربط تلك الأشواك إلى محيط الإطار الدائري بروث الضباع حتى تمنع تلك الحيوانات القمَّامة (scavengers) من أكلها. وتُعْلَقُ مع الشباك قطعة خشبية ثقيلة مربوطة بحبل طويل به عقدة مربوطة (slip -knot)، حتى لا يستطيع الحيوان المُصطاد التحرك إلا بصعوبة بالغة، ويجر نفسه جرا، وبذا يسهل إِنهاكه وقتله.
وكان سكان المستنقعات يثمنون لحم الزَرافيّ جدا، وكذلك جلودها، إذ أنهم كانوا يصنعون منها الدَرَقات. وكانوا يصطادون الزَرافيّ - كغيرها من حيوانات الصيد - عدوا على الأقدام، أو يضعون لها الشِباك أو الحفر. وقبل الشروع في صيدها، كان الصيادون يستشيرون أولاً عرافهم (medicine - man)، الذي يخرج قرعةً مجوفة ويقذف بها صدفة محارة. ويعتمد نجاح أو فشل حملة الصيد على الجهة التي يسقط عليها حطام تلك الصدفة. وإن تمت مباركة العراف لحملة الصيد، يجتمع عدد كبير من الرجال للذهاب للصيد. ويقوم هؤلاء أحيانا بحرق الحشائش، أو عمل شبه دائرة حول الحيوان أو الحيوانات التي يريدون اصطيادها، ومطاردتها ليجعلوها تتجه نحو حفرة أقاموها، وهناك تنتظرها حراب الصيادين. أما القطط البرية (التي كانت لجلودها قيمة عالية عند سكان المنطقة، إذ كانوا يرتدونها مآزِرُاً) فقد كانت تُصْطَادُ في وسط الحشائش عن طريق الكلاب، ثم تُقْتَلُ ضربا بالعصي.
وكان السكان هنا يستخدمون السمك في طعامهم أكثر من اللحم، وكان من الممكن لهم الحصول على كميات وفيرة منهم بأقل جهد وبطرق أكثر ضمانا. وكانت هنالك العديد من أنواع الأسماك هنا. وفي بعض المرات استعرفت على أكثر من 12 نوعا أو أكثر بكمية بلغت 20 أو 30 رطلا اصطدتها بشبكة عادية لا يحتاج استعمالها لمهارة خاصة. ولصيد كميات ضخمة من الأسماك تُسْتَخْدَمُ شباك خاصة تغطس في المياه العميقة، أو تُحْفَرُ قنوات خاصة إلى ومن بحيرات السمك لحبسها فيها وصيدها. وكنا في تلك الأيام وكأننا في عهد إشعيا Isaiah وما ورد في سفره رقم 19 -: "كل ما يصنع السدود والبرك للأسماك all that make sluices and ponds for fish" (4). ويشارك كل أفراد العائلة كوحدة واحدة في مهمة صيد السمك هذه. فعلى الرغم من أن لكل من الرجل والمرأة والطفل مهاما محددة يؤدونها بصورة منفصلة، إلا أنهم يتجمعون في نشاطات معينة، أهمها صيد السمك.
دعنا ننضم لواحدة من "حفلات الصيد" تلك، ونرى ما الذي يحدث فيها. سنختار بحيرةً ليست عميقة المياه، ولذا فمن المستبعد أن تكون بها تماسيح، وإلا فإن عمل اليوم سيتأخر حتى يتم استدعاء عراف "طوطم التماسيح" ليقوم بذبح خروف قربانا من أجل أن تغدو مياه البحيرة آمنةً.
يبلغ محيط البحيرة 1,200 ياردة، وعمقها 3 أو4 أقدام. وكان ذلك هو كل ما تبقى من بحيرة أضخم وأعمق تقلصت بسبب سريان مائها عائدا للنهر الذي كونها في المبتدأ. وكان مقدم مائة أو أكثر من صائدي الأسماك إشارة لمئات البط والأوَزّ وغيرها من الطيور المائية لتنهض في احتجاجات صاخبة، ولا تترك خلفها سوى بعض عُقَبان السمك (الأفريقي) جاثمة على أشجار الأكاسيا (acacia) والقليل من الخَراشَن tern (طائر يشبه النورس. المترجم) وهي تخطو برفق على زنابق الماء.
ويقف في وسط البحيرة رجال يحملون حرابا غليظة طول الواحدة منها 8 أقدام، وفي طرفها الأعلى سلك شائك طوله 4 بوصات، ستنفصل عن الحراب بمجرد أن تُقْذَف وتنجح في أن تنغرز في جسد السمكة. ويقوم الهداف (marksman) بعد ذلك بجر السمكة بالحبل المربوط في الحربة ذات الأسلاك الشائكة في رأسها. ويقوم رجال يحملون حرابا غليظة – يرافقهم أطفال يصخبون في حماس - بقذف حرابهم بلا تمييز في وسط القصب والأعشاب المجاورة للبحيرة. ويجمعون – حتى بهذه الطريقة العشوائية – عددا كبيرا من الأسماك، يقوم الصيادون بتعليقها في حبال مربوطة حول خصورهم.
وعندما يصبح الماء مُتَعَكِّرا ومُوحِلا بعد انتهاء الرجال من مهمتهم، تبدأ النساء في المشاركة في صيد الأسماك وهن يحملن سلالا مصنوعة من الخُوص (wicker) أو العشب المَضْفور، عرض وارتفاع الواحدة منها نحو 60 سينتمترا، تشبه تلك المصيدة التي تُكونُ على شكل قفص لصيد سراطين البحر (الكَركَند). وتقوم النساء بتغطيس تلك السلال إلى قاع البحيرة، ثم يدخلن أيديهن في فتحات السلال العليا ليرين ما الذي اصطدنه – وهي تجربة قلقة عندما تصطاد الواحدة منهن أربعين أو خمسين نوعا مختلفا من الأسماك، ليست كلها من الأنواع التي تؤكل، بل إن التعامل مع الكثير منها قد يكون غير آمنا. وتتعالى ضحكات النساء عندما تلمس واحدة منهن سمكة الرَّعَّاش أو السمك الرعاد (electric fish)، أو الأشواك الطويلة لسمكة سامة (ربما تكون قريبة من النوع الذي يجعل السباحة في البحر الأحمر مغامرة محفوفة بالمخاطر).
ونتفحص كل أرجاء البحيرة بصورة متدرجة، ثم نغادرها عائدين لدورنا ونحن نحمل ما وزنه ألف إلى ألفين رطل (454 – 908 كجم) من الأسماك، علينا تجفيفها تحت الشمس. وتطلق تلك الأسماك روائح نتنة وزَخَمة تنفذ إلى كل المناطق المجاورة لعدة أيام قادمة. وتُعَدُّ هذه من الروائح الخفيفة عند المقارنة بالرائحة التي يطلقها ألفان من الأطنان من لحم فرس النهر الذي يُعْلَقُ ليجفف تحت الشمس وفي الهواء ليصنع منه القَدِيد. وتلك رائحة تُشَمُّ من على بعد نصف ميل (0.8 كلم).
ومن الممارسات الأكثر إثارة هو صيد السمك من النهر عندما يذهب الرجال في سلسلة من الزوارق الصغيرة للصيد. ويقود كل زروق رجل يقف في المؤخرة، بينما يَنْتَصِب في مقدمة الزورق رجل آخر يحمل قوسا وحربة من النوع الذي ذكرناه آنفا يحاول اصطياد سمكة. ويدور الرجلان أحيانا على تمساح، ويكون مشهد ذلك الوحش القوي العنيف مشهدا مثيرا، والرجلان يتلاعبان به وهما على ذلك الزورق المتأرجح، لا يعصمه من الانقلاب سوى مهارة من يقوده.
******* ********* ********
ومع مرور الزمن وانحسار العِدَاء وانجلاء الريب والشكوك، بدأنا في اكتساب معرفة أعمق وأوثق بعادات الأهالي وطرائق عيشهم. وكان من المثير لنا أن نشهد عند هؤلاء الناس البدايات الباكرة لعملية التحول من مرحلة الرعي إلى مرحلة الزراعة. فقد تيسر لنا أن نرى لمحات في حياتهم تذكرنا بما عاشه أسلافنا قبل قيام الثورة الصناعية، وتدميرها لحياة المجتمعات القروية، واستبدالها للآلات برتابتها غير المرضية بعمل الصنائعي اليدوي الذي يستمتع ويفخر بمهارته اليدوية. لقد كانت كل عائلة من عائلات الأهالي مكتفية ذاتيا، إذ أنها كانت تصنع بنفسها أدواتها المنزلية وكل شيء آخر يلزمها، وتعيش على ما تنتجه بمجهودها وبصورة مستقلة، وهي معزولة عن العالم الخارجي بسبب الطرق المتعرجة المُوحِلة. ويمكننا مقارنة الحمير المحملة بقطع القماش والخرز والمعازق (المحافير) الحديدية التي يبادل بها الجلابة (التجار العرب الجوّالة) الأهالي بالجلود والعاج والمصنوعات الحرفية اليدوية، بتلك الخيول التي كانت تسير متعثرة على شوارعنا غير الممهدة وهي محملة بالمنسوجات الصوفية والمنتجات المحلية الأخرى. وكانت حيوانات القرية عند سكان المستنقعات تأكل من مراعي مشتركة. وكانت العائلة بالنسبة لهم هي الوحدة الاجتماعية والاقتصادية، وكانوا يعتمدون على مغامراتها ومبادراتها حتى في وسائل ترفيهها، التي كانت في الغالب لا تتعدى إلا نادرا الرقص على ضربات الطبول. ويندر جدا عندهم أن يتجول المرء بعيدا عن دياره، أو أن يبقى بعيدا عنه لفترة طويلة.
******* ********* ********
لقد كانت السياسة البريطانية تقضي بترك سكان المستنقعات يعيشون حياتهم بالطريقة التي يريدونها، ودون إدخالهم – قبل الأوان – لطرائق حياة لم يكونوا مستعدين لها بعد. ولم نقم بالتدخل في شؤونهم إلا عندما يتدخلون هم في طرائق عيش جيرانهم، على الرغم من عدم رغبتنا في عزل سكان المستنقعات عن بقية العالم، وإبقائهم كقطعة متحف يدرسها علماء الأنثروبولوجيا، على الرغم من قيمة وأهمية مثل تلك الدراسات في فهم العقل البدائي الذي لا يزال باقيا في كل واحد فينا. وسأتحسر أنا شخصيا على اليوم (الذي ربما يأتي قريبا) والذي ستبتلعهم فيه حضارتنا المتفاخرة بنفسها، وستذهب بطريقتهم في الحياة التي تتميز بالسهولة والبساطة واللين. وتم مؤخرا إدخال نظام الحكم المحلي عندهم، إضافة لصناديق الانتخابات وجَعْجَعَة السياسيين الساعين لتحقيق مصالحهم الخاصة، الذين يبشرون بإنهاء نوع قائم من التنظيم القبلي ظل لقرون عديدة يعمل، وعلى وجه العموم، بنجاح، وهو نظام لا يزال يمثل نوع الحياة التي يفضلونها لأنفسهم.
فليساعدهم الرب! فهم ليسوا مستعدين بعد ليصوتوا في الانتخابات، ولا يريدونها أصلا. يرغبون في السلام وليس السياسة، وعدم التدخل في شؤونهم من قبل أي أحد.
قال لي أحد رجال النوير قبل ثلاثين عاما (أي في حوالي عام 1925م. المترجم): "لا نريد منكم أيها "الترك" ما تسمونه التقدم. نحن رجال أحرار. كل ما نطالب به هو أن نُتْرَكَ وشأننا".
غير أنه ربما لم يكن سكان المستنقعات أحرارا دوما كما يتخيلون، إذ أن العادات والطقوس القبلية كبلتهم إلى حد ما، وحدت من أفعالهم بلا هوادة، تماما كما تقيدنا نحن تقاليد المدنية الأوروبية. ومن بين كل الأفكار والمعتقدات التي أثرت على طرائق سكان المستنقعات في الحياة، أو حددت سلوكهم، بقي تقديسهم لمختلف أنواع طواطمهم هو الأهم. وأُلِّفَتْ الكثير من الكتب حول هذا الأمر، غير أننا نكتفي هنا بالقول بأنني – بقدر ما استطعت التأكد منه - فإن التقديس والاحترام لتلك الطواطم يختلف بين مختلف شرائح المجتمع، وحتى بين العائلات المختلفة. ومرد ذلك التباين هو حقيقة أن أسلاف عشيرة أو عائلة ما من المفترض أنها كانت واحدة من زوج من التوائم، والتؤم الآخر هو كان أحد كائنات الطبيعة مثل تمساح أو أفعى كوبرا نفاثة أو ورل أو غزال، أو ربما يكون حتى شجرة. ومهما يكن من أصل تلك المعتقدات، فليس هناك أدنى شك في القدر الهائل من التبجيل والتقديس الذي تكنه كل شريحة من شرائح المجتمع لطوطمها، ولا تُقْدِمُ أبدا على إيذائه بأي صورة من الصور، بل تسعى لاسترضائه. ووجدنا أنه من الضروري لنا أن نكتسب معرفة كافية بطواطم سكان هذه المنطقة حتى لا نتركب خطأ جسيما قد يستفزهم ويقود بالتالي لاندلاع عدائيّات معهم. ففي بعض المناطق يمكن لمسؤول أن يثير خُصُومَة مع الأهالي إن أطلق النار على غزال الماء waterbuck، بينما يمكنه أن يفعل ذات الشيء بأمان في منطقة أخرى تبعد بضعة أميال قليلة ولها طوطم مختلف، ولكن يجب أن يأخذ حذره من قتل تمساح أو كوبرا نفاثة.
وذات مرة قَتَلَ صيدليان أفعى كوبرا نفاثة بمديرية أعالي النيل، فهاجمها النوير بالحراب وتركاهما حتى ماتا. ولحسن الحظ هنالك وسائل تقليدية يمكن بها تفادي النتائج الوخيمة التي يمكن أن تؤدي إليها مثل تلك الهفوات التي تحدث مصادفة. ويجب تَعَلُّم مثل تلك الوسائل، إضافة للعادات والخرافات والتقاليد المحلية (في كل منطقة) قبل أن نبدأ العمل بفعالية وكفاءة في مناطقنا. فعلي المثال، كان ينبغي على من قتل تلك الكوبرا أن يسارع بوضع القليل من العشب في فمها أو على ظهرها، أو - بقدر أقل من الجهد - أن يبصق على ظهرها. وتعنى تلك الطقوس أن الكوبرا قد لقيت قبرا لائقا، وأن روحها قد اطمأنت، وأن قاتلها قد كَفَّرَ عَنْ ذنبهِ. ولا بد أن للهنود في فيرجينا (أي سكان أمريكا الأصليين. المترجم) نفس الفكرة، إذ أنهم ينثرون أوراق التبغ على رأس أفعى الجلجلة قُبيل قتله حتى تسكن روحه بعد الموت. أما بالنسبة لي شخصيا، فأنا أفضل أن أنثر أوراق التبغ على ذلك الأفعى بعد نفوقه وليس وهو على قيد الحياة.
ربما كان من الطبيعي أن تأخذ العائلات التي تتخذ من ثعبان ما طوطوما حذرها، حتى إن لم تقصر تلك العائلات في شيء لإطفاء نار غضبه.
وعنما تُزَوِّج عائلة تتخذ من ثعبان ما طوطوما إحدى بناتها، لا بد لتلك العائلة من أن تختار بقرة خاصة وتضعها جانبا ليسهل على الثعابين من نسل ذلك الثعبان الطوطم أن تفعل بها ما تريد. وحين يقرب واحدا من الثعابين تلك البقرة، يقدم له اللبن، إما بسكبه على ظهره، أو على وتد الحبل الذي ربطت له. وإذا وجد أحد أفراد العائلة ثعبانا نافقا، ينبغي عليه أو عليها سكب اللبن (أو ما استخرج منه من دهن) على ظهره، وحشو فمه – كما تقدم ذكره – بالعشب الأخضر. وينبغي إحضار "طبيب شعبي witch doctor"، إن أمكن ذلك، ليبصق على ظهر ذلك الثعبان الميت.
ويُقدم أحيانا أحد الثيران قربانا لأحد الثعابين، أو تُحلب أفضل بقرة عندهم ويُسكب لبنها عبر شقوق الأرض حيث يعيش ذلك الثعبان. وقد يرقصون في بعض الأحايين على شرفه.
ولدى سكان المستنقعات بعض الطقوس أكثر عمومية وأقل شدة وصرامة مما سبق ذكره. فالنساء يمنعن من شرب لبن الأبقار في فترات معينة من حياتهن. ولا يجب أن يخلدن للنوم كثيرا في غضون شهور الحمل حتى ينمو من في رحمها ويغدو نشطا وسمينا. وإن شاهدت امرأة حامل نسرا يصطاد نوعا معينا من السمك، فيجب على هذه المرأة وأقربائها ألا يأكلوا ذلك السمك إلا بعد ولادة الطفل.
ومن العادات الأخرى التي نراها نحن غريبةً عند بعض أفراد قبيلة النوير هي منع أكل أي حيوان له ريش. وهنالك طقس آخر مشهور يتعلق بأب وأم الزوجة، فإذا قابل الزوج أي منهما في الطريق، فينبغي عليه أن يغطي عُرْيَه فورا، وإن لم يتيسر له ذلك فعليه أن يتنحى بسرعة عن الطريق. وعليه أن يخبر أب أوأم الزوجة برغبته في زيارته أو زيارتها، قبل وقت كافٍ، حتى يعطيهما فرصة لارتداء ملابس مناسبة مصنوعة من جلد الغنم، أو أحسن من ذلك (من جلد الفهد، مثلا).
وكانت القرابين والهدايا تُقدم للقوى الخفية في العديد من المناسبات، مثل في حالة ولادة طفل بأرجل مقوسة، إذ أنها كانت تشبه – في نظرهم – أرجل الْوَرَل.
ومرة ثانية، يجب أن نتذكر أن تلك التقييدات لم تكن أكثر إزعاجا من تلك التي تقيدنا نحن، مثل ضرورة وضعنا لربطة عنق بيضاء عند ارتدائنا لسِّترة خُطّافيّة tailcoat (بذلة السهرة الرسمية)، وربطة عنق سوداء عند لبسنا لبذلة السهرة dinner jacket، أو نزعنا للقبعات عند دخول الكنيسة، مثلما يخلع المحمديون (المسلمون) أحذيتهم عند دخول المسجد. وبالإضافة لذلك، فإن تلك العادات والطقوس القبيلة تساعد على الحفاظ على التماسك القبلي، وعلى تأكيد وتخليد الاحترام للقوانين العرفية.
لقد كانت قوانين الأهالي التقليدية قليلة وبسيطة. وكان من يعتدي عليهم يعلم مسبقا أنه سيعاقب على جريمته. وأذكر هنا أمثلة قليلة فقط على ذلك. فعقوبة من يحرق بيت أو ممتلكات آخرين – سوءاً عامدا أو غير عامد – هي دفع بقرة واحدة، ويُغْرَمُ خمس بقرات من يسرق حربة أو معزقة أو مِجرافا يدويا أو يطعن أحد الناس. ومن المهم ملاحظة قيمة هذه الأدوات المسروقة عندهم مقارنة مثلا بقيمة "قطية" يسهل تشييدها. فالأدوات الحديدية تُجْلَبُ من خارج المنطقة، والمعزقة يساوي ثمنها قيمة خمسة "قطاطي"! ولا يأخذ النوير بمفهوم "الظروف المخففة"، إذ ليس لديهم مجال لأي "سفسطة قانونية". وكان العامل الذي يحدد قدر ما يفرضونه من عقوبة هو حجم الخسارة التي أُلْحِقَتْ بالمعتدى عليه، وعليه فهو يستحق تعويضا عنها. ولهذا السبب لم يفرض النوير عقوبة السجن على أحد قط. وفصلت ذات مرة في قضية رُفِعَتْ ضد أحد رجال النوير الذي كان قد تابع ثَّوْلاً (جماعةً) من النحل حتى دخلت في أحد البيوت. وأراد الرجل أن يطردها منه ويأخذ عسلها عن طريق إطلاق دخان في "القطية". غير أن فعلته تلك أدت لاحتراق "القطية" بما فيها. أخبرني النوير بأن ذلك عندهم لا يختلف عن فعلة من يريد تدمير بيت أحد الناس انتقاما منه. وكذلك لا توجد عندهم فروقات واضحة بين جريمة القتل murder والقتل العمد culpable homicideوالقتل قضاء وقدراً accidental killing. كل ما يهمهم هو أن القبيلة أو العائلة قد ضَعُفَت بفقد واحدا من أفرادها، وينبغي أن تُعَوَّضَ عن تلك الخسارة تعويضا مجزيا. وعندما تُرْتَكَبُ جريمة قتل، أو يُقْتَلُ رجل في مشاجرة مع أحد الناس، يلجأ القاتل إلى "زريبة" أحد زعماء القبيلة الذين من أهم واجاباتهم تسوية قضايا الدم (5)، ويبقى هنالك لستة أشهر كاملة. والحكمة من هذه المدة (الطويلة) هي تهدئة ثَائِرَة أولياء الدم. وعند انتهاء تلك الفترة (التي يتظاهر إبانها الزعيم بأنه لم يلاحظ وجود ضيفه القاتل في زريبته) يقوم الزعيم بالاتصال بأولياء دم القتيل ويفاوضهم في مسألة قيمة الدية المناسبة التي ينبغي على عائلة القاتل دفعها. وبهذه الطريقة تتحمل العائلة كلها وزر واحد من أفرادها. وهذا مما من شأنه أن يردع كل من تسول له نفسه ارتكاب مثل تلك الجريمة - وهذه أداة ردع حكيمة ومفيدة لحفظ القانون والنظام في أوساط القبيلة أو العائلة.
وهنالك ضوابط صارمة عند الشعوب النيلية تحكم التصرف في الممتلكات. وقد فُصلت هذه الجوانب في كتاب بي. بي. هاول P. P. Howel المعنون: "دليل قانون النوير A Manual of Nuer Law". ولن أضيف هنا سوى أن قوانين المواريث عندهم بسيطة، ولا تسمح بحرمان أي وريث من نيل نصيبه من الورثة، حتى ولو كانت بينه وبين مورثه عداوة. وبذا ينتفي أي احتمال لصراع بين الورثة عقب وفاة أحد أفراد العائلة. وتُوزع أراضي الميت وأبقاره بحسب التقاليد المتبعة من قديم، والمتعلقة بطول مدة الاستخدام، وتوزيع متعلقات الميت الشخصية على أقربائه بطريقة ودية. ويعلم كل وراث مقدما ما سيحصل عليه من تِّرْكة المتوفي، تماما كما يعلم أنه عندما ينفق له ثور أو بقرة من أبقاره أنه سيمنح بنته المتزوجة رجلا أمامية، وسيعطي عمه رجلا خلفية، وسيقدم الضُلُوع لعمته أو خالته، والعمود الفقري لخاله، وهكذا، حتى يوزع كل أجزاء البهيمة. وعند اصطياد حيوان ما بنجاح، يأخذ الذي أطلق حربته أولا نصيبه المكون من فخذي الحيوان ورجل خلفية واحدة، بينما يأخذ من رمى بالحربة الثانية الجزء الذي يعلو الفخذين مباشرة ولكن تحت الضُلُوع. أما الرجل الخلفية وبقية لحم الحيوان فتُقْسَمُ إلى أجزاء متساوية وتُعْطَى لبقية من شاركوا في اصطياد الحيوان.
لقد سبق لي أن قدمت بعض أوصاف النوير الشخصية (في صفحة 161 من كتابي "Sudan Days and Ways السودان: أيام وعادات")، ويكفي أن أذكر هنا أن رجالهم يمسحون أجسادهم العارية برماد الروث الذي يحرقونه في زرائب ضخمة، حيث يقضون ليلهم مع أبقارهم نائمين على أكوام من الرماد في وسط سحب من الدخان. ويمسحون شعر رؤوسهم ببول البقر، ويجعلونه متموجا مثل ممسحة mop برتقالية اللون، أو يلطخونه بروث الأبقار، ويصنعون من الروث قرونا تظهر من أمام أو خلف رؤوسهم. قد يبدو مثل هذا التصفيف للشعر كريها للكثيرين، ولكنه لم يكن أكثر مخالفة للقواعد الصحية من تسريحة coiffure سيدات بلاط الامبراطور نابليون الأول، أو عند بعض النساء في بلادنا نفسها، حين كن، عند ظهور موضة التجعيد الدائم permanent waving لأول مرة، لا يَمْسَسْنَ شعر رؤوسهن بشيء لأسابيع أو حتى لشهور عديدة.
وبالإضافة لذلك، إن كان منظر الدينكا أو النوير قبيحا بالنسبة للأوربيين، فلا بد أن طلعتنا البيضاء كانت بشعة لذات الدرجة في نظرهم، إذ أنهم كانوا يربطونها بالمرض الجلدي المعروف بالمَهَق albinism. وكان منظر رجل (أبيض) له لحية أو شارب منظرا منفرا لأناس يزيلون كل شعر ينمو في أجسادهم خلا شعر الرأس. ولا بد أن منظر الرجال القصار – والسمان نوعا ما – من أمثالي لم يمكن يبدو جيدا بالنسبة لهم، مقارنةً مع قامات رجالهم الطويلة النحيفة (التي يمكن أن نقول إنها مهيبة أو ملوكية majestic stature)، إذ أن طول الواحد منهم لا يقل عن 6 اقدام. لا بد لكل منا أن يقبل، في تسامح، صفات الآخر. فإن كنا نُصَابُ بغثيان عندما يقدمون لنا لبنا في إناء غُسِلَ ببول البقر أو لبنا ممزوجا بنفس السائل الكريه، فيجب علينا تذكر أن النوير يعيشون في منطقة يعوزها الملح، وكان عليهم أن يجدوا بديلا للملح. وإذا كنا نستمتع بجبن معتق من نوع غرونوزولا Gronozola، أو لحم طائر الطيهوج أو الضُريس grouse المعلق لأسبوعين أو أكثر، فعلينا أن نتذكر أن لحم ذنب التمساح المتعفن عند سكان هذه المنطقة ربما يكون أيضا في نفس لذة طعم لحم طائر الطيهوج عندنا.
******** ************
بدأ الذين أتيحت لهم الفرصة لمعرفة سكان المستنقعات يستلطفونهم. واختفت تدريجيا ذكريات تلك السنوات المريرة الماضية، وحلت محلها علاقات أكثر ودا. ورغم أن الأهالي عُنُد شديدو المِراس في كثير من الأحايين، فقد كانت غالبيتنا تحترم رفضهم الحازم لتغيير عاداتهم وطرائق حياتهم – مهما بدت لنا بربرية أو كريهة - بعادات جديدة، فقد كانوا لا يروون في عادات غيرهم أي ميزة على عاداتهم.
قد يبدو المنظر الخارجي للدينكا والنوير غريبا في البدء. غير أن التعرف عليهم عن قرب تبين للمرء أن مظهرهم الخارجي غير اللطيف يخفي الكثير مما هو جذاب، والكثير مما يدعو للتعاطف والتقدير. فالدينكا والنوير كرماء جدا، ويشركون الآخرين في القليل الذي يملكونه. ولا يعرفون الكذب والسرقة والغش والخداع والقتل العمد مع سبق الإصرار. غير أن غضبهم السريع كثيرا ما كان يفضي لمشاجرات مفاجئة تسيل معها الدماء. وهم يمتازون أيضا بشجاعة هائلة، وقد أثبتوا ذلك في صيدهم لأفراس النهر والتماسيح وهم على ظهور قوارب صغيرة متأرجحة لا يحملون سوى الحراب والرماح، أو عندما يصدون الأسود التي تهاجم قطعان أبقارهم، فيستنجدون بأصدقائهم – الذين يعلمون أنهم لن يتخلوا عنهم في ساعات الشدة – ويهبون جمعين مسلحين بحرابهم لإبعاد الأسود عن أبقارهم، ويخسرون في تلك العملية عددا من القتلى والجرحى.

وعندما كنت أطوف في مناطق النوير، كثيرا ما كنت استحضر هذا المقطع الشعري لروديارد كبيلنج من قصيدته "عبء الرجل الأبيض White Man’s Burden" (من ترجمة الأستاذ سيف الدين عبد الحميد).
تبيتُ تسهر جاهداً على رعاية أمةٍ مضطربةٍ وجامحة،
إنها شعبُك العابسُ الذي وقع في أسرِك حديثاً،
شعبٌ موسومٌ بميسم التخلف وضحالة المعرفة.
To wait, in heavy harness
On fluttered folk and wild-
Your new – caught, sullen people,
Half devil and half child.
وإن كانت أجسادهم قد مُسِّحَتْ بالرماد فصرنا نراهم كالأشباح، وإن كانت لهم عادات بغيضة بالنسبة لنا، فصرنا نعتبرهم "نصف شياطين Half devils"، فإن فيهم أيضا بعض صفات الأطفال. سعدت جدا بمراقبة النوير في بحر الزراف وهم يقومون لأول مرة – في حماسة ظاهرة – بأداء لعبة سِبَاق الورقة paper chase (6) الجديدة عليهم. وفيها كانت تقوم فتاة مليحة بوضع أثر عبر الشجيرات والحشائش، ويتبعها بعد ذلك حشد من الرجال وهم يضحون في مرح وحبور. وكانوا يستمتعون أيضا بسماع الحاكي (الجرامفون أو الفُونُوغراف)، ويحاولون – بسعادة بائنة – تقليدي وأنا أرقص على سطح باخرة المديرية بخطوات الثعلب foxtrot. وأذكر أننا قمنا بتوزيع أعداد من صحيفة التايمز "The Times" على بعض رجال الدينكا بالقرب من نهر السوباط، فقاموا بتحويلها لقبعات وهم يطلقون موجات عالية من الضحك. غير أننا أعطيناهم في مناسبة أخرى كرتونة فارغة كانت بها قبل زمن بعض قطع صابون صنلايت (Sunlight)، ولكنهم اشتجروا فيما بينهم لشدة رغبة كل واحد منهم في تملك تلك الكرتونة.
يعيش هؤلاء الناس هنا حياة شديدة البساطة في الهواء الطلق، وهم في كامل الرضا والقناعة والتَمَهُّل. ولا شيء يبعث بعض الإثارة في حياتهم سوى صيد الحيوانات أو الرقص أو حفلات الزواج. وكان قنوعين بذلك، فالأطفال لا يذهبون للمدارس، وليس للآباء لغة مكتوبة. ولا تترك الغارات الحربية بين القبائل عليهم أثرا اقتصاديا أو اجتماعيا أو أخلاقيا مزلزلا، مثلما تحدثه الحروب من قلق وكراهية ومرارات وشكوك عند من يسمون بـ "الشعوب المتمدنة" في بقية العالم. وعقب المعارك يقوم الناس هنا يدفعون تعويضات عن الخسائر البشرية التي ألحقها طرف بآخر، ولكنها ليست تعويضات تفوق قدرة المتحاربين. ويقوم المنتصرون منهم (وليس من هزموا) بتحديد قيمة الديات بعد أن يكونوا قد حسموا أمرها مع أفراد قبيلتهم. وفي غالب الأحايين تنتهي المسألة عند هذا الحد.
ما الذي يحمله المستقبل لهؤلاء الناس؟ سرعان ما ستتغير حياتهم المستقلة المتمهلة، إذ لا يستطيع شعب (الآن) أن يعيش في عزلة تامة، أو ينكفئ على نفسه ويبقى ممارسا لطرقه القديمة وعاداته التقليدية التي توافق طباع أفراده. ستحتاج مصر، ذات الكثافة السكانية العالية، للمياه لري أراضيها الزراعية، وسيتطلب الحصول على تلك المياه تغييرا كبيرا في حياة سكان المستنقعات. وعلى الرغم من أن السدود والقناطر قد أقيمت على النيل، وستقام المزيد منها في المستقبل القريب، إلا أنه يوجد مخزون مائي ضخم لم يمس حتى الآن هو ماء السدود، الممتد على مساحة تبلغ 8,300 كم مربع. ويضيع في وسط السدود بالتبخير والامتصاص نصف المياه الغزيرة التي تدخل لبحر الجيل بالقرب من نوملي (وقدرها 27,000 مليون م مكعب)، وذلك قبل أن تصل لثغر نهر السوباط، على الرغم من أن معدل هبوط الأمطار على كل المنطقة قد ازداد بحوالي 900 ملم في المتوسط.
ولتفادي فقدان المياه في منطقة السدود تم وضع خطة عُرفت بـ "مشروع قناة جونقلي"، وهي الآن (أي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. المترجم) موضع دراسة. والخطة تقضي بأن يشق قناة طولها 280 كم من جونقلي (عند ثغر نهر السوباط) وبذلك يتم تفادي مرور المياه عبر منطقة السدود. ولا تقف أي عوائق أمام المشروع من الناحية الآلية البحتة. إلا أن تنفيذ لك المشروع سيحدث تغييرا شاملا في حياة سكان منطقة السدود (وعددهم 1,500,000 نسمة)، وفي اقتصاد حياتهم المعتمد على الأبقار. ويقوم الدينكا والنوير أيضا في هذه المنطقة بزراعة القليل من الذرة، وذلك لاستخدام غالبها في عمل "المريسة"، أو لتكملة غذائهم الرئيسي (السمك ولحم الطرائد واللبن والدم الذي يستخلصونه من رقاب أبقارهم). بمقدوري أن أتفهم وأقدر عدم رغبة السكان هنا في استصلاح تربة مستنقعاتهم، وغالبها غير قابل للزراعة. فهم لا يمتلكون محاريث لتسويتها، وليس من الممكن تحضير تلك الأراضي وإزالة الحشائش عنها بما يملكونه من أدوات بدائية، خاصة وأنها تنمو حتى يماثل طولها طول الرجل البالغ.
وفي الوقت الراهن يقوم هؤلاء الناس الذين يعتمد عيشهم على أبقارهم التي ترعى في داخل مناطقهم inland في موسم الأمطار، بينما يقيمون هم أنفسهم على الأطراف الآمنة من الغمر. وينزلون في موسم الجفاف نحو مراعٍ جديدة في منطقة المستنقعات بالقرب من النهر. وعندما يُنفذ مشروع جونقلي، ستغمر المياه في ذات الموسم تلك المراعي النيلية التي يكون سكان المستنقعات النيليون في أشد الحاجة لها. بل قد تغمر المياه بعض مناطقهم بصورة دائمة. وإذا لم يكن من المتيسر تطوير مراعٍ بديلة لرعاة الأبقار هؤلاء من الدينكا والنوير، فسوف يكون عليهم هجر طريقة حياتهم الرعوية السهلة لحياة زراعية أكثر مشقة. ويماثل هذا الوضع حال سكان سهول شرق إنجلترا (the Fenmen) عندما يجدون أن أراضيهم قد حولت فجأة لمستودع كبير للمياه من أجل تزويد لندن بالمياه، وأن عليهم أن يهجروا طريقة حياتهم الزراعية المرضية التي ألفوها إلى حياة عمال المصانع التي لا تلائمهم. أما بالنسبة للنوير على الأقل، فإن الأمر يعني أكثر من ذلك بالنسبة لهم. لن يتوقف الأمر عند حد تغيير وسيلة كسب عيشهم، بل سيتعداه لتغيير شامل في نظرتهم للحياة، إذ أن لدي ملاك الأبقار هؤلاء ارتباط روحي عميق بحيواناتهم. ويتَسَمَّى الواحد من الرجال والنساء والأطفال باسم بقرته أو ثوره المفضل. جاء في الصفحة رقم 18 من كتاب النوير لريتشارد بريتشارد أن "الأبقار تُهدى لأرواح نسب أو ذرية مالكها وزوجته، ولأي روح شخصية تملكت أي منهما في وقت من الأوقات. وتُهدي أرواح الحيوانات الأخرى لأشباح من ماتوا. وبمسح الرجل للرماد على ظهر بقرة أو ثور، فإنه يصبح على صلة بالروح أو الشبح المرتبط به، ويدعو طالبا العون".
وقد يمكن أن يتيسر إقامة سدود على مجاري المياه، ويمكن مع إدخال الري الصناعي، توفير مراعٍ للحيوانات. وإذا لم يتم هذا فإن على النيليين رعاة البقر (وهم سدس سكان السودان) أن يقوموا بعملية إعادة ترتيب وتأقلم عسيرة على الحياة. (للمزيد عن قناة جونقلي يمكن النظر في المرجعين 7 و8).
*********** *********** ************
إحالات مرجعية
(1). يمكن قراءة المزيد عن تاريخ قبيلة مثل جا لوو هنا: https://bit.ly/3igqhtl
(2). كارولين نورتون (1808 – 1877م) هي كاتبة ومصلحة اجتماعية بريطانية. https://bit.ly/3lwL2TD
(3) للمزيد عن شجرة السجق (Kigelia africana) انظر في الرابط https://mimirbook.com/ar/ae6440e3ebf
(4) الطواطم (totems) هي الأنظمة المتعلقة بالرموز الروحية المقدسة. https://bit.ly/3fUlITJ
(5) نشرت ورقة عن هذا الزعيم (الذي يُلْجَأُ إليه ليتوسط في القضايا الشائكة مثل قضايا الدم) عنوانها: "The Leopard-skin chief: among the Neur "، تجدها كاملةً في هذا الرابط: https://bit.ly/3scW4ij
(6) للمزيد عن هذه اللعبة التسابقية وتاريخها في هذا الرابط: https://bit.ly/3sc7a76
(7) مقال لسلمان محمد أحمد سلمان بعنوان "جمهورية جنوب السودان واتفاقية مياه النيل لعام 1959" تجده في الرابط: https://bit.ly/3jRGSTU
(8) كانت أطروحة جون قرنق لنيل الدكتوراه من جامعة أيوا الأميركية عام 1981م عن آثار قيام قناة جونقلي. تجد نص الرسالة هنا: https://lib.dr.iastate.edu/rtd/7413/

 

آراء