تعيين عسكريين سفراء بوزارة الخارجية

 


 

 

مبدأ، وسأكون في منتهي الوضوح، فأنا ضد تعيين أي من العسكريين سواء من القوات المسلحة أو الشرطة أو جهاز الأمن. فالضابط بأي من القوات التي ذكرتها لن يتحول مطلقاً بين ليلة وضحاها، لدبلوماسي، دعك عن سفير، وكذلك الدبلوماسي لا يصلح ليصبح ضابط بأي من القوات المشار اليها، وهل سمعتم أو رأيتم تعيين أي من السفراء بعد بلوغهم سن المعاش في وظيفة عسكرية، حتي من باب الخبرة الاستشارية لمصلحة الدولة؟ ولماذا يعين ضابط في وظيفة سفير؟ ولماذا يكافأ الضابط بالتعيين في وظيفة سفير "حصراً" أصلاً؟ ولا يكافأ بقية السودانيين الذين اكتسبوا خبرات ضخمة ومتفردة في المجالات الحيوية الاخري في وظائف بالدولة بعد بلوغهم سن التقاعد؟ فوالله، أن هناك سودانيون تتكالب الدول والمنظمات الدولية والاقليمية والمؤسسات المالية الدولية علي استقطاب خبراتهم التي يرفدون بها المجالات الحيوية بقدر مذهل من التميز. وهل الوطنية والبذل والعطاء أقتصر علي الضباط فقط؟ وهذا يجب ألا يفهم بأنني لا أعترف بعطائهم الوطني في حماية الوطن والذود عنه، وتلك مهمة قدموا فيها تضحيات وطنية حسام، ويحفظ التاريخ السوداني ويشهد ويحفل بوطنية الجندي السوداني، ليس في الذود عن حياض الوطن فحسب، بل في الحرب العالمية والحروب الاخري، وقد امتدت تضحياتهم حتي المكسيك، للأورطة السودانية في فيرا كروز، وغيرها، وسجل التاريخ بسالتهم التي لا تضاهي، وكل تلك التضحيات تجد منا التقدير الكبير علي مر العهود. والقوات المسلحة السودانية التي أنشئت في عام ١٩٢٥، ولها عقيدة قتالية تقوم على أساس الدفاع عن الوطن والحفاظ على سيادته ووحدته الوطنية ونظام انضباط عسكري صارم مشهودة، و لها تاريخ ناصع في المشاركة بوحدات منها في الحرب العالمية الثانية. و تمتد كذلك لبطولة الجاويش الشهم عِوَض إدريس ذلك المحارب السوداني القديم الذي كان يتبع لرئاسة بلوك الهجانة في الأبيض والذي شارك في الحرب العالمية في ليبيا، وعندما سمع بأن ضابطاً بريطانياً برتبة برقدار قد إقتاد فتاة ليبية عنوة إلي الثكنات العسكرية وهم بإغتصابها وهي تقاوم، فما كان من الشاويش عِوَض إلا أن أخرج بندقيته وأردي الضابط البريطاني قتيلاً بثلاث طلقات، وعندما قدم لمحاكمة عسكرية، سئل عن السبب الذي دعاه لقتل الضابط، فقال وبشهامة وشجاعة لا توصف "أنا سوداني إفريقي عربي مسلم، وهذه الفتاة ليبيه إِفريقية عربية مسلمه، إذن هي أختي، وأنا لا يمكن أن أترك أن يفعل بها هذا" فقام الإنجليز بتكريمه ومنحه نيشاناً. وكرمته وزارة الدفاع السودانية!!!!

وبالنظر لما تقوم عليه منهجية وظيفتة كل من الضابط والسفير، فإن الاختلاف بائن، وجذري، فالضباط عقيدته المهنية هي التخطيط لادارة المعارك العسكرية، بينما الدبلوماسي و السفير يتربي علي مهنة تقوم علي أساس إبتداع الطرق الدبلوماسية لتجنب الاحتراب، وهذا تعاكس جذري ولا يحتاج لتفكير عميق لتبين ذلك الفرق.

و أقول أيضاً، ومن واقع تقديري وتقييمي الشخصي، لم يسبق أن نجحت أي تجربة تعيين سفير من العسكريين في وزارة الخارجية بشكل متكامل من وجهة النظر الدبلوماسية، بالعودة بالمصلحة المبتغاة وبشكل كلي للسودان؛ هذا مع تقدير لقلة محدودة من العسكريين الذين تم تعينهم في وظائف سفراء، ممن تواضعوا وسعوا لتوسيع معارفهم من بالاستفادة من خبرات السفراء والدبلوماسيين المهنيين الواسعة وتوظيفها بما يعود بالنفع في إدارة الشأن الدبلوماسي، خاصة واذا نظرنا الي أن أي تعيين في كافة العهود العسكرية التي تعاقبت علي السودان والذي جري كان هدفه التعيين في منصب السفير بالسفارات أو البعثات، وليس رئاسة الوزارة.، لأن تعيين العسكريين معني به بدرجة "واحدة" هو منصب السفير بالخارج.

وفي شأن التعيين الحديث من قبل البرهان للعسكريين في وظائف سفراء بوزارة الخارجية، وترشيح البعض منهم علي الفور كسفراء في دول الجوار، فإنني أري أنه خطل يجافي المصلحة الوطنية تماماً. بل إنه من المخزي أن يمثل الثورة بعض العسكريين كسفراء في دول الجوار، وهم أناس ورهط من ضاربي الدفوف، وبعضهم لم يفعل شيئا سوي الإطلالة القميئة عبر شاشات التلفزة العربية بالعواء، والرغاء، والنبيب بما لا يفقهون دفاعاً عن الانقلاب والانقلابين، عكفوا بتفان في تزيين الانقلاب وألبسوه حلة "التغيير للمسار كما إدعوا"، عسكريون لا يعوون معني مفاهيم الجيو-استراتيجي، ولا يفقهون البعد الجيو-سياسي للسودان، ويفتقرون لأي مؤهل لمنصب حساس كهذا؟

ولم يأتوا بشيء من الخبرة طرحوها علي مسامعنا من خبرة يدعونها، ولم يحصدوا سوي التندر من الجميع، فهل تمخضت الثورة هذا المخاض المؤلم، المدمي، لتلد فأراً؟ هؤلاء سيسممون علاقات الجوار السوداني.

هل سمع هؤلاء باتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام ١٩٦١؟ هل سمعوا باتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام ١٩٦٣؟ مبادئها، إطارها، أحكامها، وبنودها الأساس للعلاقات الدبلوماسية بين الدول؟ هل يفهمون كيف تبني العلاقات الدبلوماسية بين الدول؟ وفوق كل ذلك الممارسة الدبلوماسية.

أطلقوا علي أنفسهم في زمن الغفلة، ألقاب خبراء استراتيجيون، وصدقوا ذلك! وجلسوا أمام الكاميرات يقولون ما لا يعوون، إستسهلوا صفة الخبير وهم لا يمتون للخبرة بشيء.

يا لهوان الدبلوماسية السودانية التي بناها عمالقة الدبلوماسية السودانية المؤسسون. ومن المؤلم حداً، أن نري توارد التخلص من السفراء الذين اكتووا بوطأة الفصل التعسفي في عهد الانقاذ واعادتهم الثورة، يحالوا للمعاش بعد انقضاء اقل من عام من عودتهم المستحقة لمهنتهم التي دخلوا باقتدار "وليس بالتعيين"، وكان الاحري أن يشمل اعادة تعينهم التمديد لهم فوق السن المعاشية كتعويض مستحق لهم بعد ابعادهم لما يقارب الخمس وعشرين عاماً من مهنتهم دون جريرة ارتكبوها، بحجة "الإحالة للصالح العام"، أي صالح عام يقطع رزق عن رب أسرة من وظيفة اكتسبها بعرق جبينه؟ وأري، بأنهم هم الأحق بذلك، و أهل له؛ ليأتوا بعسكريين بلغوا السن المعاشية يتنعمون بكافة حقوق ما بعد المعاش "مدي الحياة" التي تفوق مستحقات التقاعد الاجباري لأي وظيفة أخري في الخدمة المدنية.

و أشير من وجهة نظري الشخصية، وبشيء من التخصيص، بأن مفهوم تعيين سفراء عسكريين "تحديداً" لدي دول الجوار خطأ أستراتيجي. و مفهوم الجوار، يتطلب حنكة ودراية وخبرة دبلوماسية أكثر بل وتفوق التعاطي مع بقية الدول حتي للسفراء المهنيين.

وفي عهد الثورة التي نسعي من خلالها لتصحيح أخطاء الماضي، ستقوص أرجلنا في وحل لا قبل للسودان به بتعيين العسكريين في مناصب سفراء لدي دول الجوار أو غيرها، وأعتقد، بأنه من الخطأ الفادح تعيين أي من العسكريين في منصب السفير في أي من دول العالم.

١٠ يوليو ٢٠٢٢

n.wally08@gmail.com

 

آراء