المسيح المحمدي في الأساطير والأديان القديمة والأديان الكتابية

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

الكمال الحضاري
(2)

﴿ لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيم﴾

الحضارة الغربية السائدة اليوم هي قمة الحضارات في الأرض.. وقد تم التوصل إليها بعد صراع وتطور كبير.. وهي تختلف عن جميع الحضارات السابقة إختلافاً هائلاً.. وأهم هذه الاختلافات، أنه لأول مرة في التاريخ تكون هنالك حضارة واحدة شاملة لكوكب الأرض كله.. جميع الحضارات السابقة كانت حضارات تسود في بقع جغرافية بعينها.. ولم يكن الكوكب الأرض قد توحد جغرافياً حتى تسود فيه حضارة واحدة.. فبسبب التطور العلمى الهائل في سبل المواصلات، ووسائل الإتصالات وبسبب الفتوحات الجغرافية، أمكن أن يتوحد الكوكب الأرضي، وتسود فيه حضارة واحدة.

ولكي نكون واضحين منذ البداية علينا أن نحدد مفهوم الحضارة عندنا.. فنحن نميز تمييزاً دقيقاً بين الحضارة والمدنية.. فالحضارة عندنا هي ارتفاق الحي بالوسائل التى تزيد من طلاوة الحياة ومن طراوتها.. الحضارة هي التقدم المادي، يقول الأستاذ محمود: (فإذا كان الرجل يملك عربة فارهة ، ومنزلا جميلا ، وأثاثا أنيقا ، فهو رجل متحضر ، فإذا كان قد حصل على هذه الوسائل بتفريط في حريته فهو ليس متمدنا ، وان كان متحضرا ، وإنه لمن دقائق التمييز أن نتفطن إلى أن الرجل قد يكون متحضرا ، وهو ليس متمدنا ، وهذا كثير ، وأنه قد يكون متمدنا ، وهو ليس بمتحضر ، وهذا قليل ، والكمال في أن يكون الرجل متحضرا متمدنا في آن . وهو ما نتطلع إليه منذ اليوم)..

واضح أن التمييز يقوم بين الوسائل المادية للحياة، والقيم.. وقد سبق أن ذكرنا أن الحياة تسير على رجلين: رجل المادة، ورجل الروح.

وبالطبع الاختلاف بين الحضارة والمدنية ليس إختلاف نوع، وإنما هو اختلاف مقدار.. فالمدنية وهي تتعلق بالقيم هي القمة، والحضارة، وهي تتعلق بالجانب المادي للحياة هي القاعدة.. وتعريف المدنية عند الأستاذ محمود يجيء في قوله: ( ويمكن تعريف المدنية بأنها المقدرة على التمييز بين قيم الأشياء، والتزام هذه القيم في السلوك اليومي، فالرجل المتمدن لا تلتبس عليه الوسائل مع الغاية، ولا هو يضحي بالغاية في سبيل الوسيلة. فهـو ذو قيـم وذو خلـق. وبعبارة موجزة ، فالرجل المتمدن هو الذي حقق حياة الفكر وحياة الشعور)..

 

هل المدنية هي الأخلاق ؟ هي كذلك ، من غير أدنى ريب !! وما هي الأخلاق ؟؟ للأخلاق تعاريف كثيرة ، ولكن أعلاها ، وأشملها ، وأكملها هي أن نقول أن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة . ولقد قال المعصوم : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فكأنه قال ما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق.

حسب هذا التعريف، إنما يناسب الحضارة الغربية السائدة، أنها حضارة وليست مدنية، لأن موازين القيم فيها قد اختلت.. وأكبر صور هذا الاختلال وأوضحها، هي أنها قدمت الاعتبارات المادية على القيم الأخلاقية، والاعتبارات الروحية.. ثم هي تعمل للحرب أضعاف ماتعمل للسلام.

هذه الحضارة، في إيجابياتها، هي الأرضية التي يتم عليها البعث الجديد الذي نبشر به، وهي المقدمة الطبيعية له.. أو قل هذا البناء التحتي لهذا البعث.

ربما يكون عند الكثير من أبناء هذه الحضارة، أنها هي الكلمة الأخيرة في تاريخ الحضارات.. وأنها قد وصلت من التحضر مستوى ليس عليه مزيد.. وهذا ما قاله فعلاً فوكوياما، حين زعم أن الحضارة الغربية هي القمة التى ما عليها من مزيد!! وأن إنسان هذه الحضارة هو خاتم البشر، بمعنى أنه قمة التطور البشري على الأرض.. وكل هذا قطعاً غير صحيح، فالحضارة الغربية لها ما بعدها.. ونحن هنا سنتناول بإيجاز شديد إيجابيات الحضارة الغربية، التى جعلتها قمة التحضر إلى اليوم.. وسلبيات الحضارة، التى تقعد بها عن أن تكون الكلمة الأخيرة – نهاية التاريخ-.

الأيجابيات:

أن أوضح ، وأكبر، وأعظم إنجاز للحضارة المعاصرة هو التقدم العلمي الهائل، وما إنبنى عليه من تقدم تقني، أثر تأثيراً هائلاً على جميع نواحي الحياة عند الإنسان، حتى أصبح فكر الإنسان، وعلمه في مجال العلم المادي التجريبي، ووسائل الحياة التى تحققت بفضل تطبيقات هذا العلم، أمر يكاد يكون الشبه بينه وبين الحضارات السابقة، وحتى القرون السابقة، بما فيها القرن التاسع عشر، أمر منقطع النظير.. من غير الممكن، في هذا الجانب، المقارنة بين الحضارة الغربية، وأي حضارة سابقة.

في جانب المعرفة النظرية، التى انبنت على العلم، نجد أن تصورنا للكون الذي نعيش فيه، يختلف اختلافاً جذرياَ عن تصور إنسان القرون السابقة، بما فيها القرن التاسع عشر.. بل يمكن أن يقال، أن المعرفة العلمية التى تتوفر لطلاب المرحلة الثانوية في وقتنا الحاضر، أعظم وأدق من معرفة كبار العاماء، بمن فيهم نيوتن أبو العلم الحديث نفسه!! لقد كان كون الإنسان القديم محدود جداَ، فهو لا يتجاوز ما يستطيع أن يراه بعينيه المجردتين دون وسائل معينة.. أما اليوم، فبسبب التطور العلمي، وتطور الوسائل العلمية، فإن كوننا في المجالات الكبيرة أصبح غير متناهٍ في جميع الإتجاهات.. فقد أصبحنا نقيس أبعاد كوننا الشاسع بالسنين الضوئية!! ونتحدث عن مجرات تبعد عنا ملايين السنين الضوئية!! هذا في الجانب الكبير، أما في الجانب الصغير للكون، فقد أصبحنا نقيس الأشياء بالميكرون، جزء من ألف جزء من المليمتر.. وبالنانومتر، جزء من ألف من الميكرون!! فأصبحنا نقيس الزمان في أجزائه الصغيرة، بالبيكوثانية .. جزء من مليون من الثانية.. وتم تقسيم الذرة، و وصلنا إلى أصغر صور المادة حتى الآن؛ الكوارك.

لقد تمت دراسة كل شئ مادي موجود في عالمنا تقريباً.. تمت دراسة الأجرام السماوية، من مجرات، ونجوم، وكواكب..الخ وتمت دراسة الأرض، وكل ما يتعلق بها، من سطحها، وطبقاتها المختلفة حتى جوفها.. وما على السطح من مياه محيطات وبحار وبحيرات وأنهار.. وتمت دراسة الأحياء المختلفة في الأرض، من أصغرها وحتى الإنسان.. وتمت دراسة النباتات، وصور المناخ المختلفة.. الخ

ونشأت مختلف العلوم، وتقسمت إلى فروع.. وتم التوصل للخريطة الجينية للإنسان.. وانبنى على هذه المعارف، التي أشرنا إليها مجرد إشارة، معرفة الكثير جداً عن المادة وعن الحياة.. و صحب هذه المعرفة التطبيق التكنولوجي في جميع المجالات، والذي أخصب الحياة البشرية بصورة ليس لها نظير في التاريخ.. فليتصور كل منا وسائل الحياة الحديثة، التي يرتفق بها، والتي الكثير منها كان غائبا عن أجدادنا.. لنفكر مثلاً في وسيلة مثل التلفزيون، الذي جعل كل الناس في العالم يمكن أن يشاهدوا الحدث في نفس الوقت الذي يجري فيه!! والراديو والكمبيوتر والانترنت وجميع الوسائل في مختلف المجالات.. ففي علم الطب مثلا، أصبح عندنا من الوسائل ما نستطيع أن نرى به الأحياء الدقيقة، و نشخص به الأمراض المستعصية، ونعالجها.. فلينظر كل منا في المجالات التي يعرفها، خل عنك المجالات الكثيرة جدا التي لا يعرفها.. لو أخذنا نموذجاً واحداً لوسائل العصر، وتأملنا فيه، لوجدنا أن الأمر مدهش جداً!! لنأخذ "الموبايل" كوسيلة اتصال.. لقد أصبح بفضل الله، ثم بفضل هذا الجهاز، الذي يمكن أن يملكه كل إنسان، بمن في ذلك الأطفال، أصبح الاتصال بجميع الناس، في مختلف أصقاع الأرض ممكناً وبصورة لحظية.. يمكن مثلاً لمن في السودان أن يتصل بمن هو في استراليا أو في البرازيل أو روسيا، أو كوريا.. الخ في لحظة.. والتحسين في هذه الأجهزة لا يزال مستمراً.. إن هذا الأمر الذي ألفناه، وأصبح لنا عادة، بالنسبة لمن سبقونا قبل هذه الاختراعات، هو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!!

اعتقد، كون أننا نعيش داخل الصورة، حجبنا كثيراً عن تصور عظمة ما نحن فيه.. ومن أجل التصور الجيد لا بد لنا من الخروج من الصورة، وتخيل الحياة قبل ظهور هذه الانجازات العظيمة..

وفي جانب العلم نفسه ظهرت من النظريات العلمية ما غير أساسيات المسلمات القديمة.. وعلى رأس هذه النظريات، نظرية النسبية، ونظرية الكوانتم، فقد غيرتا كل المفاهيم العلمية التقليدية عن: الزمان والمكان، المادة والطاقة، الكتلة والحركة.. الخ.. لم تعد مسلمات هندسة إقليدس من المسلمات، إلا في إطار محدود، ولاعتبارات عملية.. وظهرت هندسات جديدة، تناسب التصورات الجديدة للكون.. فلم يكن من الممكن السفر إلى الفضاء، بناء على هندسة إقليدس!!

كان يمكن الحديث عن السفر إلى الفضاء، وهو باب واسع جداً، و ثورة المعلومات والجينوم وما انبنى عليه، وعلم الأعصاب الحديث.. الخ.. ولكن لسنا في حاجة إلى هذا التفصيل، لبيان عظمة الحضارة الغربية، وتفردها.. وهو على كل حال أمر يعيشه الجميع، ويتمتعون به، فنتيجة لهذا التقدم العلمي والتكنولوجي، أصبح عامة الناس، أصحاب قدرات عقلية أكبر بكثير من أسلافهم، وأصحاب معرفة أكبر من أسلافهم، و بصورة تنقطع معها المقارنة، ولقد أدى استخدام العلم والتكنولوجيا إلى إخصاب الحياة، في جميع مجالاتها: في المأكل، والملبس، والمسكن، وسبل المواصلات والاتصالات، ووسائل الراحة والترفيه.. جميع هذا أصبح فيه من الوفرة والتنوع واليسر ما لا يخطر على بال الأسبقين.. وكذلك الحال بالنسبة للعلاج والخدمات الطبية، وجميع احتياجات الحياة.. فأبسط الناس اليوم، وفي أكثر الدول تخلفاً، أصبح يجد في وسائل الحياة، ما لم يتوفر لعظماء الملوك، والمترفين في التاريخ.. وأصبحت الآلة تسد مكان الإنسان في كثير من الأعمال اليدوية، والكثير من مجالات العمل الذهني.. وهي تؤدي العمل بكفاءة في كثير من الحالات، أكبر من الكفاءة البشرية بكثير.. وأصبح الإنسان باستمرار يحول عمله على الآلة، مما زاد في الانتاج وفي الوفرة، وتنوع السلع والخدمات، وقلل من ساعات العمل، وأدى إلى وجود وقت فراغ كبير عند الناس.

و الوعي الزائد عند الإنسان المعاصر والرهافة الزائدة، جعلت الإنسان أكثر اهتماماً بحياته وبمصيره، وأكثر إلحاحاً في طلب الإجابة للأسئلة المتعلقة بوجوده.

الإنسان المعاصر أكثر وعياً بحقوقه وأكثر حرصاً عليها.. كما أنه أكثر وعياُ بحقوق الآخرين، وأكثر تعاطفاً معها، وأكثر استعداداً للعمل في سبيل أن ينال الآخرون حقوقهم، ومن أجل ذلك جاء الحديث عن حقوق الإنسان، و كثرت المنظمات التي تتابع هذه الحقوق و تعمل على توفيرها.. وقد تم تقنين الكثير من الحقوق، وضمنت في الدساتير.. فنتيجة للوعي، و زيادة التعليم، و الشفافية، أصبح للمستضعفين نصراء كثر، يكافحون من أجل قضاياهم.. ورغم ذلك، هنالك خلل كبير في تصورات الحضارة، و معاييرها، الإ أن هنالك وعي أكثر، و احترام أكثر لإنسانية الإنسان.

و في الجانب السياسي والفكري، نجد أن من أعظم الانجازات التي تمت في عصرنا إرساء وترسيخ المباديء الدستورية، و تقلص الأنظمة الشمولية خصوصاً بعد سقوط الحكم السوفييتي.. وقد أصبحت الحرية العامة في المجتمع حق تتضمنه الدساتير، و تثني عليه القوانين في المجالات المختلفة، وقد نشأت الدولة الحديثة بعد معاهدة وستفاليا 1648م وساد الاتجاه إلى النظام الديمقراطي في الحكم، و ترسخت مبادئه.. كما تمت محاولات للمساواة الاقتصادية، عن طريق النظام الاشتراكي، خصوصاً على أساس النظرية الماركسية، و لكنها فشلت.

هنالك محاولات للقضاء على الفقر و الجوع و المرض.. وهي محاولات، على ضعفها، تستحق التقدير، خصوصاً أننا نتحدث عن الايجابيات.. نستطيع أن نقول، و بكل تأكيد، أن جميع الشروط المادية للكفاية، وسد حاجات الإنسان المادية، و المساواة الاقتصادية، قد توفرت.. فالإمكانيات العلمية، والمادية والبشرية، و التكنولوجية، المتوفرة الآن، كفيلة بتحقيق جنة الأرض، وما يحول دون ذلك الإ الخطأ الكبير في إطار التوجيه الذي تقوم عليه الحضارة، والمفارقة الخطيرة للمبادئ والقيم، هذا ما يتعلق بالسلبيات، و لذلك نحن لا نفصل فيه هنا.

أشرنا إلى توحد الكوكب الأرضي جغرافياً بسبب تطور المواصلات و وسائل الاتصال.. فقد صار الناس في الأرض جميعاً جيراناً ، وهذا واقع جديد، يفرض عليهم تحدياً أساسياً، هو أن يعيشوا وفق القيم التي تناسب حياة الجوار.. أن يعيشوا في سلام.. ففي هذا الجانب، الإيجابية الأساسية هي أن الواقع فرض على الناس حياة السلام.. و لكن لأنهم فشلوا في تحقيق السلام، فقد أصبح هذا يمثل أكبر سلبيات الحضارة، ويحكم عليها بصورة نهائية بالعجز التام، عن الاستجابة للتحديات التي فرضها واقعها..

نحن لسنا في حاجة للتفصيل في إيجابيات الحضارة، فهي أمر ظاهر لا ينكره الإ جاحد، ومكابر، وليس بهؤلاء عبرة.. إن عظمة الحضارة التي أشرنا إلى طرف منها، هي التي أوحت إلى الكثير من أبنائها أنها هي القمة التي ما عليها من مزيد في مجال الحضارات.. و لذلك هم لا ينتظرون بديلاً لها، و سيظهر خطأ هذا الرأي بصورة واضحة، عندما نتحدث عن سلبيات الحضارة.

 

يتبع

رفاعة

 

آراء