المشهد السياسي السوداني ما بعد 30 أكتوبر 2021م : انقلاب عسكري كامل الأركان دون سند سياسي أو دستوري!!

 


 

بلّة البكري
31 October, 2021

 

31 أكتوبر 2021م

“There comes a time when silence is betrayal”!
Martin Luther King Jr
"سيأتي وقتٌ يصبح فيه الصمتُ خيانة"
د. مارتن لوثر كنج جونيور

قال تعالى:
"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" (الأحزاب :72)

بعد مسرحية اعتصام الفلول سيئة الإخراج، أمام القصر الرئاسي في الخرطوم، وإعطاء الضوء الأخضر للناظر تِرِكْ في شرق السودان بقفل الميناء الوحيد لقرابة الشهر وخلق الأزمات المفتعلة، قال الشعب السوداني كلمته – في 21 أكتوبر 2021م - بلغة "سلمية" "حضارية" أشهد بها العالم أجمع على مطلبه العادل في حكومة "مدنية. أي نعم مدنية خالصة. فكان لزاماً على الذين يقرأون من الكتاب القديم أن يسمعوا ويعوا. فما عاد هناك من مخرج لأي ذي عقل سوى السير الجاد إلى الأمام في طريق التحول الديمقراطي. فهو طريق شاق وطويل، زاده الصبر وحسن النية؛ جنوده رجال دولة شرفاء، متجردون ولا مكان فيه للأرزقية وأصحاب المآرب وتجار الدين ولوردات الحروب.

على الرغم من كل ما حدث في 21 أكتوبر، يقوم القائد العام للجيش السوداني – الجنرال عبد الفتاح البرهان بعد أربعة أيام فقط – في 25 أكتوبر - باستخدام القوة العسكرية الباطشة (والتي هي أمانة في يده) منقلباً على إرادة الشعب الذي حمّله هذه الأمانة. بل إنّ الجنرال يدوس على أشواق الشعب السوداني وتوقه لوطن حُر، آمن وديمقراطي. فقد قبل الناس مكرهين، في عام 2019م، شراكة معيبة في الحكم لا معنى لها في ظل وثيقة دستورية تم التلاعب بها، بقصد، في مرحلة الإعداد وفيما بعد ذلك، بتعديلها بل وتهميشها بجعل اتفاق سلام جوبا السياسي (على علاته) يعلو عليها.. فكيف يعلو الفرع على الأصل!

لم يكتفِ الجنرال وتابعوه بذلك بل تعدوا على حريات بعض زملائهم، شركاء حكومة الفترة الانتقالية، من الوزراء والناشطين ممن خشوا معارضتهم وعلو صدحهم بالحق، وزجّوا بهم في السجون في مشهد عبثي انتقامي ينم عن الغدر وسوء القصد. بل هناك مخاوف أن بعضهم أو جلهم يتم تعذيبهم بوسائل بشعة ربما تعرض حياتهم للخطر. فأي مرتكز أخلاقي وأي مسلك فروسي يبرر هذا الفعل الهمجي من قائدٍ يطرح نفسه لقيادة الأمة السودانية كلها! فأبسط قواعد الفروسية، يا سيادة الجنرال، تقول إنّ خصمك لو وقع سيفه فعليك أن توقف النزال حتى يلتقطه. فما بالك من رفيق طريق ارتضيت أن تسلكه معه طوعاً ومشاركة يسندها اتفاقٌ مكتوب؛ فهو (هذا الرفيق) أمانة في عنقك، بل إنّ سلامتك في سلامته. وقديما قالوا: "الرفيق قبل الطريق". فما فعلتموه بالتعدي على حريات رفقاء طريق المشاركة السياسية لا يقل غدرا عن الانقلاب. بل ينبئٌ عن فعلٍ لا يشبه السودانيين وشهامتهم! فعلٌ يعود بنا الى بيوت الأشباح واختلاق التهم الملفقة للنيل من المعارضين السياسيين.

ويأتي يوم 30 أكتوبر 2021م حيث خرج الشعب السوداني مرةً أخرى، عن بكرة أبيه هذه المرة، في العاصمة الخرطوم ومدنها وفي مدن السودان في الولايات بل وفي مدن العالم المختلفة في أوربا وأمريكا وغيرها ليشجب الانقلاب العسكري على إرادة الشعب. خرج الملايين ليقولوا كلمتهم في وجه الجنرال: أن لا عودة للوراء ولا رجعة عن أرادة الأمة السودانية التي طال انتظارها للحرية والسلام والعدالة. فقد عزّت هذه المطالب على كل من سبقوك من جنرالات الحكم الانقلابيين والذين تحول آخرهم الى لص دولي يسرق موارد البلاد ويرتشي في داخل القصر الرئاسي؛ فانتهى مصيره في كُوبر. هذه الجموع الهادرة لم يشهد لها السودان مثيلا طوال تاريخه. بل لا نبالغ أن قلنا لم يشهد العالم أجمع شعباً حشد هذا الإجماع السياسي داخليا وخارجيا في رفض التعدي على خياراته السياسية. وقد ورد أن رئيسة وزراء إحدى دو العالم الحر عندما رأت صور الجموع الهادرة في السودان وخارج السودان قالت فيما معناه: " لو أن الشعب السوداني قال في ذلك اليوم، بصوت تلك الجموع، إنه يعارض حكومتي في بلدي لاستقلت"!

أما مبررات الانقلاب العسكري الواهية فقد فنّد ضعفها السياسي والدستوري والأخلاقي الكثير من كتاب الرأي في عدة مقالات منشورة؛ لعل أكثرها إفحاماً ما جاء في مقال د. أحمد أبراهيم أبو شوك بعنوان: "مبررات الانقلاب العسكري في السودان: الادعاء والحقيقة، المنشور في سودانايل على الرابط أدناه:

https://sudanile.com/%d9%85%d8%a8%d8%b1%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%86%d9%82%d9%84%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b3%d9%83%d8%b1%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%af%d8%b9%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad/

وهذه المبررات التي اعتمدها الجنرال البرهان هي باختصار:
(1) الوثيقة الدستورية تنصُّ على تشكيل حكومة "كفاءات وطنية مستقلة"؛
(2) مجلس الوزراء لم يقم بتعيين مفوضيات السلام والدستور والانتخابات؛ و
(3) إنّ هناك أربعة أحزاب سياسية (الأمة القومي، والاتحادي المعارض، والمؤتمر السوداني، والبعث العربي) قد اختطفت الثورة، وسيطرت على إصدار القرار السياسي في الحكومة الانتقالية (مجلس السيادة ومجلس الوزراء) ومجلس الشركاء.

يقول أبو شوك مفنداً هذه الادعاءات الثلاثة: “
"((أولاً، إنَّ النصَّ الخاص بتشكيل حكومة "كفاءات وطنية مستقلة" ورد في المادة (15/1) من النسخة الأولى من الوثيقة الدستورية، التي تمَّ التوقيع عليها في 17 أغسطس 2019م، والتي يُقرأ نصها هكذا: "يتكون مجلس الوزراء من رئيس وعدد من الوزراء لا يتجاوز العشرين من كفاءات وطنية مستقلة، بالتشاور يعينهم رئيس مجلس الوزراء من قائمة مرشحي قوى إعلان الحرية والتغيير، ويعتمدهم مجلس السيادة، عدا وزير الدفاع والداخلية اللذين يرشحهما المكون العسكري بمجلس السيادة." وبعد اتفاقية سلام جوبا لسنة 2020م، قد تمَّ تعديل النصَّ الوارد أعلاه في المادة (7) من الوثيقة الدستورية المعدلة، والتي صادق عليها مجلس السيادة في 12 أكتوبر ٢٠٢٠، ويُقرأ نصها هكذا: " في المادة ١٥: يُلغى البند (١) ويستعاض عنه بالبند الجديد الآتي: "(١) يتكون مجلس الوزراء من رئيس، وعدد من الوزراء من كفاءات وطنية بالتشاور، يعينهم رئيس الوزراء من قائمة مرشحي قوى إعلان الحرية والتغيير، وأطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان على أن يكون من بينهم نسبة ٢٥٪ تختارهم أطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان، ويعتمد مجلس السيادة جميع الأعضاء ومن بينهم وزيري الدفاع والداخلية اللذين يرشحهما المكون العسكري بمجلس السيادة." إذن هذا التعديل يدحض الزعم بأن قوى إعلان الحرية والتغيير قد خرقت الوثيقة الدستورية؛ لأن النص المعدل قد حُذفت منه عبارة "حكومة كفاءات وطنية مستقلة"، وبموجب ذلك أضحى تعيين وزراء منتسبين إلى أحزاب سياسية في مجلس الوزارة غير متعارضٍ مع النص المعدل والمشار إليه أعلاه.

ثانياً، الادعاء بأن مجلس الوزراء لم يقم بتشكل المفوضيات الأساسية (مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري، ومفوضية الانتخابات) لتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي محل نظر؛ لأن تشكيل هذه المفوضيات من صميم مهام مجلس السيادة، الواردة في المادة 39/3، والتي يقرأ نصها هكذا "يعين مجلس السيادة رئيس وأعضاء المفوضيات التالية بالتشاور مع مجلس الوزراء: (أ) مفوضية السلام، (ب) مفوضية الحدود، (ج) مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري، (د) مفوضية الانتخابات." إذن التقصير في هذا الجانب يجب أن يُعزى إلى مجلس السيادة الذي يرأسه أحد أعضاء المكون العسكري، بدلاً من تحميل مجلس الوزراء (المكون المدني) وزر هذا التقصير منفرداً. كما أن هذا النص يدحض الادعاءات المتداولة في القنوات الفضائية ووسائط التواصل الاجتماعي بأن عدم تشكيل المفوضيات المشار إليها يقع ضمن تقصيرات مجلس الوزراء منفرداً..

ثالثاً، إنَّ الزعم بأن هناك أربعة أحزاب سياسية قد اختطفت الثورة وسيطرت على مفاصل اتخاذ القرار، زعم ضعيف؛ لأن اتفاقية سلام جوبا قد غيرت المعادلة الثنائية للنظام الحاكم إلى معادلة ثلاثية، طرفها الثالث أعضاء اتفاق سلام جوبا، الذين يشغلون 25% من المناصب الدستورية-الفيدرالية (مجلس السيادة ومجلس الوزراء)، كما أن لهم حضور مقدر في مجلس الشركاء، الذي تمَّ تشكليه، بموجب القرار رقم (511) لسنة 2020م، من 29 عضواً ...))" انتهي:

وقد أورد أبو شوك في مقاله أعلاه أسماء ال 29 عضوا في مجلس الشركاء مشيرا الى أن عدد أعضاء المكون العسكري وممثلي العملية السلمية أغلبية في ذلك المجلس (15 عضو مقابل 14 عضواً) ليخلص الى أن "الانقلاب العسكري الذي قام به الفريق البرهان وبطانته في 25 أكتوبر 2021م، انقلاب لا مبرر له من الناحية الأخلاقية، والسياسية، والدستورية ولذا يجب معارضته، بحجة أنَّ الوثيقة الدستورية لا تمنح الفريق البرهان الحق في إعلان حالة الطوارئ، ولا في حل الحكومة الانتقالية بمجلسيها السيادي والتنفيذي، ولا حق له البتّة في تعديل نصوص الوثيقة الدستورية بالحذف أو الإضافة" انتهى الاقتباس بتصرف.

هذا وقد خرج العالم الحر بإجماع تام شاجبا الانقلاب العسكري في السودان، الذي هو بلا شك مغامرة محفوفة بمخاطر عدة يدفع ثمن تداعياتها الباهظ الشعب السوداني. فقد تحولت المؤسسة العسكرية من مؤتمن على سلامة وأمن البلاد الى مهدد لها؛ بل ويتعدى خطورة أفعال قائدها العام ومعاونوه الى تهديد الأمن القومي في منطقة القرن الأفريقي كلها والتي ترزح تحت ويلات الحروب في الحبشة وإرتيريا. وهذا أمرٌ جلل ربما استدعى أن يعيد البعض حساباتهم. ففي الوقت الذي بدأ السودان الخروج من ظلمات العزل الدولي الى بؤرة الضوء يأبى عشاق الظلام سوى أرجاعه للمربع الأول. ولكن هيهات فالثورة مستمرة؛ فيبدو أننا لا زلنا في بدايات الطريق!!

ballah.el.bakry@gmail.com
-------------------
الكاتب: مهندس مدني وكاتب مستقل

 

آراء