المادة المهملة عمداً

 


 

عمر العمر
19 September, 2023

 

الخرطوم لا تستأهل حمم الحقد الإثني الطبقي المصبوب عليها بوحشية وشراسة شهورا . المدينة ذات القلب الرحب ظلت مفتوحة الأزرع والصدر منذ تكوينها للصاعدين من الشمال ، الهابطين من الصعيد ، النازلين من الجبال والزاحفين من الغابة والصحراء على حد سواء .لكنها وقت المحنة الفجائية لم تجد من يدافع عن ميادينها الخضراء،شبكة جسورها وأسواقها القديمة وأبراجها الحديثة .من تبقى فيها فعل ذلك اضطرارا ،ليس اختيارا حرا. نضاله الذاتي يتمثل في قدرته على التأقلم داخل المحنة مراهنا على انفراج عام أو مخرج خاص؛ أيهما يأتي أولا. حرب الخرطوم تفضح سوأتنا الخبيئة . لعل أسوأها وهن انتمائنا الجمعي للوطن .بغض النظر عن مستوى الوعي فالحرب عرّت حتى العظم فضيحة خواء أدمغتنا ووجداننا من قيْم التربية الوطنية. لئن أدنا الغزاة القساة الغلاظ على المدينة فمن الصعب العثور على ما يبرئ ساكنيها والجنود حماة الوطن !
*****

سحابة حزن داكنة مشرّبة بالتشاؤم ازاء مستقبل الوطن برمته. فالشعب يكابد الإنزلاق إلى هوة انقسام حاد بل تبعثر لم يتعرض له ربما منذ عهد الخليفة التعايشي.الدولة بكل أجهزتها وجيشها كأنما تمارس عملية انتحار لارجعة منها.جذر الأزمة لا يتجسد فقط في التنافر القبلي .إنها معضلة اجتماعية كثيفة التعقيد. لعل محورها غياب التربيةالوطنية .فالتنشئة غير المعافاة داخل البيت حيث يهمن الأب،استسلام الوالد لشيخ القبيلة، فخضوع الشيخ لزعيم الطائفة حيث سطوة الإمام تطال الحزب فالدولة. هكذا لمّا غابت مادة التربية الوطنية عن المنهج الدراسي ضاعت فرص الممارسة الديمقراطية عن الأجهزة السياسية الشعبية والرسمية.
*****

التنشئة الخاطئة ساهمت إلى حد بعيد في إهدار مبالغ طائلة على آلة الحرب لو كُرّست للتعليم لأصلحت حال أجيال المتورطين في مستنقع الدم. يندرج في هذا الهدر كلفة بناء حركات التمرد بما في ذلك ماكينة الجنجويد وما تحدثه من دمار في الخرطوم وتعطيل حركة الدولة. بل وتهديد وحدة الشعب والوطن. فبعد الجوع والفقر أمست البلاد يومئ اليها على خارطة العالم في عداد بؤر الانهيار السياسي. كل المحاولات الهادفة إلى إكساء غزو الجنجويد غلالة فكرية لن تحجب حقيقة أطماع رجل في الاحتفاظ بغنائمه من الثروة والسلطة. لايجدي تلك المحاولات انعاش روح القبلية والجهوية مثلما هي محاولات تصوير محمد حمدان دلقو بجون غرنغ الصحراء. فهذا رجل بلا رؤى أوغايات وطنية. فالزعيم الجنوبي الراحل ظل مؤمنا بمعاناة كل الوطن من التهميش مع فهم خاطئ للمواطنة ناجم عن فقر في التنشئة الوطنية. القيادة العسكرية العاجزة عن حماية ممتلكات الدولة و الشعب لا مهرب أمامها من المحاكمة بموجب تهم عدة أدناها الرسوب في التربية الوطنية ،الإستراتيجية والتكتيك العسكري.

*****
في (أوراق عبد الرحمن علي طه في التعليم والسياسة) نقرأ الجهود المبذولة في معهد بخت الرضا بغية (إعداد المواطن الصادق في وطنيته) عبر الجمعيات المدرسية حيث ممارسة الحكم الذاتي عبر نظام ديمقراطي والرحلات .ذلك منهج وضعه مكي عباس ومستر غريفث. جمال محمد احمد والهادي أبو بكر بين من تولى الإشراف على تطبيقه . بخت الرضا ابتكرت مشروع التربية على خشبة المسرح المدرسي . تلك خشبة برق عليها نجوم من طراز الفكي عبد الرحمن .تلك محاولات (أثارت اهتمام رجال التربية في إنجلترا) كما في مصر وفق شهادة معلم الأجيال.في مؤتمر بجامعة كولمبيا في العام١٩٤٩استعرض طه المسؤولية الملقاة على عاتق العملية التربوية من أجل تنشئة المواطن القادر على المشاركة في بناء التجربة الديمقراطية. التدريب الأخلاقي حاز على مساحة مقدرة في هذا السياق (من منطلق مساعدة التعليم الناس في التوصل إلى آراء بشأن المسائل الوطنية في المناهج.)ثمة شريحة من طلاب المرحلة المتوسطة تلقوا دروسا في التربية الوطنية. لكن هذا المنهج الموجز اختفى في ظروف وأسباب مبهمة
*****

هذه المحاولات الرائدة الواعية اصطدمت بالنظام المايوي اذ لم يتم فقط مصادرة فرص الممارسة الديمقراطية. بل غيّب وزير التربية مجالات الإبداع في بخت الرضا مؤثرا عملية النقل إذ استيراد موديل التجربة المصرية بدلا عن عن المراكمة على البناء السوداني .مشاركة المواطن في العمل العام اتخذ طابعا مغايرا تحت مظلة الحزب الواحد .تنشئة الجيل الجديد استبغ بالطابع العسكري إبان عهد مايو حتى عندما يتم الكلام عن التربية الوطنية داخل المدارس.مغامرة -جريمة-وزير التربية جرت تحت حمى الشغف بالأنموذج المصري دون الإسنعانة بمشورة رجال التربية السودانيين وبينهم فطاحلة.
*****

في عهد الإنقاذ تم تحطيم السلم التعليمي المصري المستنسخ في العهد المايوي و إخراج كل المناهج الدراسية بل العملية التربوية برمتها من فضاء الوطن وإدخالها في كستبانة الأيداوجيا الإسلامية.في سياق سياسة السوق الحر تعرضت العملية كذلك إلى الخصخصة مما أدى إلى إفساد جوهر التربية وتشويه مظهرها.كذلك ساهمت سياسة النظام في التخلص من الكفاءات الوطنية المتمرسة .كل تلك العناصر أنتجت أجيال مفرّغة من حس الانتماء الوطني مشبّعة بنهم اللهث وراء امتيازات السلطة وأنصبة الثروة.ثمة جيل يافع دفع فاتورة غسل الدماغ الأيدلوجي من روحه ودمه في محرقة أكذوبة الجهاد!
*****
ضحى ثورة ديسمبر البازخة بدأت عملية مراجعة العملية التربوية بغية اخراجها من جلبابها الأيدلوجي.المسؤولون المكلفون بالمهمة تبنوا فلسفة حداثية محورها إنقاذ زهنية الناشئة من الإغراق في الحشو والحفظ إلى رحاب قدح العقل والتفكير.هذا هو محور ارتكاز فلسفة بخت الرضا حينما استهلت مسار التغيير الاخلاقي باخراج المدرس من إطار الموسوعة الموثقة إلى زميل البحث وفق تعبير عبد الرحمن علي طه.يا ترى كم من الزمن والجهد الممكن أهدرنا لنعود إلى حيث كان الرواد؟!المجموعة المكلّفة بتغيير تخريب الإنقاذ العملية التربوية لم تستوعب الظرف الزماني كما ينبغي لإنجاز مهمتها فمنحت خصومها فرص الإنقضاض عليها بوسائل الإنفاذ ذاتها. كل حصيلة جهدها انحصر في درس في منهج الدين !الأمر بدا و كأننا استبدلنا دكتاتورية النظام بدكتاتورية الأفراد.رئيس الوزراء آثر كعادته الجنوح إلى السلامة فجمّد عملية التغيير بأسرها.ما علمنا في سياق (زوبعة الخلق ولوحة مايكل انجلو) جهد المكلفين بالإصلاح في شأن التربية الوطنية!
*****

من أجل إعادة بناء سودان جديد لابد من إعادة تنشئة الأجيال الفتية والقادمة على أسس وطنية ،اجتماعية وإنسانية قويمة راسخة. بما أن المدرسة تمثّل إحدى الأُطر الأساسية في بناء المواطن فلابد من وضع منهج للتربية الوطنية يضيء وعيه مع صعوده في السلم الدراسي بالتعايش السلمي ،الحرية والعدالة، احترام المجتمع والنظام العام. تلك هي أركان بناء نظام وطني ديمقراطي. ذلك منهج جعل إعلاء الشأن الوطني مكوناً تلقائيا في الشخصية السودانية فثقافة متوارثة بدلاً عن تمثل كسبًا ذاتيا في سياق التثقيف الفردي. الوضع الحالي ساهم في افراز قيادات حائرة اكثر مما هي فاعلة في محنتنا الراهنة. نعم لدينا مدارس جامعات لاحصر لها لكنها مؤسسات تعليم شكلانية تدور في فلك التعليم بجناحي التلقين والاستظهار غير مكترسة بشؤون الحياة والوطن. كلها تقمع التلميذ قبل تعليمه.

aloomar@gmail.com

 

آراء