النمتي والكُلتيب

 


 

 

 

Salih@american.edu

كان في العهد الاستعماري ما أن يطلب من أي إداري بريطاني التوجه إلى دنقلة في مأمورية، يسأل عن شئ واحد هو"النمتي"! فكانوا لا يطيقونه، وقد يتم تأجيل المأمورية إلى حين انتهاء فترة موسم النمتي! وقد ورد ذكر النمتي وتجارب وقصص الضباط الإنجليز معه في كثير من التقارير آنذاك. وعلى الرغم من أن النمتي معروف من أسوان وحتى أواسط السودان وأجزاء من شرق السودان وغربه وجنوبه، إلا أن منطقة دنقلة اشتهرت بسحابات النمتي الكثيفة التي تهاجم الإنسان والحيوان على حدٍ سواء. وبحسب استقصاء بحثي بسيط، فإن أول وصف للنمتي في المصادر الغربية في السودان أورده الرحالة الألماني روبلRüppell في رحلته عبر منطقة دنقلة عام 1823، ونشره بصورة مبسطة في كتابه عن رحلته إلى نوبيا وكردفان عام 1829م كحشرة صغيرة رمادية تسبب أزعاجاً للثديات، قائلاً "تحركنا من دنقلة بعد ظهر يوم 23 ديسمبر ووصلنا إلى الدبة في 26 ديسمبر1824، عذبتنا حشرات طائرة صغيرة الحجم تغزو هذا البلد لمدة ثلاثة أشهر من العام، وهي بحجم البرغوث، وتهاجم فقط العيون والأذنين. وتتواجد بكميات هائلة في دنقلة لدرجة أن الناس في الحقول يضطرون لإغلاق مواشيهم خلال النهار في أكواخ مظلمة ويخرجونها للرعي ليلاً . والزُّرّاع الذين يجب أن يكونوا خارج أكواخهم أثناء النهار يحملون مشاعل مضاءة مصنوعة من الألياف للدفاع عن أنفسهم ضد هذه الحشرات التي لا تطاق. والبعض الآخر يحمل في يديه قطعة من الروث المحترق والذي ينبعث منه الدخان لنفس الغرض".
وفي عام 1834 أورد إدموند كومبس والذي زار منطقة دنقلة في بداية أبريل 1834م ، وتعرض أيضاً على طول الطريق من دنقلة إلى الدبة لويلات العذاب من قبل "حشرات طائرة صغيرة" تهاجم في كل مكان ومن أي إتجاه على ضفاف النيل ووسط النهر، وتوقع لسعات مزعجة للبشر". وقد لاحقته سحابة من هذه الحشرات في صباح هادئ بالقرب من الدبة. كما ورد أيضاً ذكر النمتي على النيل في منطقة دنقلة في الموسوعة البريطانية للعلوم والفنون والتاريخ عام ١٨٣٨ م، وقد كتب عن النمتي الرحالة بيارد تيلور Bayard Taylor عام 1854م في رحلة عودته من الخرطوم إلى مصر قائلاً: " وصلت بعد 34 يوماً من مغادرة الخرطوم إلى الدبة، وفي الدبة شاهدت لأول مرة آفة رهيبة سببت لي ولعدة أيام عذاباً شديداً، وهي حشرة سوداء طائرة صغيرة، سامة مثل البعوض، لكن يصعُب إبعادها وطردها. وفي دنقلة العجوز كنت محاطاً تماماً بهذه الحشرات المزعجة، لدرجة أنه كان من المستحيل أن أنام. لقد هاجمت أنفي وفمي وعيني بأعداد كبيرة حتى كدت أن أجن، فمسحت وجهي بالخل المركز، ولكن يبدوا أن ذلك جذبها أكثر. فأخذت عمامتي ولففتها حول رقبتي وأذني، لكنها تحرّكت تحت طيات العمامة". وظلت تحاصره أسراب النمتي وقد أورد تجاربه معها في الخندق وشمال دنقلة، وماتعرض له من عذابات في الجزر وعلى ضفاف النيل. شئ واحد غريب ذكره تيلور هو أن النمتي هاجمه ليلاً، النمتي لا يهاجم ليلاً ربما اختلط عليه "النمتي" والقرّاص". ونال قلايشن Gleichen أيضاً حظّه من ويلات النمتي عام 1905م لاحظ أن "النمتة" ظهرت في كميات هائلة من بين دلقو وكورتي من نوفمبر إلى أبريل وقال إنّ لسعاتها تسبب حمى طفيفة في بعض الأحيان، وحين تتزايد أعدادها وتصبح لا تطاق يذهب الناس بمواشيهم في هجرات مؤقتة بعيدًا عن مناطق تواجدها، وأن الناس يحملون على رؤوسهم مشاعل من العشب المشتعل ينطلق منها الدخان لطرد النمتي.
النمتي المقصود هي نوع النمتي المنتشر في مناطق دنقلة وينطقها بعض الناس (النجمتي) أو (النمتة) ولها أسماء أخرى في بعض المناطق، مثل (الصهيب والكُلتيب والنالوتي) وغيرها واسمها العلمي حسب أوستن هوـSimulium griseicolle ـ وهي من فصيلة الذلفاوات، رتبة ذوات الجناحين، طائفة الحشرات، شعبة مفصليات الأرجل. وهي حشرات بعوضية الشكل من ذوات الجناحين تنتمي لفصيلة الذلفاوات الهائلة سيميليوم وهي تضم قرابة 1789 نوعاً من الحشرات ومنتشرة في الكثير من بقاع الدنيا . وتماماً مثل قربيتها أنثى الأنوفلس وبنات عمها (الكلتيب) وينطقها البعض (الكُنتيب) ويُسَمّيها البعض في دار المناصير (النالوتي )، وتعتمد في عملية التغذي على دماء الثدييات بالإضافة إلى دم الإنسان على الرغم من أن الذكور منها تعتمد في غذائها بالأساس على الرحيق، ولا تهاجم الثدييات ولا تزعجها. أسراب النمتي التي تهاجم الثديات كلها من الإناث فقط. وعادةً ما تكون أحجامها صغيرة، وألوانها رمادية أو سوداء وأرجلها قصيرة، ولها قرنا استشعار. وتسبب الذلفاوات، بصورةعامة، إزعاجًا مستمرًا للبشر لدرجة أن العديد من الولايات الأمريكية لديها برامج لمكافحة الذلفاوات.
بدأ الاهتمام بالنمتي في بدايات عهد الاستعمار حيث قدم المستر بيكرBecker أول وصف علمي للنمتي لعينات منه في تخوم أسوان عام 1903م وقد أضيف اسمه إلى ذلك النوع من النمتي حيث أصبح اسمها العلمي الرسمي Simulium griseicolle Becker (Gibbins, 1935). وفي العام 1905م قدم السير أندرو بلفور Andrew Balfour أول وصف تفصيلي لـ "سلوك" النمتي في السودان وفي تقريره الذي قدمه لشعبة معامل أبحاث السودان بكلية غردون التذكارية عام 1906 م، وقد كتبها بالإنجليزية "النِّمِتّة" وأيضا "النِّمِتّي" .وقد قام المستر كنق H. King في العام 1908 م ، الذي دعم بحثه برسومات توضيحية ملونة لدورة حياة النمتي بناءً على ملاحظاته في مديرية دنقلة خلال عامي 1906 و1907م، بوصف بيئة النمتي وكيفية تكاثره، وقد تم نشر تلك الأبحاث في كتاب أصدره المستر أوستن E.E. Austen عن الحشرات ماصة الدماء في أفريقيا عام 1909م. وحسب التقرير فأن الأنثى لونها رمادي فاتح قليلاً وطولها 2 ملم، وطول الجناح حوالي 2.2 ملم، وقرن الاستشعار بُنّي اللون داكن يتألّف من أحد عشر فصاً. أما الذكر فطوله 2.1 ملم وطول جناحه حوالي 2.2 ملم. وقد وصف كنق في تقريره يرقات النمتي بأنها رمادية اللون "غبشاء" مائلة إلى الخضرة وطولها حوالي 5 ملم. أما العذراء أو الخادرة (pupa) فلونها أحمر شاحب إلى بني تحيط بها شرنقة في شكل جيب، شبه شفّافة طولها حوالي 3 ملم. وعادةً تضع الأنثى البيض في المياه أو على التربة الطينية بجوار المياه الجارية على ضفاف النيل.
والاهتمام بالنمتي يعود أصله إلى ملاحظات وردت في خطاب من مدير مديرية بربر قبيل عام 1906 والذي وصف سلوك النمتي بأنه حين يهاجم الإنسان يهاجمه ويعضه ويمتص الدماء من وجهه دون سائر الأجزاء. وجاء في خطاب مدير بربر "تظهر في يناير وفبراير وأبريل وتنتشر على امتداد النيل بين السلمانية وحتى برتي على حدود مديرية دنقلة وتعيش قريباً من النيل ولا توجد على بعد من أكثر نصف ميل من ضفاف النيل وتنشط من شروق الشمس حتى غروبها وتعض كل جزء من الإنسان أو الحيوان لاتغطيه الملابس أو يكسوه الشعر. تهاجم الإنسان في وجهه ويديه، أما الثديات فتهاجمها في بطونها وأجهزتها التناسلية وضروعها. وتكون أكثر شراسة في الموسم بين برودة الشتاء وحرارة الصيف، ودرجات الحرارة العالية تقتلها بالآلاف، كما تَحِدُّ البرودة الشديدة ُ من نشاطها". وكان المستر كنق قد قلل من خطورة النمتي التي وردت في ملاحظات مدير بربر قائلاً إنّ النمتي حشرة ضعيفة وغير قادرة على خرق جلد الإنسان وأنّ مقدرتها على امتصاص دماء البشر محدودة، عدا المنطقة التي تقع خلف صيوان الأُذن. وهي أكثر منطقة تعضها وتقشِّر بشرتها وتدميها حشرة النمتي لأنها مغطاة بطبقة رقيقة من الجلد يسهل اختراقها. كما أنها تهاجم الحيوانات في الأماكن التي تكون فيها طبقة الجلد رقيقة، فمثلاً تهاجم الحمير في آذنها وبطونها. وعندما تهاجم الثديات فأنها تغرس خرطومها وتمتص أكبر قدر من الدماء حتى الامتلاء، ولذلك لا تستطيع بعد ذلك الطيران لأكثر من عدة أمتار فتسقط على الأرض حتى تذهب عنها تلك التُخمة! وحين تهبط على الأسطح الملساء تحرك أرجلها الأمامية في حركة احتكاكية مثل الذباب. كان يُعتقد أن النمتي تحمله الرياح من منطقة الشلال الثالث حول كرمة وتنشره على النيل حتى الدبة، وجنوباً. لكننا نعلم الآن أن النمتي يتوالد محلياً على طول امتداد النيل في تلك المناطق وقد لاحظ المستر ويلسون C. E. Wilson في نوفمبر 1942، ظهور النمتي في المنطقة الجنوبية قبل شهر من ظهوره في دنقلة، حيث تم تأكيد توالد النمتي محلياً. كما أن تواجدها ليس محصوراً في منطقة النصف ميل من ضفاف النيل المذكورة آنفاً، بل يمكن أن تجد النمتي على بعد أكثر من 80 كليومتراً من ضفاف النيل.
الذين عاشوا أو زاروا مناطق دنقلة في نهاية شهر يناير وشهر فبراير ومارس حتى بداية أبريل، لابد أن لهم معارك مع النمتي خاصة في أوقات لقاح أشجار النخيل. وهي حشرات طائرة رمادية مزعجة وصغيرة وسريعة الحركة تهاجم الثديات، خاصة الإنسان في شكل سِرب من المئات أو الآلاف أحيانا يدور حول الأنسان مهاجماً الوجه والعينين والأذنين في آن واحد بلا هوادة، وإذا سقطت أحداها في العين يصعب إخراجها دون سحقها وانفجارها مما يسبب احمرار العيون. أما إذا دخلت في الأذن فتحدث طنيناً وأزيزاَ مزعجاً داخل الأذن ويكون الحل المتاح هو سكب القليل من زيت الطعام أو الماء الدافئ لأغراقها وجرفهاخارج الأُذن. إذا كانت حشرة النمتي تُعدُّ مزعجةً جداً للكبار، فإن ضررها على آذان الأطفال وعيونهم لايطاق، لذلك تجتهد الأمهات في مسح جسد الأطفال بالزيت وتعطيرهم بالعطور القوية النفّاذة لابعاد النمتي عنهم. ومعظم الرجال يلبسون "النّمّتيّة" وهي عبارة عن كيس من القماش الشفاف أسود أو أزرق اللون يغطي الوجه والرقبة. أما النساء فيتبلمّنَ بالثوب أو الطرحة ويتركن جزءاً منه سادلاً أمام الوجه بحيث يحمي العيون ويسمح بالرؤية. وفي الماضي كانوا يستخدمون الدخان المنبعث من جزء من ألس الساقية أو من صون الحمير أيضاً، فيكفي لطرد النمتي. وليس نادراً في مواسم النمتي أن تجد الزُّراّع والرعاة يحلمون قطعة ألس مشتعلة أوقطعة من روث الحمير ينبعث منها دخان كثيف لطرد النمتي، إلى أن دار جدل في مساجد دنقلة حول "حكم التبخر بروث الحمير" وأفتى بعض المشايخ بأنه "لا يجوز التبخر بروث الحمير، لأن روثها نجس" ، فترك الناس استخدام دخان صون الحمير في طرد النمتي! .
أذكر أيام الطفولة كنا نسأل ونستغرب من حلاوة طعم النمتي، فمذاقه كطعم حبة السكر إذا دخل في الفم. فكنا نتساءل كيف يصير طعم الدم الذي تمتصه حلو المذاق؟ وهناك القليل جداً (نادر) من البشر لايقربهم النمتي ولا يعضهم تماماً مثل أولئك الذين لا يقربهم البعوض، وليس هناك من تفسير علمي لذلك عدا قول عامة الناس إن" فلان دمو مُر" لايقربه النمتي!".
وأذكر في أحد مواسم النمتي كان يشرح لنا أستاذ الدين (التربية الإسلامية) قصة النمرود بن كنعان بن كوش الذي حاجّ أبراهيم في ربه، وبأنه أول من وضع التاج على رأسهِ وأدعى الألوهية. وقد بعث الله عليه بعوضة دخلت في أنفه ووصلت إلى دماغة، فظلّ هذا الملك الجبار 400 سنة يُضرب بالعصا والنعال على رأسه حتى تهدأ البعوضة. وكان حسب كلام الأستاذ يقول لحاشيته إن "أكثركم حباً عندي هو أكثركم ضرباً على رأسي". واعتدل الأستاذ وقال لابد أنّ هناك خطأ في التفسير! فالبعوضة لا تدخل في أنف الإنسان، وإذا دخلت لن تستطيع الحركة داخل الأنف والدماغ! فالنمتي فقط هو الذي يستطيع أن يدخل أذن الإنسان ويطنُّ داخلها! فلابد أن الله قد ابتلى النمرود بالنمتي وليس بالبعوض. وفي الثقافة يوصف الأنسان اللحوح المزعج بالنمتي، وأيضا في المنلوجات والأدب الشعبي "النمتي قطّعتني حِتِّي حِتِّي" أو "النمتة قطّعتني حِتِّة حِتِّة" وغيرها.
كما ذكرنا، يعرف النمتي في دار المناصير وماجاورها (بالكُلتيب) أو (الكُنتيب) وبعضهم ،أن لم تخنّي الذاكرة، يسمونه (النالوتي). لكن رغم الشبه الشديد جداً بالنمتي إلا أن الكُلتيب يختلف عن النمتي. فالقرق الأول بينهما هو أن الكُلتيب ليس من طبيعته الانسراب، أي لا يتشكل في شكل سِرب ولا يهاجم في شكل مجموعات كبيرة. والفرق الثاني هو أن الكلتيب يبدو داكناً وأكبر حجماً مقارنة بالنمتي (انظر الشكل المرفق). وهناك نوع آخر معروف بـ "نمتة الخرطوم" أو النمتة الخضراء، واسمها العلمي ( Tanytarsus Lewisi ). وهذا النوع لايقرص ولا يعتدي على الثديات ولايمتص الدماء، وهي حشرة صغيرة لونها مائل إلى الخضرة وتقضي المراحل الأولى من حياتها في مياه النيل وتنشط الكبار منها بعد الغروب، وقد تخرج منها البلايين في ليلة واحدة من النيل الأزرق. وأحياناً لكثرتها قد تعيق العمل وتخلق الحساسية والربو عند البعض.
بجانب العتمة وعدم نشاطها ليلاً، لحشرة النمتي عدوّان قاتلان يهلكانها في الحال: المطر والرياح. نزول المطر تعني نهاية النمتي ونسبة لضعف حشرة النمتي وصغرها فإن ذرات المطر تقتلها. وكذلك نسبة لخفة وزنها فتحمل الرياح (الهبوب) سحابات النمتي بعيداً عن النيل فتهلك في الصحراء. ومن هنا جاء الدعاء المعروف "يا الله هبوبك لمخلوقك"!

مصدر الشكل : أوستن 1909 صفحة 31
المراجع لمن يريد المزيد من الإطلاع:
1. Austen, Ernest Edward, (1909), Illustrations of African Blood Sucking Flies Other Than Mosquitoes and Tsetse-Flies, British Museum, London.

2. Edmond Combes (1846), Voyage En Egypte, En Nubie V1: Dans Les Deserts De Beyouda, Des Bicharys, Et Sur Les Cote De La Mer Rouge (1846)

3. Lewis D. J., 1954, NIMITTI AND SOME OTHER SMALL ANNOYING FLIES IN THE SUDAN Author(s): Sudan Notes and Records, DECEMBER 1954, Vol. 35, No. 2 (DECEMBER 1954), pp. 76-89

4. GLEICHEN, A. E. W., ed., (1905). The Anglo-Egyptian Sudan: a compendium prepared by officers of the Sudan Government, London 1905

5. LEWIS, D. J., (1953 b). Simuliidae in the Anglo-Egyptian Sudan. Rev. Zool. Bot. Africa., 48, pp. 269

6. Rüppell, Wilhelm Peter Eduard Simon (1829.) Reisen in Nubien, Kordofan, und dem Peträischen Arabien, vorzüglich in geographisch-statistischer Hinsicht, Frankfurt am Main: F. Wilmans,

7. Taylor, Bayard (1862), A Journey to Central Africa; or, Life and Landscapes from Egypt to the Negro Kingdoms of the White Nile G. P. Putnam, New York, 1862

 

آراء