الميم يؤثر في الجين

 


 

 

جوبا - 12 يوليو 2021م
في يوم 12 يونيو تمت مناقشة للطبعة الثانية من كتابي: مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي (2021 - جوبا: ويلُّوس هاوس للنشر والتوزيع)، ذلك بمبادرة كريمة من منتدى اللسانيات السوداني ومؤسسة الدكتور أشرف عبد الحي عبر تطبيق الزووم. اشتملت منصة المناقشة على الدكتور عبدالله الفكي البشير (كاتب المقدمة الضافية للكتاب)، بجانب الأساتذة حكمة يعقوب، إسماعيل حامد النور، ومحي الدين إبراهيم جمعة. ويمكن مطالعة فعالية الندوة لمن لديهم الرغبة في الرابط التالي:
https://youtu.be/7MNzPhDthWQ
بعد انتهاء الندوة، قامت الأستاذة حكمة يعقوب بفتح مناقشة حولها في صفحة خاصة بها في الوسائط الاجتماعية. وقد وردت في صفحة الأستاذة حكمة يعقوب تعليقات من بعض المتداخلين معها، وبمشاركتها، بخصوص كتابي وما دار حوله من نقاش خاص بثيمة أن الميم (المورثات الثقافية) تؤثر في الجين (المورثات البيولوجية). تلك التعليقات لم تكن فقط سالبة، بل اشتملت على قدر وافر من الزراية بالفكرة وبكاتبها وصلت درجة وصفها بكلمة "الهضربة". وهذا ما أشعرني بالأسف! فقد نمَّت نبرة الاستهزاء والزراية، ليس فقط على انعدام أي قدر من حسن الظن بما يكتبه باحث، ليس فقط مدرب على البحث، بل شفع ذلك بالعديد من البحوث والكتب، بل نمَّت على ما يمكن النظر إليه على أنه غبينة، ليست بالضرورة شخصية، لكنها قطعا ضد الفكر المغاير.
في تدريسي الأدب الإنكليزي بالجامعات ومن ضمنه مناهج النقد، كنت أشدد لطلبتي على ضرورة توفر حسن الظن بالكاتب المراد نقدُه. فالنقد شيء جد مختلف عن الدحض. والدحض ليس من النقد في شئ! فاستصحاب حسن الظن بالكاتب هو المدخل الجمالي للنقد، وما عدا ذلك فليس نقدا، بل هو أدخل في باب التخطئة أو الكيد، أو كلاهما.
على أي حال نقول معليش. فيا طالما تكسرت النصالُ على النصال فوق أجسامنا فما زادنا ذلك إلا إيمانا بخط الاستنارة والتنوير الذي نذرنا له حياتنا منذ شبابنا الباكر. لكنها حسرة على أناس يصغروننا سنا بكثير، إلا أنهم يتحامون العلم استهزاء ً بمن سلخوا العمر ولا شغل لهم غير العلم. ما أخشاه أن هؤلاء يحرمون أنفسهم من فرص التفوق على الأجيال التي سبقتهم وتجاوزها.
لقد تم نشر الطبعة الثانية من الكتاب ونفدت طبعاته في أقل من شهر وقبل أن تصل أي أعداد منه إلى السودان. وها نحن الآن بصدد إخراج الطبعة الثالثة. ولأن احترام العلم يوجب علينا أن نحترم النقد ولو خالف قواعد النقد وشابته روحُ الزراية بنا، بالضبط كما لا يصرف الشوكُ عن الوردة إعجاب المعجبين، هأنذا قد قمت بالبحث والتنقيب حول الشكوك المشروعة التي أثاروها أعلاه، ضاربا صفحا عن نزعة الزراية والاستهزاء. وهذا، في الحق، ما كان ينبغي لهم أن يقوموا به، إتماما لعمل الباحث، ذلك لو أنهم أحسنوا الظنَّ به. أدناه مُستلَّة من الطبعة الثالثة لكتابي المشار إليه أعلاه، تتعلق بالموضوع الذي وصفوه بكلمة "الهضربة". ولا أنشر مقالي هذا من باب السعي إلى تخطئتهم، بل من باب تجديد الدعوة لهم للدخول في محاورة مفتوحة وعامرة بحسن النوايا في الكاتب والناقد، تعمل على تجاوز مفاهيم الكاتب عبر توسيعها وإثرائها.
مرة أخرى، نعم، الميم يؤثّر في الجين
ليس هذا فحسب، بل نذهب في منهج التّحليل الثّقافي إلى أنّ الميم قد يؤثّر في الجين. دعونا نضرب مثلاً بطول فتياتنا الشّابّات الذي تقاصر وظلّ يتقاصر بدرجة ملحوظة ما بين 1970م ــــ 1980م وصولاً إلى يومنا هذا. وهي ظاهرة قصر طول لافتة للنّظر في الجامعات حيث من المفترض أن يكنّ الفتيات قد اكتمل نموّهُنّ. لسبر أغوار هذه الظّاهرة علينا أن نقوم بمراجعة مهمّة لنمو الوعي الجنساني Development of Sexuality Awareness، وهو شيء جدّ مختلف عن الجنس، كونه يتعلّق باكتساب الوعي بالفروقات النّوعيّة أكثر منه بالجنس عمليّاً. في الحقيقة لا يعرف المجتمع السّوداني التّقليدي الخاضع للثّقافتيّن العربيّة والإسلاميّة بالوسط والشّمال النّيلي حاليّاً أي طقوس معترف بها اجتماعيّاً عبرها يتمّ اكتساب الوعي الجنساني بخلاف البلوغ، بخلاف ما كان عليه ماضيه. هذا بعكس المجتمعات التي لا تزال بصورة كبيرة تحتفظ بتقاليدها الأفريقيّة، وكذلك بلغاتها غير العربيّة (بالطّبع هذا الحكم فيه تعميم لا يخلو من استثناءات هنا وهناك فلتُراعى عند التّقدير).
بحلول عقد السّبعينات من القرن العشرين، برزت ظاهرة المسلسلات المصريّة التي تدور كلّ حبكتها حول قصص الحب والغرام كما تصوّرها ثقافة غريبة ذات قدر كبير من التّحرّر في هذا الخصوص، على العكس من ثقافة الوسط والشّمال النّيلي المتشدّدة فيما يتعلّق بعلاقات النّوع. هذا ريثما تنداح دائرة المسلسلات لتشمل الثّقافات السّوريّة الشّاميّة، ثمّ العربيّة الخليجيّة، ثمّ الأمريكيّة الجنوبيّة وأخيرا التّركيّة. فمن الذين يحلسون ويتحلّقون حول التّلفزيون لمشاهدة هذه المسلسلات ضعيفة المحتوى، سيّة التّمثيل والإخراج في مجملها؟ بالطّبع هم الحبّوبة والأم والفتيات الصّغيرات من سنّ المراهقة إلى ما دون الخامسة. ليس هذا فحسب، بل بانفعال وتفاعل حول قضايا الحبّ والعشق وما يتخلّلها من خيانات وإحباطات، قد تُجري دموع الكثيرين منهم. فماذا يعني هذا؟ إنّه يعني الإيقاظ المبكّر للوعي الجنساني عند فتيات لا زلن دون الخامسة قد اكتسبن وعياً جنسانيّاً لا ينبغي اكتسابُه إلا بعد البلوغ بفترة. فماذا كانت النّتيجة لهذا السّلوك الثّقافي؟ كانت نتيجتُه تأثيراً مباشراً في الخصائص الجينيّة التي تتحكّم في البلوع، بما يعني حدوثّه مبكّراً. وبالتّالي، ما إن تبلغ الفتاةُ في سنّ الثّامنة أو التّاسعة إلى الحادية عشر وفوقها بعام ربّما، حتّى يتوقّف نموّها الفيزيقي ويتمّ اعتقالُه في حالته غير المكتملة.
علميّاً، هناك اتّفاق بأنّ البلوغ المبكّر للفتيات يعتقل نموَّهُنّ. هناك ما لا يخصى من المواقع الإليكترونيّة العلميّة التي تتكلّم عن هذا، فلتُراجع في الشّبكة العنكبوتيّة. لكن لا بأس من أن نذكر أحدَها: https://kidshealth.org/en/parents
؛ ولتُراجع فيه تحديداً المادّة التي تناقش: precocious puberty growth when compared with their peers. في هذا الموقع نقرأ:
"When puberty ends, growth in height stops. Because their skeletons mature and bone growth stops at an earlier age than normal, kids with precocious puberty that's not treated usually don't reach their full adult height potential."
أي ما ترجمتُه:
"عندما تنتهي سن البلوغ. يتوقّف نمو الطّول، فبسبب نضج الهيكل العظمي، وتوقّف نمو العظام في عمر مبكّر أكثر من الطّبيعي، لا يصل الأطفال الذين عانوا من البلوغ مبكّراً، دون أن يُعلاج ذلك، إلى كامل طولهم المقدّر عندما يصبحوا بالغين".
وفي الحقيقة فقد شهد عصرنا الحالي (عصر العولمة) هذا تسارع وتيرة البلوغ بصورة عامّة، ووسط الفتيات بصورة خاصّة. في دراسة أجرتها ماريسا فيشر Marisa M. Fisher وإريكا يوقستر Erica A. Eugster تحت عنوان: "ما الذي في بيئتنا ويؤثّر على البلوغ"؟ What is in our environment that effects puberty؟ (راجع ذلك في الموقع الإليكتروني التّالي: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4096833
) وجدتا أنّ العامل الاجتماعي يلعب دوراً هامّاً في تسريع بلوغ الفتيات. كذلك لاحظ علماء الحيوان في أفريقيا أنّ إناث الفيلة يصلن إلى مرحلة البلوغ المبكّر في فترات القتل الجائر للأفيال، ذلك للتّعويض عن نقص النّوع species لتلافي احتمال انقراضه. كما لاحظوا أنّ هذه الإناث لا يبلغن حجمهنّ الطّبيعي درّاء البلوغ المبكّر. كذلك لاحظ علماء الحيوان في أفريقيا أنّ إناث الفيلة يصلن إلى مرحلة البلوغ المبكّر في فترات القتل الجائر للأفيال، ذلك للتّعويض عن نقص النّوع species لتلافي احتمال انقراضه. كما لاحظوا أنّ هذه الإناث لا يبلغن حجمهنّ الطّبيعي درّاء البلوغ المبكّر. في هذا يُرجى مراجعة أوينز Owens وأوينز Owens في مقالتهما: Early age reproduction in female savannah elephants: 2009) في الموقع التّالي: https://core.ac.uk/download/pdf/206487917.pdf
).
ولنتأمّل هذه الظّاهرة الخطيرة التي يتعرّض لها المجتمع التّقليدي الخاضع لقياسيّة الثّقافتين العربيّة والإسلاميّة في حال تشدّدهما من حيث فصل الجنسين. فهذه المجتمعات تترخّص في متابعة قصص الغرام والحبّ بشغف من قبل نسائها القاعدات والأمّهات والفتيات الأطفال، بينما هي تحرّم عليهنّ الإتيان بما يشاهدنه. وهذا هو مكمن التّحفيز. وبمناسبة هذا التّرخّص، يجدر بنا الإشارة إلى مفهوم لنا قديم يتعلّق بالدّراما ومسئوليّتها الثّقافيّة. فهذا "الدّلع" والتّرقّق في الحديث والسّلوك، ثمّ التّحرّر سلوكاً وملبساً أيضاً، من جانب الممثّلات، لا يثير أيّ امتعاض لدى المشاهدات المتزمّتات ثقافيّاً، كونهنّ غير مسئولات عن سلوكيّات الثّقافات الأخرى. ولكن إذا تصوّرنا أنّ اللائي يمثّلنّ هذه الأدوار هنّ سودانيّات، عندها ربّما خرجت ثورة، ليس من النّساء ضدّ هذا السّلوك الفالت، بل من الرّجال الذين عادةً لا يشاهدون هذه المسلسلات. وهذا ما أسميناه في كتابةٍ لنا قديمة بالمسئوليّة الثّقافيّة للنّصّ الدّرامي (محمّد جلال هاشم، "المسئوليّة الثّقافيّة للنّصّ الدّرامي"، منتدى الثّلاثاء بكليّة الدّراسات العليا بجامعة الخرطوم، 1986).
هذا بينما تقف المجتمعات ذات الإحالات الأفريقيّة لغةً وثقافةً في السّودان (بالطّبع نقصد أغلبها دون تعميم) على النّقيض من هذا حيث لا تزال تحتفظ ضمن إبداعاتها الأدائيّة Creative Performances بطقوس العبور Rites of Passage، وبخاصّةٍ طقوس العبور للفتيات والفتيان من الطّفولة للمراهقة بحيث يتعارفون، مستصحبين كامل وعيهم الجنساني باختلاف النّوع Gender Differences بما يمهّد لهم جميعاً أن يختاروا شركاء حياتهم في المستقبل. وهذه "بصارة" ثقافيّة صحّيّة (اجتماعيّاً ونفسيّاً) وسدادة حضاريّة جديرة بالتّأمّل والإعجاب. هذا بينما هي في الواقع تتعرّض كلّ يوم للهجوم المكثّف من قبل الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة بتصويرها للسّلوك الصّادر من وسط وشمال السّودان القائم على معايير الثقافتين العربيّة والإسلاميّة المتشدّدة تجاه علاقات النّوع Gender Relations بوصفها مدخل الشّيطان إلى قلب الإنسان. ويتمثّل هذا الهجوم في تصوير الثّقافتين العربيّة والإسلاميّة في حال حوشيّتهما ومفارقتهما لكلّ معايير الوقت والفرد والجماعة، بوصفها قياساً ينبغي للجميع أن يتماهى فيه ومعه، متخلّين عن مخايل الأصالة والحضارة في ثقافاتهم. وما هذا إلاّ شكل من أشكال القهر الثّقافي الذي يتمّ باسم الثّقافتين العربيّة والإسلاميّة. وإلاّ فمن أين تأتي لنا تلك المسلسلات؟ أوليست تأتي لنا من المركز العربي والإسلامي الكبير، أكان ذلك المركز هو مصر أو سوريا أو لبنان أو الخليج العربي؛ وإذا ما كان ذلك المركز الإسلامي السّلفي هو الّكويت أو الإمارات أو قطر أو حتّى تركيا؟ وهذا يعكس لنا كيف تقوم الأيديولوجيا ــــ مطلقاً ــــ بتزييف الثّقافة وبالتّالي تسميمها، ومن ثمّ تزييف وعي الإنسان بنفسه وبالآخرين ذاهلاً عن الواقع لينتهي بالفشل التّام في صنع الحياة وتجديدها.
MJH
جوبا - 12 يوليو 2021م

 

آراء