بخت الرضا: لغو استعماري غيبنا عن ذاتنا

 


 

 

لي رأي قديم في أن بلاهة صفوتنا في إدارة شأنها هو غرس بخت الرضا فينا. فقام ذلك المعهد فينا على فرضية استعمارية معروفة وهي أن استعمارهم غيرهم هو استنقاذ لهم من ثقافتهم المتوحشة أو الفقيرة على أقل تقدير. فالاستعمار بعثة اقتصادية كما هو بعثة تبشيرية صدف أن كانت في عصرنا هي الترويج ل "مهمة الرجل الأبيض". فافترض تعليم بخت الرضا أن السودان خلاء ثقافي. ولذا كانت فلسفتهم من وراء تعليمنا أن يبدلونا ثقافة خيراً من ثقافتنا وأهلاً خيراً من أهلنا. وحدث تجريدنا من الثقافة في حقل القانون بصورة كافرة. فقال عبد الرحمن الخليفة إن الإنجليز شرعوا لنا لا كأمة بلا شريعة فحسب، بل أيضاً بلا أخلاق حين رآهم يبيحون البغاء وتعاطي الخمر والقمار في أثر دولة إسلامية دمرتها سنابكهم. بل وشرعوا لصراع الديكة الذي لا موضع له في إعراب السودان نقلاً حرفياً من الهند. وددت لو اعتنى عبد الرحمن الخليفة برسالته للدكتوراة القيمة بدلاً عما دوام عليه منذ نيل الرتبة في الثمانينات.
ل ف غريفث[IAA1] ، مؤسس معهد بخت الرضا في 1933، سيئ الظن جداً بثقافة السودان. فخلص من خلطته بالتلاميذ السودانيين إلى أن خلفيتهم الثقافية والبيئة قاصرة. فأقر أن للسودانيين الشماليين تقدير واسع لفن الشعر غير أنه لم تنم وسطهم فطرة للفنون النشكيلية، أو الموسيقى، أو الخزف. وقال بأن الأمر مردود إلى نظرة الإسلام الترابية للحياة، أو ربما كانت لحياة الشظف التي عاشها السودانيون. فلم ينهض منهم من يرعى وينفق على الفنون فعل الأوربيين. وقال بأنهم يتغنون غناء مبتغاهم منه هو الكلمة لا الميلودي أو اللحن. وعلى غرابة الموسيقى والرسم على السودانيين قرظ فريفث نجاح التلاميذ ممن اتصل بهم في تعلم الرسم والموسيقى على غربتهما عن بيئنهم إلى حد كبير
وهذا لغو استعماري في معن بسيط وهو أن الخواجة استباح ثقافتنا كما استباح بلادنا ليذيع عنها ما لم يتوافر على درسه ليخلص إلى ما خلص إليه عن بينة. واستغربت لمعلمين من الإسلاميين اجتمعت بهم يوماً في حديث عن بخت الرضا فوجدتهم صرعى بها يطنبون في إحسانها إحسان من جهل أنها قامت وكأن الإسلام لم يكن فينا، أو أنه كان ولكنه جفف ينبوع الفن فينا ب"ترابيته" الغبشاء.
قال قريفث في تزكية بخت الرضا إنه كان يشاهد بفخر تلاميذ مدرستها الأولية في حصص الجغرافيا يتّبعون خريطة بأيديهم ليبلغوا كنزاً مدفوناً في موضع ما. فامتن قريفث بتلك الملكة لبخت الرضا التي لولاها لما استحصلوها. وربما لم يدر أن من بين أولئك التلاميذ من نشأ في محيط بدوي يحسن قيافة الأثر وتتبع الناقة الضالة، أو المسروقة، بحرفية ونباهة. ولهم في ذلك حكايات بمثابة خوارق.
ومهما يكن فقال عبد الله الطيب إن التلاميذ، العارفين بمعالم الخريطة بحكم مواطنتهم، كانوا يبلغون الكنز بغير حاجة للخريطة. أي أنهم كانوا "يخرمون" للموضع المعروف لديهم سلفاً، ثم يكذبون في تقريرهم عن كيفية بلوغهم. والتخريم هو غاية الثقافة نختصر به الطريق للحق أو الأهداف متى أحسنا معرفة قسماته ومناحيه.
من جهة أخرى تجد أن الخواجة، متى عرف عنا غير لغوه الاستعماري، أجازنا كمخلوقات مثقفة. فروى ر ديفز الإداري الإنجليزي بشمال كردفان ومفتش قلم المخابرات لاحقاً ومؤلف "على ظهر جمل" (1957)، عن واقعة قيافة استرعت انتباهه في البادية خلص منها إلى أن أمية عرب الكبابيش لم تمنعهم من قراءة الأثر على الأرض. وهذه الأمية ما تزال موضع امتعاض الصفوة كما نرى في خطاب حميدتي. فذكر أنه اتجه مع جماعة منهم مرة جنوب غرب بلدة أم دم. فقابلتهم آثار أقدام بعض الناس على الأرض. فنظر مرافقوه من العرب في الآثار وحددوا توقيت مر أصحابها بالموضع. بل قالوا إنها لرجل وامرأه وخادمهما. فتملك ديفز العجب ولم يصدقهم. ولكنه سرعان ما وجد الثلاثة وبنفس صفات من قفا أثرهم تحت شجرة ما في الصحراء (156-157). ولا أعرف إن كان توسع في طرائق استدلال جماعة الكبابيش عليهم من آثارهم. طال عهدي بالكتاب.
لا أعرف كيف مسخنا تعليم بخت الرضا مسخا بفرضيته أننا أمة خلو من الثقافة. وصرنا مدينين له قرابة قرن لم نزد بتعليمه إلا بلاهة. ونسأل ببلاهة: أئه الحاصل علينا يا أهل الله. ونواصل
________________________________________
[IAA1]

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء