ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة …. بقلم: أحمد جبريل علي مرعي

 


 

 

(الحلقة 4)


gibriel47@hotmail.com

توطئة

الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.  ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).

لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.

وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.

 ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.

 لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.

ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).

وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام  وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.

وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.


المؤلف

دوافع الغربة

في أواخر عهد انقلاب مايو "1969-1985" ، الذي  دبره جمال عبد الناصر "1918-1970" – رحمة الله – عن طريق إحدى خلايا الضباط الأحرار التي نثرها كالطاعون في الوطن العربي والتي جاءت بكوارث قيادية لا يزال الوطن العربي يرزح تحتها، كان السودان يعيش أياما سوداء والسودانيون ضنكا في المعيشة.

ونتيجة للقومية العربية  التي بشر بها جمال عبد الناصر، جاءت خلايا الضباط الأحرار بالمرحوم نميري في السودان، ومعمر القذافي في الجماهيرية الليبية بدل نظام السنوسي الملكي، و المرحوم أحمد الحسن البكر الذي حكم العراق منذ 1968 حتى أنقلب عليه  نائبه لاحقا صدام حسين عام 1979 ، والمرحوم عبد الله السلال الذي حكم اليمن 1962-1972 بدل الإمام اليمني  يحي الذي لاذ وأسرته بالمملكة العربية السعودية تحت رعاية المرحوم الملك فيصل، والمرحوم حافظ الأسد في سوريا، و المرحوم هواري بومدين في الجزائر والذي أطاح عام 1965 بحكومة الرمز الوطني للتحرير أحمد بن بيلا، والمرحوم سياد بري في الصومال الذي امتدت فترة حكمه من العام 1969-1991.  كان الاستثناء الوحيد هو خلية الأمراء الأحرار التي لم تفلح في قلب النظام الملكي السعودي أيام العاهل السعودي المسلم الغيور الملك فيصل، طيب الله ثراه.

استشرى الفقر والفساد بكل أنواعه، وصرفت حكومة انقلاب مايو صرفا بذخيا على الكتائب والطلائع  والمهرجانات الفاسدة التي أرهقت السودان ماليا وأخلاقيا. ونقلت حكومة مايو تجربة الاتحاد الاشتراكي المصرية (تجربة الحزب الواحد) رغم بيان فشلها في مصر، وأصرت على شغل الناس بهذا الاتحاد الاشتراكي الذي أصبح كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهر أبقى.

 ثم جاءت حكومة مايو بسلم تعليمي فاسد، عبر عرابها للتربية والتعليم المرحوم محي الدين صابر، يؤدي إلى القاع بدل المنهج البريطاني القوي الذي كان سائدا. وكنتيجة حتمية انحدر التعليم إلى مستويات متدنية، وأصبح الخريج من أي مرحلة مضطربا وأشبه بالأمي. هذا بالطبع قبل أن تقضي عليه حكومة الإنقاذ قضاء مبرما وتقيم عليه مأتما وعويلا.

الجدير بالذكر أن جيلنا يطلق على الجيل التي حضر إنقلاب مايو 1969 وهو في سن السابعة أو العاشرة، " جيل مايو ". والمعلوم أن هذا الجيل قد أسيء إليه إساءة بالغة في التعليم خاصة، ولم ينعم بما نعمت به الأجيال السابقة من رعاية واهتمام.

كانت القدرة الشرائية للجنيه السوداني حتى أواخر السبعينيات من القرن العشرين تساوى ثلاث دولارات وأكثر. ولكن ما أن حلت الثمانينيات حتى تدهور الاقتصاد السوداني بدرجة كبيرة.  وأصبح الجنيه السوداني لا يساوي شيئا وارتفع الدولار ارتفاعا خرافيا. وعقب الانتفاضة الشعبية على نظام مايو  الفاسد كانت الخزينة خاوية تماما.

يقال بأن السيد الذي أصطلح على تسميته مجازا بالسيد "عشرة في المائة (10%)" ذلك الأستاذ الجامعي ووزير شؤون الرئاسة المشهور بفساده في حكومة مايو، كان يتقاضى عن كل عقد مع جهة خارجية نسبته المعهودة فيوقع العقد ويشهد عليه سكرتيرته وأحد عمال القصر الجمهوري.

اضطر " السيد 10% " لأن يدفع محاميه (أحد وزراء  العدل في حكومة الإنقاذ) بالإضافة إلى محام آخر كبير كانا يدافعان عنه (عقب سقوط نظام مايو) لمقايضة حكومة الديمقراطية الثالثة بمبلغ خمسة وعشرون مليون دولار لقاء عدم محاكمته وعدم المساس به وعدم ورود اسمه (المعتبر والمحترم) لا في تلفاز ولا راديو ولا صحافة طوال عمره  التعيس المتبقي، فرضخت حكومة الديمقراطية الثالثة لهذه المقايضة العار نظير حفنة من الدولارات!!!

ارتفعت أسعار السلع ارتفاعا جنونيا، وانقطعت إمدادات البترول والكهرباء.  وشح حتى الماء في الصنابير (الحنفيات)، برغم الأنهار الثلاثة: النيل الأبيض والنيل الأزرق ونهر النيل العظيم.

كان الناس في  العاصمة المثلثة عامة، ومدينة الثورة بأم درمان خاصة، في حيرة بين الانتظار لساعات طويلة والمبيت في أغلب الأحيان في محطات الوقود وبين السهر في المنازل وهم يترقبون وصول الماء في الفجر حتى يتمكنوا من ملء البراميل وكل إناء متاح. كما أقدم بعض الناس على حفر مواسير المياه المدفونة عميقا تحت الأرض على أمل الحصول على الماء.

واضطر  كثير من الناس في مدينة الثورة إلى ورود نهر النيل مباشرة بشاحنات أو عربات الكارو التي تجرها الخيول والحمير. وذهبت مجموعات أخرى من البشر إلى أحياء أم درمان تسأل عن الماء.

كان عهد انقلاب مايو هو بداية انحطاط السودان في كل شيء بدءا بالسياسة والأخلاق والاقتصاد والثقافة ومناحي الحياة الاجتماعية المتعددة. فكانت هجرة معظم السودانيين في هذا العهد التعيس وتحديدا منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي. وازدادت موجات الهروب من السودان قوة في بداية الثمانينات من القرن العشرين.

تفرق السودانيون أيدي سبأ في بلاد الله الواسعة وذاقوا لأول مرة طعم الازدراء والاحتقار، وأهينت كرامتهم وصبروا، رغما عنهم، على غربة مرة كالحنظل.  وتلاشت طموحاتهم في الحصول على العيش الكريم داخل ما كان يسمى بسودان المليون ميل مربع (قبل أن تجهز عليه حكومة الإنقاذ "الإسلامية" ).

وفي أواخر عهد ما يسمى بثورة مايو ضاق السودانيون بالعيش في وطنهم المعطاء فاستهلت أعداد كبيرة منهم الهروب العظيم إلى كل أنحاء الدنيا. وكان " الأعمى شايل الكسيح " كما يقول المثل السوداني.

ولحسن الحظ كانت دول الخليج العربي تعيش بحبوحة عيش أوجدتها دولارات النفط الذي ارتفعت أسعاره في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 والتي هدد فيها الملك فيصل، عليه رحمة الله، بقطع البترول عن أوروبا.  لذا كان الخليج مقصد وهدف معظم الفارين من السودان إلا من قلة قصدت الدول الأوروبية وأمريكا وغيرها.

بدأ النظام المايوي فرض الموانع والحواجز لإعاقة خروج السودانيين ووقف نزيف الهجرة الذي أفقر السودان من معظم الكوادر المؤهلة. ولكن هيهات!!!

كنت أسكن  مدينة الثورة، الحارة الحادية عشر. وكنت موظفا " أد الدنيا" (كما يقول المصريون) في وكالة السودان للأنباء أتقاضى راتبا شهريا كبيرا مقارنة براتب الخريج الجديد في وظيفة كيو (Q) الذي كان 47 جنيها. هذا بالإضافة إلى بدلات وعلاوات أخرى . الجدير بالذكر أن الجنيه السوداني، كما ذكرت آنفا، كان في ذلك الوقت يساوي ثلاثة دولارات وأكثر قليلا.

 كان سبب  بحبوحة عيش  موظفي وكالة السودان للأنباء  أنها نجحت  في استدعاء القوات المسلحة من خارج العاصمة  في إحدى الانقلابات المضادة للجنرال جعفر نميري فأنقذته. ونتيجة لذلك كافأها الرئيس النميرى بإبقائها تحت إشرافه المباشر. فجلب إبقاء الوكالة تحت الإشراف المباشر للرئيس  نميري النعمة والرخاء على موظفي الوكالة.

ولكن إشراف الرئيس النميري شخصيا على وكالة السودان للأنباء كان نقمة  أيضا عند محاولة الهروب من الوكالة أو السودان. فقد أستصدر مدير الوكالة آنذاك السيد مصطفى أمين من الرئيس النميري قرارا موجها إلى مكتب العمل والخارجية السودانية والجهات المسئولة بعدم توثيق أي شهادات من الوكالة عندما كثر الهروب منها برغم الراتب والإغراءات الأخرى.

 وفي إحدى الأعياد التي نفد فيها الوقود، عانيت الأمرين عندما ارتفعت حرارة ابني البكر "راشد" الذي كان في عامه الأول ولم أجد مخفضا للحرارة في كل أجزخانات (صيدليات) مدينة الثورة والتي تمكنت من الوصول إليها مشيا على قدمي.  ثم انطلقت إلى أم درمان  حتى  حي (بانت)  عن طريق شارع الأربعين عسى أن أجد مرادي.  عرجت على بعض أرحامي الذين كانون يسكنون بالقرب من  قبة المرحوم الشيخ البدوي وبجوار منزل الشيخ المرحوم النيل والسيد محمد داود الخليفة  وعدت بعد ذلك عن طريق شارع الموردة إلى مدينة الثورة (بخفي حنين)!!!

كانت معظم السيارات تحتفظ في صندوقها بخرطوش (خرطوم) وجالون بلاستيك فارغ على أمل أن يجد صاحب المركبة وقودا (بنزين) في السوق السوداء  وبالسعر الفلكي الفلاني، أو في أسوأ الحالات النجدة من الآخرين بإدخال الخرطوم في خزان سياراتهم والحصول على القليل من الوقود بالشفط (الارتشاف).

كان من المألوف رؤية سيارتين تقفان بجانب بعضهما في الطريق العام لتزود إحداهما الأخرى بالبنزين، أو آخر نفد البنزين من سيارته وهو على حافة الشارع متجهما يطالع الآخرين وينتظر الإغاثة.  كما أقدم آخرون على الاحتفاظ بالصفائح (علب الصفيح) المعبأة بالبنزين، رغم خطورة حفظها في البيوت، تحرزا لأسوأ الاحتمالات.

وصلت منزلي في الساعة الثامنة مساء بعد مشاوير مارثونية بدأت منذ الساعة الثامنة صباحا وأنا لا أدري عن حال ابني شيئا.  كانت الطرقات خالية تقريبا من السيارات إلا عربات الكارو التي تجرها الخيول والحمير. حينها استقرت في ذهني فكرة مغادرة الوطن إلى أي جهة من الأرض.

صارحت زوجتي بتلك الفكرة والتي وجدت عندها قبولا وتأييدا كبيرا ولسان حالها يقول بأن الهجرة مهما كانت سيئة فلن تكون أسوأ من ذلك الوضع.

وعزز فكرتي عن الهجرة أخي وصديقي الأكاديمي العزيز المرحوم " إبراهيم هارون " الذي مر معي بتجربة مماثلة. فعند نهاية دوام جامعة الخرطوم مر بي " إبراهيم " في وكالة السودان للإنباء بسيارته الجديدة التي عاد بها لتوه من بعثة دراسية في المملكة المتحدة في طريقنا إلى مدينة الثورة.

ولما كنت وصديقي إبراهيم من مجموعة آكلات اللحوم (carnivorous) ومن الذين يجدون متعة كبيرة في أكل الشواء، قصدنا جزارة الخرطوم المركزية عصر ذلك اليوم لنأخذ شيئا من اللحم، خاصة وأن أسعار اللحوم تهبط عند العصر وقبيل المغرب حيث ينادي القصابون على الزبائن.

ابتعنا أربعة عشر كيلو جراما من اللحم " اللي يحبه قلبك ". وغادرنا الخرطوم إلى أم درمان فرحين نمني نفسينا بليلة باربكيو (شواء) فريدة.

لاحقا بت أتشاءم من الرقم أربعة عشر. فقد تسببت أربعة عشر كيلو جراما من اللحم أكلتها وصديقي عثمان ميرغني، في الرياض في المملكة العربية السعودية، في إحدى الأمسيات في إصابتي بالنقرس (داء الملوك). ويبدو أن هذا الداء، حسب اسمه، ضل طريقه إلى عامة الشعب.

عند دخول البيت أسرعنا لنضع اللحم في الثلاجة. كانت المفاجأة انقطاع الإمداد الكهربائي عن الحي كله. جلسنا في فناء المنزل مع زوجتي وبدأنا في الشواء بقليل من الفحم المتبقي. وانشغلت "هدى " بتجهيز القديد " الشرموط" ،  وهي إستراتيجية إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

اعتمدت وصديقي إبراهيم إستراتيجية الاحتياط الأكثر أمنا وسلامة. فحرصنا دائما على توفير أنبوبة غاز، وجهاز تسخين (Heater) كهربائي، وشوال (كيس) فحم كبدائل للطهي عندما يغيب أحد البدائل أو الاثنان الآخران. ولكن كانت المفاجئة دائما انقطاع وسائل الطهي الثلاث: الغاز، والكهرباء، والفحم. وهنا يسقط في أيدينا ولا ندري ماذا نفعل؟!!!
 

 

آراء