درب التطرف والغلو إلى أين ؟ دكتور عشاري نموذجاً

 


 

 

المتطرفون، يمنة ويساراً، يخدمون أجندة متبادلة، وهم أكثر قرباً لبعضهم البعض من حبل الوريد
فلنبدأ بهذا التمرين البسيط. ارسم خطاً مستقيماً وضع عليه علامة المنتصف. خذ كل القوى والتيارات السياسية التي تعرفها، يميناً ويساراً، وضع القوى اليمينية على يمين نقطة المنتصف بادئاً بأكثرها اعتدالاً بحيث يكون أكثرها تطرفاً في نهاية الطرف الأيمن، وكرر نفس الشيء بالنسبة للقوى اليسارية. الآن، خذ الخط المستقيم واصنع منه دائرة، ماذا تلاحظ؟ ستجد أن القوى المتطرفة التي كانت على طرفي الخط المستقيم قد أصبحت أكثر اقتراباً من بعضها البعض، بل اتحدت وأصبحت كتلة واحدة. هذا بالضبط هو حال المتطرفين سواء كانوا يمينيين أو يساريين. لقد رأينا المرحوم أحمد سليمان المحامي عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني ينتهي به الأمر عضواً في قيادة الجبهة القومية الإسلامية ومدبراً لانقلاب 30 يونيو 1989، ورأينا كيف لجأ كارلوس في نهاية الأمر إلى حضن نظام الإنقاذ، كما رأينا كيف يخدم تنظيم القاعدة أجندة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي خلقته في الأساس، وكيف تخدم حركة حماس أجندة الموساد الذي بناها وسمح لها بالانتشار.

استمعت بالأمس إلى تسجيل لدكتور عشاري محمود إنهال فيه بالشتائم والسباب والاتهامات الجائرة على المجموعة التي نظمت في الأسبوع الماضي إصدار وثيقة إعلان مباديء من قبل أكثر من 40 منظمة وهيئة ومبادرة من تجمعات المدنيين داخل وخارج السودان. التسجيل استغرق زهاء الخمسين دقيقة ولكن صافي المحتوى فيه، بعد استبعاد الإساءات الشخصية والسباب والاتهامات المكررة، قد لا يتعدى العشرة دقائق، وهو بذلك لا يعد هدراً لزمن المستمعين فقط، وإنما أيضاً هدر لطاقة المتحدث. كيل السباب وإطلاق الاتهامات بهذه الطريقة ليس أمراً جديداً على الدكتور عشاري بل أصبح علامة تجارية وسمة ثابتة لكتاباته وتسجيلاته المرئية والمسموعة، وربما كان ذلك هو العامل الرئيسي في رواج منتجه واتساع تداوله بين الناس. وفي حقيقة الأمر، فإن الدكتور عشاري لا يحتاج إلى هذا الأسلوب، بل هو يهزم قضيته بنفسه بذلك، إذ في بعض الأحيان تكون له أراء وجيهة جديرة بالنقاش ولكنها تضيع في زحام الهتر وضجيج الشتائم.

المجموعة التي أوسعها الدكتور عشاري إساءات واتهامات باطلة، هي مجموعة سعت وتسعى لتوحيد القوى المدنية في مواجهة الحرب وطرفيها من القتلة والمجرمين، بحيث تتمكن من فرض رؤية المدنيين لإيقاف الحرب واستعادة الأمن والاستقرار والسلام. هذا المسعى هو عمل سياسي واضح القصد والهدف، وهو جهد بشري قابل للنقد والتصحيح وللخطأ والصواب ولم يدع أصحابه العصمة أو الكمال. لقد تشرفت بالعمل مع هذه المجموعة عن قرب، وحضرت العديد من الاجتماعات التي دعوا لها والتي فاق حضورها في بعض الأحيان المائة وعشرين مشاركاً من داخل وخارج السودان، وشاهدت الجهد العظيم الذي يبذل في التحضير لهذه الاجتماعات وإدارتها بما يتيح التبادل الواسع للآراء والنقاش الحر الديمقراطي المثمر. هذا الجهد الذي يستهدف غاية نبيلة هي إنقاذ شعبنا وبلادنا من ويلات الحرب قد يتعرض، بالتأكيد، للنقد والتصحيح، ولكن لا يمكن بأي صورة من الصور، أن يقابل بالشتائم المقذعة والاتهامات المجانية إلا من قبيل من لهم مصلحة في استمرار الحرب.

في سيل شتائمه وإهاناته واتهاماته تلك، يصم الدكتور عشاري تلك المجموعة بأنها لا تملك أي مشروعية، وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد ما، غير أن هذه المجموعة، في حقيقة الأمر، لم تدع إطلاقاً امتلاك المشروعية، وإنما هي، وكما قالت، تعمل يومياً بأناة وصبر لتوسيع قاعدتها في اتجاه بناء جبهة مدنية واسعة لإيقاف الحرب، علماً بأنه فقط عند اكتمال بناء تلك الجبهة بصورة ديمقراطية، ستكون هي التي تمتلك الشرعية المطلوبة لتمثيل القوى المدنية السودانية. في مقابل هذا الموقف القائم على إدراك صحيح للواقع ولحقيقة أن مناهضة الحرب وإيقافها هو أولوية لا يمكنها أن تنتظر، فإن الدكتور عشاري يصر على أن المشروعية الوحيدة لأي عمل يجب أن تأتي من القواعد في السودان بالانتخابات والتصعيد من أصغر مستوى إلى المستوى الوطني، وأن ذلك ممكن وميسور حتى في أوقات الحرب. إذا كان ذلك ممكناً وبهذه السهولة، كما يدعي الدكتور عشاري، فلماذا يكتفي الآن فقط بالآذان له من على منبره في الولايات المتحدة؟ ولماذا لا يشد الرحال إلى حيث سيستقبله جيشه الجديد حامي الحمى الوطني بالورود ليشرع في تأسيس تلك المشروعية للبرنامج الذي يدعو إليه.

في تسجيله المذكور وتسجيل آخر سبقه عن حرب 15 أبريل، يتخذ دكتور عشاري موقفاً قاطعاً ممالئاً للقوات المسلحة السودانية بدون أي تحفظ ويقول ما معناه أن الجيش السوداني قد استدار 180 درجة ليصبح جيشاً وطنياً يخوض معركة الكرامة لحماية الوطن والشعب السوداني وتحريره من رجس الجنجويد. المقارنة الفاضحة التي نود التركيز عليها هنا ليست هي المقارنة بين موقف مجموعة إعلان المبادئ وموقف الدكتور عشاري، وإنما هي المقارنة بين موقفي الدكتور الدكتور عشاري نفسه من الجيش السوداني قبل الحرب وبعدها ومدى استقامة واتساق تلك المواقف.

هذا الجيش الذي يصفه الدكتور عشاري الآن بأنه قد استدار بفعل هجوم الدعم السريع عليه، ليصبح قوة وطنية هو نفسه جيش "البازنقر" وبقيادة نفس الكباشي البازنقري، الذي ألف فيه الدكتور عشاري قبل أشهر قليلة كتاباً من أكثر من مئتين وتسعين صفحة قال فيه عنه مالم يقله مالك في الخمر ولم يترك له صفحة لينقلب عليها ولا إثماً ولا جرماً لم يلصقه به. في ذلك الكتاب بين الدكتور عشاري موقفه "الاحتقاري الصارخ" من الجيش البازنقري لأنه، كما ذكر "يؤدي أكثر الأفعال دناءة وانحطاطاً ضد أهله، بما في ذلك شن العدوان ضدهم، وتقتيله لهم تقتيلا، وتعذيبه لهم، واغتصابه جنسياً قريباته، وإخفائه بالقسر عشرات المئات من الشباب والثوار ورفضه الإفصاح عن أماكن وجودهم أو عن مصائرهم" هل كانت تلك العنصرية والأفعال الإجرامية التي قام بها الجيش السوداني منذ إنشائه في عشرينات القرن الماضي ناتجة عن خصال تكوينية في هذا الجيش، كما ذكر الدكتور في كتابه، أم هي ناتجة عن علاقة القوات المسلحة بالدعم السريع الذي خرج من رحمها قبل حوالي عشرة سنوات أو يزيد قليلا؟ هل سيصبح هذا الجيش قوة وطنية وحامياً للشعب فقط لمجرد قطعه صلة الرحم بالدعم السريع، أم عندما يعاد بنائه بالكامل على أسس وعقيدة وطنية جديدة تماماً؟ وفي النهاية، من هو الذي قام بالاستدارة هنا؟ أهو الجيش السوداني (البازنقري) أم الدكتور عشاري؟

لكل ذلك، لم يكن غريباً على الإطلاق أن تجد مواقف وتسجيلات الدكتور عشاري الأخيرة ترحيباً حاراً من فلول النظام البائد وعتاة الإسلاميين، بل وقد أفرد لها أحد صحفييهم البارزين، الأستاذ عادل الباز، مقالاً باذخاً من حلقتين احتفاءً بانضمام أحد غلاة العلمانيين لجوقة التطبيل للجيش الكيزاني تحت ستار الوطنية. إن تسجيلات ومواقف الدكتور عشاري تتماهى الآن تماماً، وللأسف، مع مواقف وتصريحات زعماء الفلول وقيادات الجيش بأنه لا تفاوض "حتى ولو احترق السودان"! كما قلنا في مقدمة هذا المقال، فإن المتطرفين من اليمين واليسار يبدون للعين المجردة وكأنهما على طرفي نقيض، ولكن بالفحص الدقيق يتضح لنا أنهم أقرب لبعضهم البعض من حبل الوريد .. وأنهم في نهاية الأمر يمكن أن يصبحوا كتلة واحدة في مواجهة قوى الاعتدال .... وهذه هي نهاية درب التطرف التشدد والغلو.

abuhisham51@outlook.com

 

آراء