بؤس الرؤى

 


 

عمر العمر
5 November, 2023

 

كثيرا ما يتغنى عديدٌ منا متباهيين بانجاز شعبنا ثلاث ثورات شعبية سلمية أطاحت بثلاثة أنظمة عسكرية باغية. لكن ما من أحد يتخطى ذلك التباهي بالإنجاز الفريد .بل الجميع يجفل عن حقيقة أكثر رسوخا و أشد إيلاما من بواعث ذلك التفاخر. فإهدار ثلاث ثورات ،كل جديدة أعظم من سابقتها، حقيقة أبقى تجذراً في التاريخ كما هي على الأرض. فالإنفجارات الشعبية بفعل تراكمات ضغوط الأنظمة الدكتاتورية ظاهرة متوالية عبر التاريخ لكن إعادة إنتاج الخيبات الشعبية الناجمة عن اجهاض ثلاث ثورات عارمة يشكل هدراً وطنيا ماحقا يوجب التقصي بديلا عن التغني ، بغية استخلاص الدروس والعبر. عقب كل ثورة نتواطأ عليها بالمحاصصة ثم نجهز عليها ب( عنف البادية). كثيرا ما يحاجج العديد دفاعاً عن الأحزاب بأن الديمقراطية تجربة لا تكتمل في غياب الاحزاب.هذه معادلة عرجاء. فالديمقراطية لاتبني أحزابا بل الأحزاب المعافاة ديمقراطيا هي بانية التجارب الديمقراطية المتكاملة.
*****

البعض يحمّل الأحزاب أوزار الإنقلابات العسكرية من منطلق تحريضها الضباط على تنفيذ إنقلابات ضد السلطات المدنية. هؤلا يعترفون بالإنقلاب جريمة لكنهم يستهدفون تجريم الأحزاب أكثر من تبرئة العسكر . فالضباط أناس لهم رؤى سياسية وانتماءات وطنية. ليسوا آنية فخارية جوفاء. لذلك يصيبهم ما يصيب أفراد الشعب من أفكار أو أضرار. في البلاد حيث يتم الفصل بين العسكر والسياسة تنهض كل منظمات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة بأعبائها كما ينبغي. هناك أقطار تهيمن المؤسسة العسكرية على مفاتيح اللعبة السياسية فيها لكن قياداتها لا تظهر على خشبة المسرح السياسي إذ تكتفي بالمراقبة أو إدارة اللعبة من خلف الكواليس. حين تنزلق أقدام اللاعبين على المسرح أو خلف الكواليس تجأر منظمات المجتمع المدني أو مؤسسات الدولة ،بما فيها العسكرية أحيانا ، بالاحتجاج.
*****
العمل السياسي الوطني الدءوب كشجرة الزيتون ، لا تنمو سريعا لكنها تعمّر طويلا. غالبية نخبنا السياسية والعسكرية مسكونة بفيروسات مميتة ،ليس أوهنها التعجل كما ليس أشرسها شهوة السلطة. فعلى الرغم من البقاء طويلا فيما أسماه غير قليل ب(الدائرة الشريرة)، لم تعلّم التجربة نخبنا المتصارعة على النفوذ والثروة أنه من الأجدى انتهاج أداء مبهر طالما آمنوا بعظمة إنجازهم بغض النظر عمّا أذا جاء الانجاز فوزا سياسيا أو إنقلابا عسكريا . فالقائد الناجح هو من يتبع سبل النجاح أو يبتدعها حينما لا تكون مرسومةً أمامه. فالحكمة هي معرفة ما ينبغي فعله والمهارة هي معرفة كيفية فعله والنجاح هو إنجازه. ربما تتوافق هذه الرؤية مع المقولة الشيوعية المتداولة(لا ثورة دون نظرية ثورية).لكن ذلك ما حققه رجال من خارج الكوكب الشيوعي من طراز المصري مصطفى كامل ، الباكستاني محمد علي جناح، الغاني كوامي نكروما والتننزاني يوليس نايريري.
*****

نحن عند منعطفنا التاريخي الراهن نفتقد رجالا من ذلك الطراز مثلما نفتقد الرؤى الناضجة.حالنا أقرب إلى مقولة الراحل محمد احمد المحجوب (ورثة ماضٍ مجيد وسدنة حاضر مظلم وخُطّاب مستقبل مجهول).لم يملك أفضلنا قدرة على التنوير منطقا متماسكا وبراعة في التعبير ليقنع الغالبية من بنات وأبناء الشعب ان قيادات الأُطر التقليدية في المؤسسة العسكرية والأحزاب السياسية الحالية ليست مؤهلة بالكفاية اللازمة لمواكبة التطورات المتلاحقة على خارطة الوطن. نعم ثمة حلقات نور متناثرة ربما تجمع بين سياسيين، بينهم كتاب وربما مفكرون، لكن الرابط بينهم أقرب إلى وشائج الصداقة من وحدة الفكر أو البرنامج السياسي.
*****

علينا الاعتراف بأن بين هؤلاء من أدرك حقيقة ان الوطن برمته يعايش تجربة مخاض عسيرة.لكن عليهم هم الاعتراف كذلك أن بينهم من لا يستهدف فقط إخراج الشعب من ذلك المأزق بغية تحقيق انجاز وطني أو على الأقل إرضاء الشعب .بل يستهدف في المقام الأول إنتزاع مكاسب أو على الأقل نيل مكافاءات. رغم اتفاق العديد منهم على تحديد طرفي الحرب المدمرة إلا أنهم لم يبلغوا مرحلة اليقين في كيفية إطفاء نار الحرب أو على الأقل إحتواء ألسنة لهيبها. أسوأ من ذلك أمسوا أكثر انقساما في الرهان على أحد الفيلقين المتصارعين بالنار على بلوغ الخروج من تحت أنقاض الكارثة الوطنية.
*****

لعل هذا الرهان في حد ذاته يعكس مدى الغفلة.فاذا اتفقنا جميعا على إدانة طرفي الحرب بالهمجية أو العجز .فما من عاصمة تتعرض لمثل هذه الاستباحة الفاجرة على ايدي أبناء الوطن كما الخرطوم .كما نجمع على تجريم طرفي الحرب القذرة بانتهاك حقوق الاطفال والصبايا وحقوق المهجرين قسرا من بيوتهم المستلبة وتدمير بنى الدولة. فمن العوز الفكري في الحالتين الاستعانة بظالم على ظالم. فرجال الإطفاء لا يكافحون النار بالنار كما قال شكسبير. هكذا يضيف الظالمان المتقاتلان ضحية إضافية إلى ضحاياهم من نخبنا دون قتال ! المنتصر والمهزوم ومن يناصرهما في هذه الحرب المنتنة إلى الدرك الأسفل من التاريخ لا محالة .
*****

مع ذلك ليس هراءٌ ملفق كلما جاء في خطاب حميدتي الأخير بغض النظر عن حقيقة حياته أو مماته. حتى عند إثبات كثير من إعادة تدوير الكلام . فالواقع العسكري على الأرض يثبت انتشار تواجد مقاتليه في الغرب كما في الخرطوم .لكن هذه الغلبة لا تفوضه الاصرار على التباهي بالجهل حد المساواة بين (العمارة والقطية)على نحو يمنحه حق حرق الاثنتين معا و حق اقناعنا بذلك . فللقطية كساؤها الإنساني كما للعمارة بالإضافة إى ذلك كسبها التاريخي - الحضاري .لعل أبرز أعمدة ذلك الكسب جهد التحصيل العلمي والكد الإقتصادي و عرق السنين .

aloomar@gmail.com

 

آراء