تتجدد ينابيع الدمه بعدك: ترنيمة إلى الراحل د أحمد عبد الله أبوبكر (الفلاح)

 


 

 


abdelrmohd@hotmail.com
1
دجى ليلنا بعدك أحمد ، وأصبحت أيامنا فصولا يؤلف نظمها فقدك المر المباغت الفاجع ...لينضم اليك في ذات الاسبوع قبل أشهر شقيقك عثمان أنت في قاهرة المعز وهو في نواحي الروضة الشريفة كجوادين قررا الركض فرارا من عالمنا الماسخ الى ساحات النور الالهي الرحيبة. أشهر مرت يا أحمد ولم تمر عبر خط الهاتف ردودك الدافئة وسؤالنا كيف لا نراك وقد أكل روتين الخرطوم أيام زيارتنا الخاطفة الى الوطن ولم نراك. تساءلنا كيف لا نسمع صوتك الأحمدي النبيل ومجيؤك السار في "المغربيات" في سيارة شقيقك د الرشيد ...أنت وعوض قباني وربما صحب آخر كنت على موعد معه في مركز دندرة الثقافي بأم درمان كعادتك في اسراج مصابيح الصفاء في عالم معتم يعاني فيه الناس من الفراغ.
تجيب بأن جرثومة قررت الاستيطان في معدتك ولم يكن غيابك الا بسبب السعى الطويل نحو الأطباء لتعقب تلك الجرثومة وابعادها عن بيوت النور النبوي داخلك ومسرى المديح والذكر في شرايينك. خطر لي أن تلك الجرثومة جاءت للاستعانة بك الى تنظيفها من نوازع الشر وتحويلها الى خلايا مفيدة أساسها الاشراق والنبل والحب والابداع في فراديس اللغة العربية ورياحين المعارف الصوفية التي جللت حياتك منذ أن عرفتك صبيا صغيرا في مدرسة كورتي الوسطى في بداية الستينات.
كان فمك وقلبك النظيف نافورتين تنضحان بالجمال وأنت تخاطب الناس أو تخطب فيهم قبل أن تتكون أمشاج مركز دندرة الثقافي المحمدي قبل عقود فعلى مسرح السفرة في كورتي الوسطى وقفت يومها في توديع الفصل السابق لنا بقصيدة وشهر مارس يحل ايذانا لموسم الامتحانات ورحيل الاحبة :
يا مارس الميمون جئت بجنبنا تتهامسا
فعرفت أنك جئتنا بالذكريات وبالأسى
ويتواصل مد الشعر في وجدان الفتى النقي التقي فها هو يريني كراسته الصغيرة التي يزود منها صحيفتنا الحائطية في كورتي الثانوية بالمواد قصيدة "الكركدي "الذي كان يمقته ولكنه اذ قدمته تلك الجميلة اليه صار بالنسبة اليه شرابا جميلا وأذكر منها:
ما أنت الا كركدي قد كرهت مذاقه
وكرهت حمرته التي قد خالطت أوراقه
هذا أحمد عبد الله ابكرالملقب ب"بمصري" الذي تبدو تخرشات البرد من وضوئه على خديه كنقش سماوي في برد صحراء بيوضة القارس التي تتوسطها داخليات كورتي الوسطى. أحمد الصبي قصير القامة يجلس في كرسي أمامي في الفصل وأستاذ علي الحسين سيد احمد يستخدم قصر قامته لشرح التعابير :
Abubakre cant touch the top of the door.Why؟ Because he is too short
ويتقدم الزمن ليرى الاستاذ علي تلميذه القصير ، عالي القامة والمقام مرددا في جنبات مركزه بلا تنطع أو تطرف "الله أكبر نحن المحمديون ولله الحمد"...منظما لمحافل الحب النبوي ومنافحا لفكرة :
ومن تكن برسول الله نصرته
تهابه الأسد في الآكام والأجم.
رأى الاستاذ علي الحسين تلميذه القصير بعد عقود كاتبا واماما وباحثا وشاعرا وناثرا, فقد رحل دكتور أحمد عبد الله بعد أنجاز رسالتين دكتوراة لم تسعفه حياته القصيرة الحافلة لمناقشة احداها تركز على أمثالنا العامية ودلالتها الفكرية واللغوية في اللغة الأم ونراها مسئولية علمية لجامعة أم درمان الاسلامية أن تتولى نشرها وتوزيعها كصدقة جارية لعالم نحرير وصوفي قضى عمرها ابداعا وابتهالا.لقد خدم أحمد تلك الجامعة كباحثا وخبيرا في المكتبات وطائرا غردا في جنان اللغة والبيان .قريب الدمعة ..نقي الفؤاد ..محبا لطلابه وزملائه ..فالحا وفلاحا بعد أن ارتبط اسمه بمدارس الفلاح التي أنشأها ونازعه في ملكيتها تافهون ، وبقى الأمر بيد الله وساحات الحق والقضاء والفضيلة.

2
الراحل أحمد عبد الله (الفلاح ) رائد من رواد المنهج الدندراوي في العالم و عارف ملتزم أصيل بالوثيقة البيضاء " التي هي خلاصة الفكر الدندراوي، حيث قالوا في بدايتها: "إنها علامة رجاء في عالم يحتاج إلى رجاء"، فضلاً عن "إننا جمع يحقق مظهر تماسك بنيان مجتمع المسلمين وجوهر تلاحم نسيج أمة الإسلام، مخترقاً الحواجز الأربعة: حاجز "التغاير بالأفكار الطائفية"، وحاجز "التنافر بالفوارق الطبقية"، وحاجز "التفاخر بالعصبيات القومية"، وحاجز "التناحر بالحدود الإقليمية."
تدخل مركز دندرة الثقافي بأم درمان ، فينهال عليك جيش من المشاعر والأحاسيس. العلاقة هنا واضحة بين الكراكي الغر وجلاليب وعمائم المصلين بالمسجد ومرتاديه....مجلس بديع طاهر ...فيهو الأدب ظاهر مقطع يثب الى وجدانك وأن تخالط فئة من العارفين في المركز أميرا وعشاقا للنبي وهؤلاء تواصوا بينهم لاشعالها ثورة في البلاد تصان العهود بها والحُرم. من المركز تنطلق ثقافة الحب لتضيء مدن الوطن وقراه ، فهناك ندوة جامعة دنقلا بمروي عن الشمال ....عبق الطار بين أصالة المديح والطنبور ...ندوة أحضرها ضيفا مع الاخ د عبد المطلب الفحل ضيفين متحدثين ، قبل أن ندلف الى حيث الخيام مشرعة ودماء الكباش مراقة وسير الصالحين حاضرة وبيوت الدندراويين هناك تقدم لزوارها التمر البركاوي والقنديل وجفان كبيرة يتحدث فيها الثريد عن كرم الناس في بيت الأخ أحمد محمود وأهله في خاصرة الجبل الغامض.
هنا تتمازج المناظر والمشاعر حيث لا يلف الصمت المكان في خاصرة الجبل و في ضيافة أحمد محمود ….فتحس أن هسيس الرياح وذرات الرمال الناعمة تناديك من مكان بعيد..! وقشعريرة تسري في البدن أمام الجبل الذي يقف لاستقبال أحمد وضيوفه ليحكي عن قصص ملوك وتتويج وهناك تخف لتتقرى حجارة الأسوار وتصافح الآلهة التي تحرس المكان، وتدعوهم لحضور عرس قادم من الجنان يغني فيه حميد على مسجل العربة التي تطوي بك المكان على طريق شريان الشمال عائدا إلى الخرطوم تقاطعك من حين إلى آخر ضحكات عبد المطلب الفحل المجلجلة:
يا شعلة عز بقّت جوّاي
يا بِت العرب النوبية
يا بت النوبة العربية
بي فردة نخوة بجاوية
أو شدر الصّحوة الزِّنجية
دسيِّني من الزمن الفارغ ..
من ريح المتعة الوكتية
من شر السّاحِقْ والماحِقْ ..
روّحت اتنسّم أخبارِكْ ..
لا تشفَقْ قالو لي نصيحي !!!
وأنا عارفك ممكونة وصابرة ..
لكن لي ناس إلاّ تصيحي

3
لم تكن علامات الداء الوبيل بائنة على أحمد عند دخوله مسجد المركز في تلك الجمعة ، فكان دخوله بجلبابة الناصع ووجهه المنير وعمامته ذات العزبة الجانبية دليل عافية لي وللأخ كمال عبدالرحيم . صعد على المنبر وأدى خطبة من خطبه البليغة لكنه أفسح المجال لآخر لأداء الصلاة لإحساسه بحالة "دوران" . كان حضوره على أية حال ، حالة فرح حين تدافع المصلون للاطمئنان وأحمد جالس في الصف الأمامي يصافحهم بلطف ويسألهم سؤال العارف بأحوالهم عن أحوالهم قبل أن ننطلق لتناول الغداء في منزل كمال عبدالرحيم القريب.
قبل الخروج في عربة كمال ، كان أحمد عبد الله يرد على تحايا
المصلين بأحسن منها ويوجه بحل تلك المسألة أو تلك من مسائل المسجد أو أحوال المصلين . إنه يحدد أفكار الملتقيات الثقافية ويجدد خلايا المركز الثقافية بدعوة العلماء والشعراء والباحثين كدور طليعي يقوم به المركز في الحركة الفكرية والثقافية بالبلاد. إنني أتأمل هذا المركز كلما حللت به غالبا في زمن الدميرة. في الفضاء الشمالي غيم حنون يكتنف المكان. صف من النخل يجلل السور من الداخل ..ليس نخلا عجوزا أو هرما ولكنه في زهو الشباب يشعرك وكأنك في إحدي حارات المدينة المنورة. هناك:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ...
.سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
ففي إحدى الدعوات كنت أشارك الأحبة هناك تجربة فريدة لي في حضرة رسول الله فبعد أن طلب مني حراس المكان الانصراف غير عابئين بدمعي أمام الحضرة النبوية ، تستدعيني بلا مبرر شرطة الحرم لترسلني مع شرطي الى داخل الروضة الشريفة لأتمرغ في شجني بين روضته وقبره والحارس ينتظرني فكان عنوان الندوة" فنجان قهوة في حضرة رسول الله " ....ينتهرك الحراس ويستحثون خروجك لاستقبال آخرين فترحب بك الشرطة دون سابق معرفة وتحيطك بالقهوة العربية والتمر وتدخلك الى روضته الشريفة. في تلك الفعالية والتي كانت ضمن فعاليات عديدة درج مركز "الفلاح" على اقامتها لم يكن للحضور هتاف غير الله أكبر ...نحن المحمديون ولله الحمد" قبل أن نبدأ التجوال في مرافق المركز ثقافة وضيافة. كان أحمد بارعا في استقطاب العلماء والشعراء والباحثين لفعاليات مركزه المسائية والنهارية كجزء من مساهماته في الحركة العلمية والثقافية في البلاد
عندما تركنا المركز ، كان النخل مثقلا بعراجين التمر حينما وجه الراحل العزيز بقطع سبيطة لي وأخرى بناء على طلبي تبركا وهياما بالتمر فأنا ابن سرحته الذي غني به. وذاك استثناء أوقف ولفترة مؤقتة غناء الطير على الطلوع النضيدة وغير وجهة سرب عابر نحو المركز إلى جهة النيل ريثما يكتمل انصراف موكب العالم الإمام باختتام صلاة الجمعة في ذلك اليوم المشهود.
يرفض أحمد وهو رجل الموائد أن يستفيض في الأكل. عبدالمنعم عبد الرحيم الأستاذ الجليل في الثانويات يطيب خاطر العالم الجليل وغلى مائدة كمال الغنية في شارع السيسي بأم درمان يقدم لنا أحمد كراسة بخطه الجميل" حفريات كورتي الوسطى ...آخر مفقوسات الدجاج الحلمنتيشي" . هنا يصر العالم الجليل على أن تبقى الكراسة بحوزة كمال ليقدمها بعد طباعتها ل"العنتر" كلقب لي منذ الصغر ...للمراجعة وأحمد هنا يؤرخ للأخوة الاحياء الذين زاملهم في كورتي الوسطى . ومع أنه درس أيضا في كورتي الثانوية ، فقد خص بتلك الكراسة "قروب " كورتي الوسطي حتى انه عندما تلاها علينا ، حوّل الأستاذ عبد المنعم عبد الرحيم الريادة التي كانت معقودة لدفعته الريادة إلى دفعة أحمد عبد الله .
كراسة الحفريات ، تمثل مهارة شعرية فائقة وذاكرة عالية الجودة للراحل العزيز وتاريخا اجتماعيا للمدرسة طلابا وأساتذة وعمالا. كتبها بقافية واحدة على طولها فهو من تستريح لديه القوافي ومن تطلب منه الأحبار والاقلام صكوك التحول الى معاني ومضامين:
خمرنا خمر المعاني
عتقت من قبل آدم
ولها نحن القنان
من زمان قد تقادم
في المستشفى الصيني عندما زاره كمال عبدالرحيم ، كان بين نوبات التقيؤ التي كانت تهاجمه يقدم أبياتا إضافية لإلحاقها بالكراسة وكأن تلك الأبيات كانت في سباق مع الزمن لتسارع خطى الأقدار واقتراب الأجل المحتوم .كان لي حوارات طويلة مع أحمد لوضع خطوط عريضة لبرامج المركز منها ما ظل حبيس الخاطر حتى رحيله ومن ذلك احتشاد أغنيات الحقيبة بدلالات مشابهة للجمال النبوي فأنظر مثلا:

ياحليف الصون فلتدم في علاك
إنت زول معصوم ولا إنت ملاك
إنت بدري وكيف الخدر ظلاك
أنت كوكب نور تشتهي الأفلاك
فيك كم آيات يالحياك جلاك
منظر الساحرات ومنظر الأفلاك
ياجميل النور ماسه من عيناك
منظر الأنوار طالعة من مغناك
والشباب يترنم بي معاني غناك
والجمال الفيك عن مديح أغناك
كل معاني اليوم طالعه من معناك
تبسم الأيام لوبسمت سناك
الزهور والنور بانو في وجناك
والزي جمال الحور زيه فتو هناك
مهما أجيد أوصاف أشوفها حامله صفاك
يمثل رحيلك يا أحمد رحيل معان وقيم وروائع وتواضع جم....نظافة قلب وصفاء وجدان ....يا عاشق الصلاة والصلات أيها المبدع ..الأجدع ...الألمع ...المحمدي العالم الفذ.
رحل العالم الفذ أحمد عبد الله أبوبكر إلى دار البقاء وبقيت رسالة الدكتوراة الثانية التي دعانا قبل رحيله ووفاته لحضور مناقشتها. هو الآن بيد حكيم قدير والرسالة بيد جامعة أم درمان الإسلامية التي عشقها وخدمها فربما قام المخلصون بها بطباعتها في كتاب كاضافة نافعة إلى المكتبة العربية.
أخي أحمد.....
عليك وأنت هناك أن تواصل كتابة حفرياتك عن عالمنا الارضي. دلنا كيف أزمعت أنت وعثمان على التلاقي هناك وحدثنا عن تفاصيل اللقاء. طور لنا فكرة أمسية عن الأغنية النبوية...وصور بها على أعصابنا جمال محياه النبوي ومسكه الفواح. وربما تواصلت مع معشوقك التيجاني يوسف بشير حيث لم تجنح الى مزهرك منتزعا منه ملاحن فيها الهوى والألم وإنما سلكت طريقك باحثا عن الشفاء بمصر المؤمنة بى أهل الله...وعبر همهمات بواباتهم الندية بالذكر إلى جنة عرضها السموات والأرض.

 

آراء