بين الإمام محمد عبده.. وتولستوي

 


 

 

مرت في الحادي عشر من الشهر الماضي الذكرى الـ 116 لرحيل رائد إصلاح الفكر الديني وداعية النهضة الإسلامية الإمام المجدّد، محمد عبده، الذي حمل راية التنوير وأعلى من شأن العقل، نافيا وجود أي سلطة دينية في الإسلام تدعي احتكار الحقيقة وامتلاك تفويض من السماء لحكم الناس على الأرض.
كان اهتمام السيد الإمام بالتواصل مع الآخر، غير المسلم، من منطلق المقاصد الدينية الأساسية والإعلاء من قيمة الإنسان بوصفه مناط الدين، واحدا من المحاور الرئيسية في مشروعه النهضوي، الذي سعى من خلاله إلى كسر الجمود الذي وسم الحضارة الإسلامية لقرون متطاولة والانطلاق إلى آفاق التجديد والمعاصرة.
وتجلى هذا الجانب المهم من فكر السيد الإمام في العديد من مواقفه الفكرية ودروسه وكتاباته، كما انعكس في الرسالة التي أرسلها للأديب الروسي ليو تولستوي بعد أن قرأ رواياته وكتابه بشأن حكم الرسول محمد.
التقى السيد الإمام مع تولستوي في العديد من الاهتمامات والمشتركات الفكرية، حيث رأى أن النهوض والإصلاح يبدأ في العقل، عن طريق محاربة الجهل، وأن تغيير المجتمع وإصلاحه يجب أن يتم بالتدريج على أسس التربية والتعليم ومواجهة الجمود والتخلف.
على ذلك الأساس بنى السيد الإمام منهجه في الإصلاح الديني حيث دعا لإصلاح التعليم في الأزهر، إذ رأى في أوضاعه حينها باعثا على الجمود والتخلف، وقد واجه حملة شرسة من بعض الشيوخ التقليديين الذين يعادون أي اتجاهات إصلاحية، حيث تحالف هؤلاء مع الخديوي عباس حلمي الثاني، الذي قرر في خاتمة المطاف نفي الإمام إلى منطقة عين شمس وتحديد إقامته.
من ناحية أخرى، فقد آمن تولستوي بأهمية العلم لإصلاح الأمم، وأسس مدرسة في قريته وهو لما يزل ابن التاسعة عشرة من العمر، وسافر لعدة دول أوروبية للاطلاع على نظمها التعليمية، فقام بتأليف كتاب أسماه "الأبجدية" أقرته الدولة في جميع مدارسها، لكنه كان في صراع دائم مع السلطة الدينية ممثلة في الكنيسة الأرثوذكسية، واتهمها بالتحالف مع القيصر ضد الشعب مما أدى لتكفيره ونبذه من الكنيسة.
واتفق السيد الإمام والأديب الروسي الكبير على أن الإنسان هو أغلى وأثمن ما في هذه الحياة، وأن الدين قد جاء ليرتقي ويسمو بنفس وعقل هذا الإنسان ليصنع الحياة ويعمرها، وقد انعكس ذلك في الرسائل المتبادلة بينهما التي بدأها الإمام برسالته التي بعث بها للأديب من بيته بعين شمس في ضواحي القاهرة بتاريخ 8 ابريل 1904 وجاء فيها:
"أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي.. لم نحظ بمعرفة شخصك ولكن لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها، ووقفك على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه وسعياً يبقى ويرقي به نفسه"."
ويبدو جليا في المقتطف أعلاه أن السيد الإمام يخاطب الأديب الروسي من موضع الأخوة والفطرة الإنسانية التي لا تفرق بين الناس بسبب مللهم وأديانهم بل تعمل على الارتقاء والنهوض بالبشرية بواسطة العلم والمعرفة بحكم أن الإنسان هو وسيلة وهدف إعمار الوجود، وهو الأمر الذي يحمله على السعي للاهتداء بأنوار الفكر وشموس الآراء التي تنتجها العقول أينما وجدت، ومهما كان مصدرها، طالما أن غايتها وثمرتها هي سعادة وتقدم ورخاء البشر.
إن إشارة السيد الإمام للإنسان (وليس المسلم) إشارة في غاية الأهمية، ذلك لأنها تؤكد قيمته المطلقة في هذا الوجود وبهذه الصفة، وهو الأمر الذي أكد عليه الخطاب القرآني "ولقد كرمنا بني آدم"، بمعنى أن التكريم للإنسان لكونه إنسانا فحسب، وليس بسبب دينه أو جنسه أو لونه، ولا شك أن العالم اليوم في أمس الحاجة لهذا النوع من الخطاب بسبب الحروب والدمار والآفات السياسية والاجتماعية التي ضربته من جراء عدم معاملة الناس كونهم بشرا فحسب.
وينتقل السيد الإمام في خطابه لصديقه الأديب ليوضح رأيه في الإبعاد الذي طال الأخير من الكنيسة، فيقول له: "وإن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو الذي سموه بالحرمان والإبعاد، فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم".
كلمات السيد الإمام أعلاه تبين بجلاء موقفه الرافض لتدخل رجال الدين في عقائد الناس الخاصة (علاقة العبد بالرب) مما يؤدي لتكفيرهم وفقا لرؤية بشرية تدعي امتلاك التفويض الإلهي لتفتيش قلوب البشر وضمائرهم، وكان تولستوي قد أوضح أن خلافه مع الكنيسة لا يعني عدم إيمانه، فقد قال في رده على رجال الدين: "أما إنكاري للكنيسة التي تدعو نفسها مسيحية فذلك صحيح لا ريب فيه، وبإنكاري لها لم أقاوم الرب، بل بالعكس إني أنكرتها لأقدر أن أخدمه بكل قوى نفسي".
أدى قرار إبعاد الأديب الروسي من الكنيسة إلى تهييج العوام ضده والتهديد بإنهاء حياته، وقد كتب موضحا الضرر الذي وقع عليه من جراء ذلك بالقول "القرار يتضمن نميمة ظاهرة لأنه حرك الناس لجلب الضرر لي. إنه كان محركا عظيما لاقتراف أعمال قبيحة كما كان منتظرا منه، لأنه حرك الناس الجهلاء والبسطاء على بغضي والهياج ضدي وتهديدي بالقتل".
وكتب تولستوي رسالة يرد فيها على رسالة السيد الإمام جاء فيها: "تلقيت خطابك الكريم الذي يفيض بالثناء علي، وأنا أبادر بالجواب عليه مؤكداً لك ما أدخله على نفسي من عظيم السرور حين جعلني على تواصل مع رجل مستنير، وإن يكن من أهل ملة غير الملة التي ولدت عليها وربيت في أحضانها، فإن دينه وديني سواء لأن المعتقدات مختلفة وهي كثيرة، ولكن ليس يوجد إلا دين واحد هو الصحيح.
وذهب الأديب الروسي في ذات مذهب التسامح الديني الذي دعا إليه السيد الإمام فهو لا يعتبر اختلاف الملل مدعاة للتعصب ورفض الآخر والقطيعة معه، وهو الأمر الذي أدى لإشعال الحروب بين أصحاب الأديان المختلفة طوال التاريخ، بل يعتبر أن الدين واحد وإن اختلفت المعتقدات، وهي لا شك نظرة عميقة تمنع التصادم والاحتكاك بين الشعوب والأمم على أساس اختلاف الملل.
ثم يواصل تولستوي رسالته فيقول: "واعتقادي أنه كلما امتلأت الأديان بالمعتقدات والأوامر والنواهي والمعجزات والخرافات تفشى أثرها في إيقاع الفرقة بين الناس، ومشت بينهم تبذر بذور العداوة والبغضاء. وبالعكس كلما نزعت إلى البساطة وخلصت من الشوائب اقتربت من الهدف المثالي الذي تسعى الإنسانية إليه، وهو اتحاد الناس جميعاً".
ولا شك أن الأديب الروسي بكلماته أعلاه يريد للأديان أن تكون يُسرا على الناس وألا تفارق النظرة العقلانية في الوقت الذي يجب أن تركز فيه على القيم العليا والمقاصد الكبرى من شاكلة الحرية والعدل والتسامح فهي الكفيلة بضمان استمرارية رسالة الدين وغايته في حفظ الإنسان باعتباره مناط التكريم في الدين.
اليوم.. وبعد بعد مرور أكثر من قرن على مراسلات السيد الإمام والأديب الروسي لا تزال القضايا التي تناولتها أقلامهما سارية حتى اليوم، تشكل تحديا أمام أتباع مختلف الأديان، حيث تتزايد موجات التكفير والعنف والقتل تحت رايات الدين، مما يؤدي لإزهاق أرواح الأبرياء والموت الجماعي دون طائل!
نقلاً عن الحرة

////////////////////////
///////////////////////////

 

 

آراء