ريموند أرون ستين عام على كتاب ماركسية ماركس

 


 

طاهر عمر
4 April, 2023

 

ريموند أرون فيلسوف و مؤرخ و عالم اجتماع و اقتصادي فرنسي كان يفكر في أن يذهب الى الكتب قبل الذهاب الى الحزب فقضى ثلاثة عقود في دراسة مؤلفات ماركس الشاب منذ عام 1844 و وصل فيها الى رأي بأن ماركسية ماركس خاوية من أي فكر يجعلك أن تكون ماركسيا.
من المفارقات العجيبة بأن ريموند أرون في زمنه كان الأوسع قراءة لمؤلفات ماركس و قد شهد على ذلك كثير من الماركسيين أنفسهم حتى كانوا يسخرون بأن ألتوسير عندما يسأل عن أي مؤلف مهم عن ماركس يمكن قرأته كان يقول إقراء لريموند أرون و الكل يعرف أن ريموند كان العدو اللدود للماركسيين و يكشف بأن هناك تشويه لمقاصد ماركس و في الختام قد قال أن كل ما كان يفكر فيه ماركس لا يجعلك أن تكون ماركسيا.
في عام 1963 كرّس ريموند أرون جزء من جهده لتدريس ماركسية ماركس في جامعة السربون و كان يسخر و يقول لطلابه يمكنه تدريس ماركسية ماركس لمن لا يعرفها في خمسة دقائق أو خمسة ساعات أو في خمسة سنوات أو في خمسين سنة و لا يجد فيها من يدرسها في خمسة دقائق أم في خمسة ساعات أو في خمسة سنوات أو في خمسين سنة لا يجد فيها ما يجعله أن يكون ماركسيا و ما يهمنا من سخرية ريموند أرون هو أن الشيوعي السوداني قد أخذ على نفسه دراسة ماركسية ماركس على مدى خمسين سنة رغم أنها لا توحي للقارئ الحصيف بما يجعله أن يكون ماركسيا.
و من هنا ندعو الشيوعي السوداني أن يكف عن إضاعة زمنه في فكر لو قضيت في دراسته خمسين سنة لا تجد فيه ما يجعلك أن تكون ماركسيا بل يجعل الفرد من بينهم مشوّش كما رأينا نشاط الشيوعي السوداني في عداءه لثورة ديسمبر و خاصة بأن شعار ثورة ديسمبر شعار ليبرالي رغم أن الساحة السودانية فيما يتعلق بالفكر لا تر في الفكر الليبرالي غير رميم.
و هذا ناتج من أن أغلب المفكريين السودانيين لم يهتدوا بعد الى فكر عصر الأنوار و إلا لما ساد وسط النخب السودانية أن الشيوعي السوداني و فكره ذو علاقة بالحداثة و هذا مضحك لمن يقراء فكر ريموند أرون الذي يعرف أن ماركسية ماركس أفق يمكن تجاوزه.
بل أن الماركسية فترة عابرة نتاج نهاية الليبرالية التقليدية و قد نتجت عنها كفترة عابرة ظاهرة النازية و الشيوعية و الفاشية كتجسيد لطبيعة النظم الشمولية كما تحدثت عنها حنا أرنت و بعدها قد واصل في نقد الشيوعية و النازية ريموند أرون بعقل يدرك الخلل في فكر كل من النازية و الشيوعية كنظم شمولية بغيضة لم يدرك قبحها المثقف السوداني حتى اللحظة.
عكس فكر عقل الحداثة الذي لا يمكن تجاوزه و هنا يظهر لنا الفارق بين ريموند أرون لأنه وريث عقل الأنوار و بالتالي يستطيع أن يدرك بأن الماركسية أفق يمكن تجاوزه. ريموند أرون عكس المفكر السوداني المغرم بتقديم أيديولوجيات تزعم أنها تستطيع تقديم فكر يقدم حلول نهائية كما يتوهم الشيوعيون السودانيون حتى اللحظة في ماركسية ماركس.
ما أنقذ ريموند أرون من الغوص في وحل ماركسية ماركس لأنه كان يعرف تاريخ الحرية في القرن التاسع عشر و بالتالي يعرف في أي جانب كانت أفكار ماركس خائبة و فاشلة في أن تجسر الهوة ما بين الفلسفة المثالية الألمانية و التجريبية الانجليزية و قد طاشت مقاربات ماركس فيما يتعلق بفكر نظرية القيمة لديفيد ريكاردو.
أضف إليها بعدا جديد يتحدث عن المنفعة و مسألة الأشباع في المعادلات السلوكية للفرد و هذا الذي لم يخطر على بال ماركس و بالتالي يمكننا القول أن ريموند أرون إرتكز على فكر توكفيل و لمن لا يعرف توكفيل كان سياسيا و مفكر و عالم اجتماع يمارس السياسة في زمن كان ماركس في ثورة 1848 ضد الحكومة التي يسعى توكفيل لتطويرها و قد إقترح توكفيل تجديد فكرة إنتخاب ممثلين يؤدي لتوسيع ماعون الحرية.
قد إنتصر توكفيل على ماركس و طرد من فرنسا و من حينها كان ريموند أرون يعرف نقطة ضعف فكر ماركس مقارنة بفكر توكفيل الذي لا يحظى بدراسة عميقة وسط النخب السودانية توضح فكره في حديثه عن معنى المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و معنى صيرورة الديمقراطية و كيف أصبحت الديمقراطية بديلا للفكر الديني.
على العموم فترة وجود ماركس في فرنسا و فكره ما زال المفكريين الفرنسين يرجعون إليها و لكن بشرط قد كتبنا عنه كثيرا في مقالات سابقة أي ماركس تحت شرط الإقامة الجبرية و ليس ماركس طليقا كما هو سائد بسبب غفلة الماركسيين السودانيين.
ماركس تحت الأغلال و ليس ماركس الطليق هو ذلك المؤرخ الذي قد أثرى الفلسفة و قد أصبح مفكرا عاديا بين المفكريين و بالتالي قد أصبحت ماركسية ماركس في فرنسا أفق يمكن تجاوزه بفضل فلاسفة و مفكرين قلّ نظيرهم وسط النخب السودانية و في مقدمتهم الشيوعي السوداني المنخدع بماركسية ماركس في زمن نحتاج لمثقف غير منخدع بماركسية ماركس كما كان يصنف ريموند أرون بأنه المثقف غير المنخدع.
من المفكرين غير الغربيين نجد هشام شرابي عالم الاجتماع الفلسطيني أيضا قد أحضر ماركس في مناهجه التي يقاوم بها الأبوية المستحدثة و لكن أحضره تحت شرط الإقامة الجبرية وليس طليقا كما هو سائد عند الشيوعي السوداني المنخدع بأن الشيوعية أفق لا يمكن تجاوزه.
و بالمناسبة هشام شرابي يشترك مع ريموند أرون في معرفته بتاريخ الحرية في القرن التاسع عشر لأنه أي هشام شرابي مدرك للفرق ما بين الليبرالية التقليدية و الليبرالية الحديثة و هنا ندعو النخب السودانية الى معرفة متى و كيف و لماذا إنتهت الليبرالية التقليدية؟
و كيف و متى و لماذا بدأت الليبرالية الحديثة؟ و قطعا بعدها ستختلف طريقة مقارباتهم لكثير من الأفكار و حينها سيفارقون كساد فكري بدأ مع النخب السودانية منذ أيام أندية الخريجيين و بعدها بين أتباع مؤتمر الخريجيين. كساد فكري قد أنتج لنا مفكرا يرتضي أن يكون تقليدي في ايمانه الديني و شعائريا في أحزاب الطائفية خانع للامام و مولانا و موالي و تابع للأستاذ عند الشيوعي السوداني بدلا من أن يكون مفكر تلقائي عفوي مبتكر ناشدا سبيل الحرية و مدرك لمعادلة الحرية و العدالة.
بقى من المهم أن ألفت إنتباه القارئ السوداني الى أن حقبة تدريس ريموند أرون لماركسية ماركس تزامنت مع وجود الترابي في جامعة السربون قبل ستين عام و يزيد و لكن عليك أن تقارن الفارق بين تطوّر الترابي الفكري بعد تخرجه و قارنه بما أنجزه ريموند أرون في مجال الفكر بما يخدم تحقيق معادلة الحرية و العدالة في مجتمع يقدر الفرد.
أكيد سيبدو لك الفرق هائل بين تطور ورثة عقل الأنوار كريموند أرون و بين الترابي كمفكر تقليدي لم يستطيع الشب عن طوق ثقافة عربية إسلامية تقليدية لم تستطع حتى اللحظة أن تشارك في أعراس الحداثة.
نقول مثل هذا القول لأن محمد أركون مثل الترابي قد درس في السربون و لكن نجده في مناهجه يشبه ريموند أرون لذلك لا تستغرب أن يصف محمد أركون الترابي و فكره في كتابه الذي قد تفرغ لدعايته المحبوب عبد السلام بأن الترابي مفكر تقليدي لم يفارق إيمانه التقليدي.
في الأخير هناك ملاحظة مهمة يجب الحديث عنها و هي أن إلمام ريموند أرون بعلم الاجتماع و الفلسفة و الفكر السياسي قد مكنه من معرفة تاريخ الحرية في القرن التاسع عشر لذلك نجد ريموند أرون في تدخله عبر أفكاره قد ساهم في التغيير و خاصة أن ريموند أرون قد لاحظ نهاية الجمهورية الرابعة و الحوجة لأفكار تؤسس حولها الجمهورية الخامسة.
إلمام ريموند أرون بالفلسفة و علم الاجتماع و الفكر السياسي و الاقتصاد جعله يساهم في التغيير عكس الترابي قد جاء للسياسة من جهة القانون الدستوري و لكنه يجهل الفلسفة و علم الاجتماع و الفكر السياسي لذلك قد فشل فشلا زريع مع تلاميذه عبر حكم كيزاني امتد لثلاثة عقود.
و من هنا ننبه القارئ السوداني و نذكره بمغالطات القانونيين السودانيين و بسبب أنهم عبدة نصوص قد تأخرت بسببهم تحقيق تشريعات كبرى تلحق ثورة كبرى كثورة ديسمبر فكانوا سبب في إنهيار حكومة حمدوك.
لأن أغلب القانونيين السودانيين كانوا يظنون أن ما تركته الأنقاذ من ركام يمكن أن يطلق عليه سلطة قضائية و هم يتحدثون عن فصل السلطات كأن الإنقاذ كانت حقبة ديمقراطية.
و من هنا نقول للقارئ السوداني ما تركته الانقاذ من ركام لا يمكن ننطلق عليه مفهوم سلطة قضائية و لذلك وجب حل الجهاز القضائي الكيزاني تحت مجهر مفكريين ليس من عبدة النصوص من القانونيين السودانيين بل من قبل مفكريين مشبعيين بالفلسفة و علم الاجتماع و الفكر السياسي و تاريخ الحرية في مسيرة البشرية مثل ما أسهمت أفكار ريموند أرون في التغيير و هو قد عايش حقبة الجمهورية الرابعة و قيام الجمهورية الخامسة.
و يمتد لفت الإنتباه الى أهمية وجود المفكر الذي يكون في نفس الوقت فيلسوف و اقتصادي و عالم اجتماع و مؤرخ غير تقليدي وسط النخب السودانية و خاصة قد تأكد لنا أن زمن المثقف التقليدي و المفكر التقليدي و المؤرخ التقليدي قد أفل.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء