شيوعيون أنصار سنة

 


 

 

تحليل سياسي

 

ابوذر على الأمين ياسين

 

انقلبت فرحتي العارمة بانعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي غماً مشبوب بحزن عميق، فقد خالجتني الكثير من المشاعر والذكريات لكنها حتماً لا تشبه ما حاق بالرفاق من مشاعر فمشاعري مشاعر آخر لا ينتمي للحزب الشيوعي وعاش الكثير من وهم الصراع معه وبتفاصيل كثيرة ودقيقة، لكن ذلك الوهم ارسى في نفسي وعقلي بعد أن اجلى حقائق تقر للحزب الشيوعي بأنه الحزب الذي طور اشكال وادوات بل ومؤسسات النشاط السياسي بالبلاد حتى اقصى اليمين، وكان صاحب الباع الاكبر فيه، ورائد مداد التغيير الذي يجري بعيداً عنه وعن مساهمته فيه الآن. فقد انتهي المؤتمر الى توفيق اوضاع الحزب من بعد المؤتمر الرابع ولم يتعدى تلك الخطوة شبراً رغم العقود الاربعة وسيرة الاختفاء التي أصبحت سمته وما يعرف به. فقد غاب الحزب عن المسرح السياسي وعن الوجود برغم من فرصة المعافاة التي توفرت له ابان الديمقراطية الثالثة، وهي الفترة التي حفزتنا بأن نرى جديداً وأن نحلم بعودة الحزب الشيوعي إلى مقارعة التحديات ورفدها بالجديد المبتكر.

 

كانت الديمقراطية الثالثة بظننا الفترة التي تعافى فيها الحزب وعاد قوياً للساحة السياسية، وقد تعافي من آثار الصراع مع مايو بعد يوليو 1971م، مستفيداً من فترة الاختفاء والتخفي. وكانت كل مظاهر نشاط الحزب وقتها تدل على ذلك وبقوة. ولكن الحزب عاد إلى الاختفاء (الممنهج هذه المرة) مع قدوم الانقاذ وبشكل أوسع مما كان ابان العهد المايوي، للدرجة التي استحق فيها اسم (الحزب المختفي) كون الاختفاء الاخير ارتبط باختفاء الحزب عن الساحة السياسية ولكن المظهر الاخطر كان بروز وظهور انشقاق ثاني وسطه الامر الذي شكل مؤشراً لمراجعة اوضاع الحزب وأثار فينا شفقة على مصيره واستمراريته. فقد تعلق الانشقاق الاخير بالرؤية الايديولوجية والسياسية وما توقعنا أبداً أنها قد تقود إلى انشقاق بل إلى دفق روح جديدة تعود بالحزب الشيوعي الى رحم السياسية عالى الخصوبة مقداماً ومبادراً كما كان. لكن المسار انتهي الى ازمة لم تنتهي بذلك الانشقاق بل استمر بعدها باق وممسكاً بتلابيب الحزب يحاصره اما ان يحسم فيه أو يدفع به نحو الانمحاء ورفوف ذاكرة التاريخ. والمدهش في أمر الخلاف السياسي والفكري داخل الحزب الشيوعي أنه جاء في وقد مناسب وموات للحسم فيه، كون مسار السياسي والتحديات التي شكلها وفرضها بعد ذلك تشكل الآن أكبر تحدي للحزب الشيوعي خاصة بعد النهايات التي انتهي إليها مؤتمره الخامس.

 

اثناء جلسة افتتاح المؤتمر كانت تدهشني هتافات (عاش كفاح الطبقة العاملة) وسبب الدهشة أنه وفي عهد الانقاذ وبعد عقدين من الصعب البحث عن (القوى العاملة) ناهيك عن طبقة !!؟. خاصة وأن الواقع السياسي فرض قضايا التهميش والمهمشين ومضى بها لتتبلور وفق مشروع كامل يدعو ويؤسس لسودان جديد، وقد مضى هذا المشروع بعيداً بل أضحي المحرك لكل الافعال وردود الافعال بالساحة السياسية، للدرجة التي لم يعد أحداً يتذكر فيها طبقة عاملة أو قوى عاملة ولا حتى نقابات العمال أو الموظفين، ناهيك عن الماركسية والتمسك بها أو استصحابها وتطويرها. لكن الرفاق عادوا متمسكين بكل ما يعود للستينات وربما الخمسينات، بل عادوا أكثر تمسكاً بالماركسية رغم التهديد الذي تمثله لوضعهم داخل الحزب وكيانه ومسقبله، وعلى الساحة السياسية التي فرضت واقعاً على الأرض لا صلاح فيه لماركسية لينيية مهما تدثر الحزب وامسك بتلابيبها.

 

المفجع في النهايات التي انتهي إليها المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي أنها أظهرت أنه لا يختلف في شئ عن باقي القوى السياسية التقليدية بل هو بعد هذا المؤتمر تحديداً بدأ أقرب وأشبه بأنصار السنة منه إلى حزب الأمة، لا يحمل بين جنيه معاملاً للتغيير والتطور لا داخله ولا من حوله كما كانت سابقاً سيرته ومسيرته. فالمراكسية اللينيية أصبحت منهج (تكفير) يلفظ الرفاق خارج الحزب لمجرد الهم بالتفكير في  تغيير وتطوير الحزب والعودة به لحياة الناس وقضاياهم. للدرجة التي لم يعد الانشقاق عن الحزب هو الوسيلة بل (الرفد والطرد -  والزهد الطوعي في الحزب) أقوى وأفعل آليات التفريغ في سبيل الحفاظ على نقاء الماركسية اللينيية. وهكذا خيم غبار السرية الذي مايزال عالقاً يعمي ابصار الرفاق عن الواقع الذي سبق لهم أن كانوا رواد تغييره وتطويره بل تركوا بصماتهم على كل القوى السياسية التي تجاوزتهم الآن وعادوا عنواناً للتخلف بل ونموذجاً له، حزب لا رغبه له في المواكبة لن يكون مجدداً ولا صاحب سهم في ما يجري. حزب رضي لنفسه أن يعيش في كهف الماركسية اللينيية لا يبارحها ولا يقبل تغيرها ولا مسها بمنحرف النقاش وبدع التطور العلمي والعولمة.

 كل نقاشات الحزب الشيوعي بما فيها ما دار حول اسم الحزب وتغييره كان يعكس حجم الصراع بين التيار الذي تربى داخل الحزب على مجابهة الواقع وتحديه الخروج إليه، وتيار (الكرام البررة) مخلصي ماركس ومخلصي لييين الذين يريدون للحزب أن يكون لوحة تذكر الناس بتاريخ ماركس ولييين والاتحاد السوفيتي العظيم واحلام الشيوعية التي ستأتي كما المسيح لتخلص الناس فلا يجب تغييرها ولا المساس بها.

لم يكن ماركس ولا لينيين، بل لم تكن الماركسية اللينيية هي الهم ولا التحدي الذي يواجه الحزب الشيوعي السوداني. بل الذي يمثل التحدي الحقيقي للحزب الشيوعي السوادني اليوم هو مشروع السودان الجديد وليس الماركسية، والتحدي اليوم هو الحركة الشعبية وليس المؤتمر الوطني ولا باقي القوى السياسية. لا يبدو لي أن ما انتهي إلية المؤتمر الخامس ذو علاقة بهذه التحديات كونه لم يتعدى  تسوية اوضاع الحزب بعد المؤتمر الرابع الذي جاء نقد على رأسه طارئاً ليعود بعد اربعة عقود منتخباً ليبدأ من هنا اعادة الحزب قبل جماهيره إلى بين طاعة الماركسية اللينيية كأنما الحزب الشيوعي السوداني سيرث الاتحاد السوفتي العظيم ، وعاد يتعاطي مع التحديات وفقاً لمنطقها وطاقاته يعيش الواقع ويتبادل معه مستعيناً بخبرات الماضي لا قابعاً فيها يرجو خلاص آخر الزمان الماركس اللينيني.

 

بالنسبة لنا نحن (الاسلاميين) كان الحزب الشيوعي بمثابة ملح السياسية السودانية، فلا طعم لها دونه، فقد تأثرنا بغيابه وغشيتنا الأزمات وبتنا على مقربة ما تزال مخاطرها ماثلة تقترب بناء من متحف التاريخ والذي يبدو لي أن الحزب الشيوعي بعد المؤتمر الخامس أقرب للدخول إليه منا. كان الحزب الشيوعي هو مصدر التحدي واداة المراقبة التي تردع تمادينا وتهويمنا في الاحلام فنعود للواقع بدفع من تحديه ونتوازن رغم فساد الود وسؤ المنهج وانماط السلوك بيننا. تلك حقيقة كانت خلف فرحتي الغامرة بانعقاد المؤتمر الخامس. لكن أن ينتهي المؤتمر ليُعلن لنا حزب أنصار السنة الماركسية اللينينية وبلا افق ولا تعاطي مع تحديات الحزب الداخلية ولا تحديات الواقع السياسي الذي اضحى ضمنه الحزب الشيوعي مثل جامعة الدول العربية استبدل الشجب والادانة بالبيانات والتصريحات عازف عن الشعب والجماهير حتى بتنا نخاف أن تبرز لنا مدرسة تكفر الشعب لعدم اعترافة بالماركسية الينينية وبعض جماعات الارهاب (اليسارية) التي تتجاوز الطرد من الحزب إلى التصفية الجسدية وتتعاطي التفجيرات والعمليات الانتحارية ضد الذين يخدشون شرف الماركسية اللينية أو اسم الحزب وشهداءه.

 تلك هي سمة القوى التي كان ينافح الحزب الشيوعي ضدها، وكان بسبب ذلك أدرى بمناهجها ورؤآها الظلامية، فما باله بات اليوم يتعاطي ذات المنهج ويؤسس لذات المدرسة ضمن الحزب وداخله هل بلغ به غبش وعمي (السرية) التي طالت واستطالت إلى هذا الحد. أصبح يقدس ما كان يتعاطي ابان خلوة السرية للدرجة التي انسته ديالكتيك التاريخ وحركته التي لا تتوقف. وأن شمش كل يوم تحمل معها الجديد!؟، وأن مناهج الماضي لا تصلح لسودان خرج إليه الحزب بعد أربعين سنة. أم أن الاشخاص أولى من الافكار!؟ بل هم أهم من مؤسسة الحزب!؟، عجباً هل أنا أمام الحزب الاتحادي الديمقراطي أم الحزب الشيوعي السوداني!!!؟. ما هذا الذي يحدث؟ نهاية التاريخ للأحزاب التاريخية؟، أم بركات السودان الجديد الذي أضحي تسانمي لا يحتمل إلا الجديد المواكب ويقذف بكل الركاب الكهول إلى متحف التاريخ؟!. هذا هو الذي يجب أن يؤرق الحزب الشيوعي وكل الاحزاب التاريخية وليس الاصرار على البقاء في كهف الماركسية اللينينية وتوفيق أوضاع الحزب وتصحيح اوضاع المجاهدين الذين حافظوا عليه خلال الفترة الماضية بلا جديد وضمنوا له أن يستمر بلا تجديد ولا يهمهم شئ سوى توفيق أوضاعهم.أول المتضررين وربما المتحسرين على انعقاد المؤتمر الخامس هم اعضاء الحزب أنفسهم (لكنا والله نبقى متضررين من الدرجة الثانية)، ذلك أنهم أولاً كانوا يتطلعون ليس لتوفيق أوضاع الحزب بل إلى الدفع به إلى ساحة العمل الجماهيري كما كان عهده، بل وفوق ذلك إلى العوده به إلى قيادة النشاط السياسي مبادراً وليس منفعلاً ومكتفياً بتدبيج البيانات والتصريحات الصحفية. لكن الآن الخطر بات أكبر على الحزب نفسه فإن استمراريته باتت على المحك!، والتحديات تحيط به من داخله ومن خارجه ومن فوقه ومن تحته، لكنه يتدثر دونها بالماركسية اللينينية غير آبه لا رغبه له سوى العيش على أمجاده القديمة بلا جديد يذهب عذوبتها و تجديد يفض بكارتها. فطوبى لنا لقد بات لنا الآن تيار جديد انصار السنة الماركسية اللينينية الذين سيزيدون تعاستنا تعاسة وتبقى الاضافة الوحيدة الجديدة للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي أنه أصبح لنا تيار وقوى توازي وتواجه أنصار السنة. 

 

آراء