حان للقتلة ان يفهموا: أنّ زخات الرصاص لا توقف نهر الثورة ! 

 


 

 

      نقرأ تاريخ الشعوب ، فنرى أنّ أحداثاً بعينها تصبح علاماتٍ بارزةٍ في تاريخ الأمم. وكأنما صور البطولات التي سجّلها الأجداد ذات يوم دفاعاً عن حريتهم وكرامة شعوبهم ، تسري جيناتها في دماء وعصب أحفادهم من بعدهم. دعتني إلى هذا التمهيد محاولة قراءة أحداث غيّرت كثيراً في مجريات تاريخ السودان المعاصر. حاولت ربط تلك الوقائع الضخمة في تاريخ بلادنا. كل حدثٍ منها يشبه صاعقة أو انفجاراً، ليتحول مجرى التاريخ من بعده صعوداً أو هبوطاً. ثم إمّا حسب العدو أن ريح هذه الأمة قد ذهبت ، عادت أمتنا قوية مثل ريح عاتية ، أو زلزال يحتار فيه الصديق قبل العدو.

   أبدأ بتاريخ ليس ببعيد. يوم أحرق المك نمر مك الجعليين جيش الغازي اسماعيل إبن الخديوي ملك مصر عن بكرة أبيه دفاعاً عن كرامته وكرامة قومه. هزت الواقعة عرش الخديوي في مصر.. قام الدفتردار إثرها بحملته الحمقاء من كردفان حتى شندي ليحرق القرى والمدن انتقاماً لما قام به المك نمر ضد الغازي المحتل. وفي غضون قرن أو أقل من قرن يقضي ثائر سوداني آخر – محمد أحمد المهدي - على جيش الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس - بريطانيا – بقيادة هكس باشا في معركة شيكان التي وصفها أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني - وقد وقع الحدث عليهم كالصاعقة - وصفها بقوله بأنّ العالم لم يشهد - منذ أن ابتلع البحر جيش فرعون-  لم يشهد أختفاء جيش إنشقت به الأرض وابتلعته إلا الجيش البريطاني في شيكان بالسودان! لم يتوقف فوران جينات الثورة في أرحام السودانيات رغم استعادة بريطانيا للسودان إلى حظيرة مستعمراتها بعد معركة كرري التي راح ضحيتها في يوم واحد أكثر من 15 ألف محارب سوداني دفاعاً عن كرامة هذه الأمة.

   ظلت المقاومة للإستبداد مستمرة: ثورة ود حبوبة ، ثورة السلطان عجبنا سلطان النيمانج والفكي علي الميراوي في جبال النوبة، انتصار السلطان تاج الدين زعيم سلطنة المساليت على الفرنسيين في واقعتي دروتي ودرجيل في البوابة الغربية لبلادنا، والتي لولاها لأصبحت دار فور اليوم جزءاً من المستعمرات الفرانكوفونية. ثم كان استشهاد السلطان علي دينار في سفوح جبل مرة على أيدي القوات البريطانية. لم تخمد جينات الثورة عند الشعب السوداني .. ظلت تنتقل من جيل إلى جيل. فمتى أطفأ أعداء بلادنا وشعبنا لهب الثورة إلى حين ، شب الحريق من جديد وأرغم الغزاة والطغاة على الرحيل. هل أحتاج إلى التذكير بثورة 1924 بقيادة الشهيد عبد الفضيل الماظ الذي صعدت روحه وهو يحتضن مدفعه المكسيم؟ هل نقوم بتنشيط ذاكرة من ينسون تاريخ بطولات أمتهم بعبيد حاج الأمين ورهطه الذين كانوا يتغنون وهم يواجهون الحكم بالإعدام أو التأبيد ، وينشدون مرفوعي الهامات:

يا ام ضفاير قودي الرسن ** واهتفي فليحيا الوطن !

    لم تبخل أرحام السودانيات عن رفد مسيرة هذا الشعب جينات البطولات عبر تاريخه المعاصر. اشتعل الشارع في 21 أكتوبر 1964 وفي 6 أبريل 1985 وفي 19 ديسمبر 2018 ، ليطيح بثلاثة أنظمة عسكرية مستبدة. يحسب حامل البندقية دائماً أنه فوق مقدرات الشعوب. يتقمص روح من بيده قدر الناس ومصائرهم. ينفخ المستبد أوداجه ، متوهماً أن العناية الإلهية أتت به ليأمر وينهى ! المستبد لا يرى الدنيا إلا كما يصورها له خياله المريض.. لذا تكون نهاية كل طاغية أبشع مما يتصور حاشيته أو ضحاياه! في ذكرى 3 يونيو نحاول فقط تنشيط ذاكرة من أصاب ذاكرتهم الوهن. وكاد يودي بهم الإحباط.

    حسب المجلس العسكري لحفظ النظام البائد ومليشياته وهم يصوبون الرصاص الحي بوحشية إلى شباب اعتصام القيادة، ويشعلون النيران على الخيام ويمحون اللوحات الفنية من على الحائط .. حسب عسكر النظام المباد ومليشياتهم يومذاك أنهم كسبوا المعركة. نسوا  أن زخات الرصاص لا توقف اندفاع نهر الثورة. بل جهلوا فوق ذلك أن الثورة فكرة. والفكرة لا تموت! لذا ففي 30 يونيو – بعد أقل من شهر - كان هذا الشعب الأسمر يشهد العالم كله أنّ ثورة ديسمبر ولدت بأسنانها. وأنّ جينات الأجداد إشتعلت في أجساد الأحفاد ليكتب التاريخ للسودانيين فصلاً جديداً من البطولة.

     لماذا لا يفهم عسكر الأخوان المسلمين ومليشياتهم ومن لف لفهم أنّ جيلأ شابا يحمل الراية الآن قد ورث ذات جينات المك نمر وعثمان ابوبكر دقنة والسلطان عجبنا وود حبوبة والسلطان تاج الدين والماظ والقرشي وبابكر عبد الحفيط؟ لماذا لا يفهم عسكر مجلس حفظ النظام ومليشياتهم أن لجان المقاومة هم إمتداد جذوة النار التي نفخ فيها علي فضل والتاية وصلاح السنهوري وهزاع وعبد السلام كشة ومطر وقصي والقائمة تطول! لماذا يحسبون أنّ ذاكرة شعبنا غربال تتسرب عبره خيوط الماء؟ لست أدري علام كلما سمعت زعيقهم وزفيرهم تذكرت قول شاعرنا الكبير محمد مفتاح الفيتوري:

أمس قد مرّ طاغيةٌ من هنا

نافخاً بوقَه تحْت أقواسِها

وانتهى حيْثُ مَرْ !!


    ما كان الجنرال البرهان وزمرته - مذ جاءوا يستجدون الثوار ويقسمون لهم جوراً بأنهم مع الثورة - ما كانوا يحملون غير الحقد الدفين لثورة ديسمبر وفكرة الدولة المدنية التي ظلت حلماً تتوارثه الأجيال السودانية جيلاً بعد جيل. إنّ عسكر اليوم وفلولهم هم تربية نظام الإخوان المسلمين المباد. يختلفون وفلول النظام في المغنم لكنهم متفقون على هدف واحد لا حيدة عنه: القضاء على ثورة ديسمبر التي جاءت لتصنع سوداناً جديداً مختلفاً عما يتصورون.. سودان الحرية والعدالة  والمساواة.. تلك الأقانيم الثلاثة التي تمسك بمفتاح دخول بوابة العصر. لذا فقد انقسم السودان اليوم إلى معسكرين لا ثالث لهما: العسكر الإنقلابيون (جيش وشرطة ومليشيات) من جانب وفي الجانب الآخر شعب السودان في شوارعه الهادرة التي يقودها شباب احتار القتلة كيف بأعيرتهم النارية تقف حيرى أمام صدورهم العارية والهتاف الذي ما فتيء منذ 18 ديسمبر 2019 يشق عنان السماء: (حرية ، سلام وعدالة.. مدنية خيار الشعب)!!  خليق بالعسكري أن يحمي الواطن والمواطن لا أن يعطي قفاه لهذا الواجب المقدس. بل يقوم عوضاً عنه بإطلاق النار على الشباب الغض – عدة وعتاد المستقبل.. ظناً منه أن سلطة البندقية هي التي تصنع الشرعية. يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704م): "إنّ الشرطيَّ الذي يجاوزُ حدودَ سلطاتهِ، يتحوّلُ إلى لصٍّ أو قاطعِ طريق! "

    إنّ البرهان وزمرته ليسوا سوى قتلة.. ولا نحتاج لندفع بالدليل على أنهم مجرد مليشيا لا نفع يرجي من ورائهم لهذا الوطن وشعبه. كذبة ، لا يؤتمنون على موثق أو عهد. وعلى الأجاويد (الآلية الثلاثية) أن يعلموا علم اليقين أن قطار الثورة ممثلاً في الشارع الهادر منذ ثلاث سنوات قد تجاوز لعبة مشاركة العسكر في المرحلة المقبلة لبناء مجتمع مدني!


فضيلي جمّاع  - لندن

04/ 06/ 2022


fjamma16@yahoo.com

 

آراء