ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة -2- … بقلم: أحمد جبريل علي مرعي

 


 

 


gibriel47@hotmail.com


توطئة

الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.  ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).

لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.

وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.

 ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.

 لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.

ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).

وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام  وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.

وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.



المؤلف



زيارة الوفد الثقافي للاتحاد السوفيتي ورومانيا
شاركت فرقة الفنون الشعبية في محافل وفعاليات دولية وأبرزت السودان بالشكل اللائق، وكانت مثار الإشادة أينما حلت في أوروبا وأفريقيا وآسيا. لقد كانت فترة السبعينيات من القرن العشرين هي العصر الذهبي للسودان ولفرقة الفنون الشعبية بشكل خاص.

أتيحت لي فرصة لزيارة الإتحاد السوفيتي عام 1976 ضمن برنامج التبادل الثقافي. قدمت فرقة الفنون الشعبية عروضا رائعة في مسرح البولشوي الشهير  وغيره من المسارح الكثيرة في العاصمة موسكو؛ تلك المدينة المتميزة بشوارعها الواسعة جدا، وكثرة معارضها الدائمة، وعمرانها وأسواقها الرائعة، وشبكة طرقها العظيمة الممتدة تحت الأرض، ومشاريعها العمرانية الممتدة في الغابات والوديان.

كما أتيحت للوفد فرصة نادرة في موسكو لزيارة السيرك الروسي العظيم، وضريح لينين والميدان الأحمر، والمتاحف  والمسارح  والمعالم البارزة ومشاهدة الكريملين.

أذهلتنا التجربة الاشتراكية الرائعة التي أغنت كل فرد في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق فيما يتعلق بالسكن والمأكل والمشرب والزواج والتعليم والعلاج وكل ضرورات الحياة والعيش الكريم.

كما أدهشنا اهتمامهم بالأطفال اهتماما بالغا كرصيد للدولة الاشتراكية، وحث النساء على الإنجاب والإكثار منه وتخصيص جوائز للأمهات الولودات. كان تعداد النساء في الاتحاد السوفيتي آنذاك يفوق تعداد الرجال بالملايين بسبب الحرب العالمية الثانية التي قضت على معظم الرجال وأحدثت ذلك الفارق العظيم.

كان الاتحاد السوفيتي يعيش أياما زاهرة وعظمة وسؤددا حتى أن أحد أفراد وفدنا علق قائلا: (والله الجماعة ديل لو قالوا " لا إله إلا الله " لما وجدنا موطئ قدم في الجنة!!!).

وكان الإلحاد قبيحا وجرأة على الله ما بعدها جرأة!!! فقد وجدتني المرافقة أصلي العصر داخل الغرفة في فندق "راسيا" الضخم الذي يقال بأنه يتسع لأكثر من أحد عشر ألف نزيلا والقريب من الكريملين وضريح لينين والميدان الأحمر، فاستغربت وسألتني عم الذي أفعله. أجبتها بأني أصلي. فقالت: (لماذا؟). قلت: ( شكرا لله وطلبا لما عنده).  سكتت برهة ثم قالت: ( نحن لا نحتاج لمثل هذه الممارسات هنا. فقد كُفينا كل شيء). سبحان الله!!!

علق أحد أفراد الوفد على فندق (راسيا) قائلا بأن المصاعد في ذلك الفندق الضخم أشبه بالطائرة التي تكسر حاجز الصوت؛ ثم أردف قائلا: (اعملوا حسابكم، لو ضاع الواحد هنا فسيحتاج لساعات ليتم العثور عليه،هذا إذا أمكن العثور عليه).

كان الميدان الأحمر يمتد أمام ضريح لينين ( "أبو دقينة وأبو صليعة")، تلك الشخصية العظيمة التي غيرت وجه الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية البالغ عددها ستة عشر جمهورية والتي تألفت منها دولة الاتحاد السوفيتي العظمى التي كانت تحتل المركز الثالث عالميا من حيث تعداد السكان.

كانت أرضية الميدان مرصوفة من حجارة حمراء ترمز لتلك المذابح التي نفذتها جماهير البلاشفة الغاضبة على الإقطاعيين وغيرهم من أعداء الشعوب الذين سفكت دماؤهم في ذلك المكان.

صحبتنا المرافقة يوما لزيارة مجمع أسواق في موسكو. نزلنا من الحافلة قريبا من المجمع ولم يكن بيننا وبينه سوى شارع واحد فقط. تدافعنا لقطع الشارع فسمعنا صافرات من رجال شرطة المرور وحالة من الثورة لم نكن ندري سببها. طلبت منا المرافقة بهدوء النزول على درجات تؤدي إلى تحت الأرض. لم نستطع فهم الأمر بعد، وكنا مصرين على عبور الشارع. ومرة أخرى بدأت الكيتا (الصافرات).

علمنا بعد جهد أن النفق يؤدي مباشرة إلى أبواب ذلك المجمع التجاري الضخم. نزلنا فوجدنا مقاهي ودنيا لحالها تحت الأرض. تعجبنا من تلك الأمم والدول التي سعت بكل جهدها لتسهل حياة البشر فيها ونحن في العالم الثالث لا نزال في سلحفائيتنا العجيبة والكثير من الخطب من ساستنا والعنتريات والجعجعة الفارغة!!!

كانت روسيا أول دولة عظمى يشاهدها كثير من أفراد الوفد لأول مرة وكنت واحدا منهم.  لقد كانت تجربة مدهشة للغاية. وعجبنا من عمل النساء في البناء ودهان المباني وقيادة الحافلات والتاكسي والقاطرات وإدارة الفنادق ومعظم الأعمال التي لا تخطر على بال مثل عمال السكة حديد (الدريسة)!!!

كان الوفد يتكون من الأستاذ  الشاعر عزيز التوم، وعمنا الأستاذ نيكولا، والأستاذ مدثر السنهوري، والفنان الرائع عازف العود العالمي المرحوم  حمزة علاء الدين (رحمه الله)، المشهور في الغرب بحمزة الدين وقد ولد في 10/يوليو/1929 وتوفي في 22/مايو/2006 بمستشفى بأمريكا وهو عازف عود وطار نوبي عالمي عاش باليابان وإيطاليا  وأمريكا, وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة من تذكر أسمائهم. هذا بالإضافة إلى أفراد فرقة الفنون الشعبية.
 
صورة الفنان العالمي  المرحوم حمزة علاء الدين (10/يوليو/1929 - 22/مايو/2006)

توقفت مجموعة من أفراد الوفد وبدأت تنظر إلى طريقة الصرف الصحي في موسكو. فقد كانت الأمطار لا تكاد تنقطع ولكن المياه منسابة بنفس السرعة إلى مسالك الصرف الصحي. قال أحدنا: (الأمطار دي لو نزلت في الخرطوم ولا أم درمان ولا بحري لشفنا العجب العجاب من الناموس والذباب والهوام والمستنقعات والروائح العجيبة!!!)

وقال آخر يمكن أن تتسبب هذه الأمطار في سقوط بعض بيوت  الجالوص (المبنية من اللبن) والتي تشبه البسكويت عندما تلامسها المياه. ولملأنا الدنيا نعيقا وزعيقا طلبا للإغاثة من المجتمع الدولي، ولبتنا في العراء، ولتفاقمت أحوالنا الصحية كما حدث ذلك في كثير من الأحيان.

ثم ركبنا القاطرة من موسكو إلى ليننجراد حيث توالت العروض في  تلك المدينة السياحية القطبية الرائعة، مدينة "الليالي المقمرة"،حيث لا تغيب الشمس، في بعض الأشهر، إلا نادرا ما أذهلنا وكنا على وشك الاعتقاد بحلول يوم القيامة لولا تنبيه المرافقة الروسية بشأن تلك الظاهرة.

وفي لاحق الأيام وفي قلب جزيرة العرب شهدنا إحدى أكثر علامات آخر الزمان وضوحا وقرب حلول يوم القيامة بتنافس العرب في بناء الأبراج العالية. فهناك برج الفيصلية وبرج المملكة في قلب الرياض. ثم جاء برج (خليفة) في دبي كأطول برج في العالم. ولا زالت هناك مشاريع لأبراج أطول في مدينة جدة وغيرها من مدن دول الخليج العربية.

ومع تطور الاتصالات وكثرة القنوات الفضائية، في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، أطلت النساء الكاسيات العاريات، المائلات والمميلات واللائي رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، كعلامة أخرى من علامات آخر الزمان.

كما أتيحت لنا فرصة لزيارة القصور الصيفية والشتوية للقياصرة والكنائس الضخمة في ليننجراد (مدينة القديس بطرس)، ومتحف (الهيرميتاجا) المذهل، وسفينة أرورا   (Aurora)أي الفجر ومطلع العهد الجديد، التي انطلقت منها شرارة الثورة البلشفية.

ثم توالت عروض فرقة الفنون الشعبية في جمهوريات البلطيق التي استقلت الآن عن روسيا: استونيا، ولتوانيا، ولاتفيا.

بعد ذلك انطلق الوفد الثقافي السوداني بالقطار، بتنسيق بين الإتحاد السوفيتي ورومانيا، من موسكو إلى بوخارست العاصمة الرومانية مرورا بجمهورية أوكرانيا شاهدنا فيها الريف الروسي والروماني الرائع.

توقفت الفرقة في المدينة الرومانية الحدودية ياش وقدمت عروضها، ثم انتقلت إلى بوخارست، وكلوج، وتمشوارا، وبراشوف المدينة السياحية، ومعظم مدن رومانيا. كانت الخضرة على مد البصر طوال تجوالنا في رومانيا ولم نجد مكانا خاليا من المزارع المختلفة.

عجبنا كيف أن الله قد من على السودان بتلك المساحات الشاسعة الخصبة ولكن حيثما تنظر إلى الجزيرة أو الشمالية وكل المناطق التي تقع بين النيلين (الأزرق والأبيض) أو على ضفتي النيل العظيم تجد أمامك أراض جرداء قاحلة يلوي الغبار عليها مبتهجا!!!
 

 

آراء