ضد العتمة (مشاعل في الداخل)

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
الابداع عملية شاقة ومكلفة جسديا ونفسيا، اما الابداع في بيئة معادية للابداع، فهو ابداع بطعم خاص لا يتأتي إلا لمن شغُف به ونذر حياته له وجعل سلطته مطلقة عليه. اي بقدر ما الابداع يتنفس في اجواء الحرية، بقدر ما المبدع المصقول غير حر، او يعيش تحت ضغط هواجس ابداعه وكيفية اخراجه وما يحدثه من ردة فعل بعد خروجه. ويصح ان الابداع يخاطب الذائقة الفنية ويحرك الوجدان ويستفز العقل ويمتحن المعرفة، إلا ان اهم ما يميزه هو التجاوز للعادي والعادة والممكن الي عوالم الابهار والانعتاق من القيود والانشغال بالآمال وكشف الحال والتصدي للقبح بمختلف اشكاله وتلوناته..الخ. اي باختصار هو امتداد في فضاء اللامحدود بادوات ولغة ابداعية، الشئ الذي جعل حياة المبدع وكانها حياة اضافية، تضاف للحياة الطبيعية التي تشمل الجميع. وهذه الفذلكة قد تنطبق علي حميد وغيره من المبدعين (محجوب شريف وازهري ومصطفي سيداحمد واخوانهم) بقدر انطباقها علي قول حميد ارادة القمرة البتقدر براها تضوي الضلام.
ونحن في حضرة نماذج للابداع الفني والمهني، لا نقوي إلا علي رفع حاجب الدهشة، من قدرتها علي اخراج هذا الكم من الجمال والمواقف الصلبة والعمل الجاد المثمر، وسط كل هذا البؤس والشقاء والخراب الذي خيم علي الوطن وشعبه، منذ وصول التتار الاسلامويين وإنتهاءً بالقتلة الانقلابيين بعد الثورة. والذين فرضوا منطق الهمبتة علي الثروات والفوضي علي المؤسسات، والابتذال علي السياسية، والارتزاق علي السلطة والاستباحة علي الحياة واللامبالة علي المجتمع.
وكون تسمق حالات ابداعية وكوادر مهنية وسط هذه الهرجلة والمرحلة الانحطاطية التي تمر به الدولة السودانية، فهذا يدل علي تمكن الروح الابداعية، لتفرض رسالتها وتشيع لحظات من الحبور والابتسام والامل، في امكانية تحويل فسيخ الراهن لشربات الغد المأمول. وهذا بدوره يؤكد ان السودان هو دولة (دول التنافر) وشعوب التناقضات بحق، اي كما يُخرج الافاعي السامة والذئاب الجائعة والانتهازية البغيضة، هو نفسه من تُخرج اصلاب اهله الزهور الفواحة والمواقف البطولية والناس السمحين! ولكن لسوء الحظ كانت الغلبة دائما لسيادة الاطماع وقصر النظر وقوة السلاح، حتي وصلنا نقطة استنفاد هذه السيادة اغراضها ( مرحلة الثورة) باكلافها العالية علي البلاد. وتاليا اصبحنا امام، إما وضع حد لهذا المسار باعلاء منطق العقل والمصلحة العامة التي يكسب فيها الجميع، وإما الاصرار علي العناد والسير في ذات الطريق المسدود وعاقبته الكارثية علي الجميع.
والحديث عن هذه النماذج لا يعني احتكارها للفضاء الابداعي، الذي يتعدد بتعدد الانشطة والاهتمامات وزوايا الرؤية واحتمالات التفضيلات الشخصية، ولكنه ضرب من تسليط الضوء علي جهود واعمال وانشطة، سعت ما وسعها لتجميل حياتنا وتوسيع خياراتنا وتحرير مخيلاتنا. كما انها تؤكد ان الانسان وبما يملكه من طاقات وارادات، قادر علي التغلب علي المصاعب الحياتية ومجابهة التحديات الوجودية، اذا ما احسن توظيف ما يملكه من امكانات وما تتاح له من فرص، وامتلك من الوعي ما يخلصه من الاوهام (آفات الوعي الزائف)، والاهم يبرر له الاستجابة لاكراهات الواقع واحكامه، لحين تحكُّمِه فيه، بما يسمح بتغيير الواقع المعاند، ببديل اكثر خضوع .
والنموذج الاول، هو المخرج الطيب صديق، فهذا المخرج الفنان استطاع وبما يملكه من ادوات ابداعية، اعادة انتاج اغانينيا الوطنية، بطريقة مبهرة وذات مضامين جمالية وتاريخية وثقافية. لدرجة تشعر وانت في حضرة هذا المبدع، بخليط من الدهشة والاعجاب واحاسيس متعة تخترقك دون ان تتمكن من سبر غورها او السيطرة عليها او تفسير كنهها، مهما تكررت مشاهدتها. وعموما لو كان الابداع ياسر فابداع الطيب شديد الاسر. واحتمال جزء من هذه المتعة البصرية السمعية، راجع الي ان هذه الاغاني المصورة بطريقة الفديو كليب، تم اكتشافها واعادة انتاجها ابداعيا من جديد، بمزيج خيال فني ولغة عصرية، مستفيدة من التقدم التقني، مع الاحتفاظ باصالة ومضامين النصوص. وفي هذه الجزئية الاخيرة، يمكن القول بكل اطمئنان ان المبدع الطيب صديق تجاوز عيوب الفديو كليبات التي بدأت تصيبها امراض الابتذال ونزعة الاستهلاك، ليرتقي بها الي مراقٍ جديدة، تركز علي الجوهر وتضفي لمسة جمالية ومعرفية علي تراثنا الغنائي، الغني بمصادر القيم ومكامن الجمال، لتمنحه القدرة علي المواكبة والتقبل حتي من اجيال جديدة، تغير مزاجها وطريقة تعبيرها عن ذاتها.
والحال كذلك، المخرج الطيب صديق وبادواته الابداعية نجح فيما عجز فيه السياسيون والسلطويون ورجالات الدولة، وهو كيفية توظيف منتجات الحداثة للتعاطي الابداعي سواء مع تراثنا وعاداتنا او ثرواتنا وكياناتنا، لبناء منظومة سياسية وسلطوية وادارية تلبي حاجات الانسان العصرية.
والنموذج الثاني، هو الدكتور علاء نقد، فهذا الجراح الاستشاري الشاب ينبئ بمستقبل باهر. والذي اسهم ضمن فريق طبي محلي وخارجي في اجراء عملية زرع كبد في مستشفي اب سيناء. فمن يصدق في الاحوال الراهنة وحالة التردي الشاملة التي تعم البلاد، وتلقي بكلكها علي البيئة الصحية بشكل خاص، ان يتم اجراء عملية علي هذا المستوي من التعقيدات والاحتياجات غير المتوافرة، لولا جهد الاطباء واصرارهم علي النجاح مهما كلف الامر، لدرجة الاستعانة برجال الاعمال الخيرين، الذين كالعهد بهم لم يبخلوا (محمد صالح ادريس، شركة كوفتي، تبرع ب 6 مليون دولار لبناء مركز لزراعة الكبد).
وما يثير الاعجاب في هذا الجهد العظيم، ان العملية تجاوزت مهارة الاطباء التي يتمتع بها دكتور علاء نقد وصحبه، للعمل ضمن منظومة طبية تشمل كل التخصصات من سسترات ومختبرات، بطريقة تكاملية احترافية وعلاقات احترام متبادلة. بمعني آخر، تم تجاوز التراتبية المصطنعة داخل التخصصات والمتفشية بصورة واسعة داخل المجال الطبي وبما يسمم بيئة العمل. ويبدو ان هذا الوباء تسرب للمجتمع اولا من المؤسسة العسكرية التي تكرس للتراتبية، وعمق من اثره الكيزان بعد ان اضافوا للتراتبية امتيازات مهولة، افسدت العلاقات داخل مؤسسات الدولة وبين موظفيها، لنصبح حيال تميُّز وظيفي وسياسي فاقع لونه، قسم الدولة الي دول والمؤسسة الي مؤسسات والموظفين الي طبقات!
والحال ان ما يحسب للدكتور علاء غير الابداع المهني رغم صغر سنه وحداثة تخصصه، رده الاعتبار لمهنة الطب كمهنة انسانية، وتصوره التقدمي الاجتماعي لدور المنظومة العلاجية، في توفير الخدمات العلاجية المجانية لكل المواطنين، وربط ذلك بحدوث تغيير شامل يطال بنية الدولة وطبيعة السلطة الحاكمة وعلاقتها بالمحكومين. وبالطبع مصدر الاحترام مرجعه ان رؤية وممارسة دكتور علاء، تاتي في وقت تمت فيه رسملة الخدمات الطبية، ونزوعها للجشع والتجرد حتي من الاعراف المجتمعية (احتجاز الجثث في المستشفيات لحين الدفع)! ودونما مراعاة للحالة الاقتصادية البائسة التي يتقاسمها المعدمون في الداخل. لدرجة ان الدعاء بستر العافية اصبح الغالب علي شفاه المواطنين المعرضون لاخطار المرض والحوادث. ومؤكد ان النصيب الاكبر من المسؤولية يقع علي عاتق فلسفة وحكم الاسلامويين، الذين سلعوا الخدمات العلاجية كجزء من سعار تسليع كل الاشياء وتقييمها ماديا وتسييلها نقديا، ومن ثمَّ توظيفها لمصلحتهم، وهم من بشرنا بتزكية النفس والانشغال بامر المسلمين؟!
وعموما اذا كان محركا الثورة السودانية هما الوعي والتغيير، فنموذج دكتور علاء هو ثورة داخل الثورة، اي كشعار وتطبيق من داخل التخصص وفي الفضاء العام، وهو ما يحتاج تمثله في بقية الكيانات المهنية، وعلي الاخص الرموز التي تتصدرها. والمحصلة، ليس هنالك فرصة لنهوض تخصص او كيان او مؤسسة او حزب او حتي نادٍ رياضي، دون الاخريات او بمعزل عنها، فالتغيير والتطور اما ان يكون شامل للجميع وعابر للتخصصات والحقول والانشطة المحتلفة، وإلا اصبح مشلول وفقد اثره وتاثيره المطلوب.
النموذج الثالث، من مجال الاعلام او الاذاعة المرئية اذا صح ذلك، والمقصود الاعلامي حسام محي الدين، الذي يقدم برنامج سودان جديد علي اذاعة هلا 96، ويعاد تقديمه علي قناة سودان بكرة، وهي للحق مصدرنا الذي نستعين به، والذي بدوره يشكل منفذ للوطن بعيون الثورة، وتجربة ابداعية تستحق الاشادة.
فبرنامج سودان جديد الذي يقدمه حسام، يقدم وجبة دسمة وهو يستضيف قامات فكرية وسياسية واعلامية، يربط بينها المامها واهتمامها بمجريات الاحداث، رغم تنوع مرجعياتها. الشئ الذي يسهم في تقديم اضافة نوعية للمستمعين والمشاهدين. وصحيح ان البرنامج الناجح لابد ان تتكامل عناصر نجاحه، من اعدد جيد واختيار موفق ...الخ، ولكن ما يميز هذا البرنامج ويمنحه النجاح، هي بساطته ومهارة تقديمه، وهذا يرجع بشكل اساس لقدرات ومواهب الاستاذ حسام، وطريقته المميزة في اجراء الحوار والالمام بالموضوع، وكذلك الاسئلة والتعقيب المناسب في الاوقات المناسبة، مع ترك مساحة للضيف لاخراج ما عنده دون مقاطعة تشوش عليه او تخل بالفكرة او تربك المستمع/المشاهد، إلا اذا اقتضت الضرورة ذلك، ولكن بكل كياسة.
وعلي المستوي الشخصي اكثر ما يعجبني في حسام، هي التلقائية والبساطة والحضور، لدرجة تشعر وكان البرنامج حوار بين اصدقاء داخل منزلك. وحلقات ماهر ابو الجوخ تحديدا، تثير البهجة والحماس بخروجه عن النص وانفعاله الثوري الصادق، وخلطه بين الصداقة والاعلام والمهنية في بوتقة رائعة، تشبه روعة صاحبها ماهر وصديقه حسام.
وما يجمع بين هذه الرموز الابداعية، هو تحديها للظروف المستحيلة والبيئة الطاردة للابداع، وانجازها رغما عن ذلك، اعمالا ابداعية، كل في مجاله. وهذا بدوره يدل ليس علي وجود الامل لتغيير الواقع البائس الذي نقبع فيه، ومجابهة التحديات الجسام التي تقف لنا بالمرصاد حتي نتمكن من العبور الآمن، ولكن تحويل هذه الظروف الطاردة والتحديات المستحيلة، الي انجازات تسر الانظار وتخلب الالباب. وان ما نحتاجه لتحقيق ذلك، ليس الكثير من السياسة او السلطة او الثروة ولا حتي الثورة، ولكن القليل من الابداع.
وفي هذا السياق لا يمكن صرف الانتباه عن اكبر ثورة ابداعية تمر علي بلاد الثورات السودانية، وذلك سواء في سلميتها او فنونها او شعاراتها او استمراريتها او سخاءها في تقديم التضحيات. ولكن ما ينتظر هذه الثورة مرحلة ما بعد الابداع. وهي كما يري البعض ليس انغماسها في السياسة ومزالق السلطة، ولكن احداث القطيعة الحقيقية مع تاريخ الخيبات السياسية والفشل والسلطوي الذي لازمنا منذ الاستقلال. والمقصود إنهاء حالة الهوس بالسياسة كمقدمة للهوس بالسلطة. وهو ما يستوجب التعاطي مع السياسة، فقط كمساحة توفر فرص افضل للحياة، وليس انابة عن الحياة. بمعني ان لا تتحول السياسة الي هم شامل يطغي علي بقية الهموم ويقمع بقية الطاقات والانشطة. وهو ما ثبت عمليا مضاره علي السياسة اولا وعلي عدم استقرار السلطة ثانيا وعلي التدهور المطرد الذي وسم الدولة ثالثا. وعليه، تصبح افضل الادوار للجان المقاومة والفاعلين الثوريين، ليس الانغماس في السياسة، ولكن مراقبة السياسيين ومنعهم من الانحراف واجبارهم علي سلك الطريق المستقيم (ترشيد السياسة وضبط السلطة). والاهم التركيز عمليا علي عمليات التنظيم والادارة وانشطة العمل والانتاج والتطوع.
والحال كذلك، ما يواجه الدولة الآن وظل يلازمها منذ الميلاد الحديث، هو مصادرة مصيرها بواسطة اقلية انقلابية درجت علي استغلال السلطة لخدمة مطامعها الخاصة ومصالح حماتها. وهو ما تحول الي ثقافة استبدادية راسخة، تولت كبرها المؤسسة العسكرية، واضيف لها لاحقا مليشيات قبلية وحركات مسلحة ترغب في سلوك ذات الدرب. اي ما ظل يواجهنا راهنا وسابقا، هو تحدي التحرير والتنمية في آن. وحل هذه المعضلة هو ما يحتاج لابداع ما بعد الابداع، اي انجازه باقل قدر من التكاليف المادية والمعنوية واهدار الانفس والطاقات والفرص والزمن. ورغم بغض مصطلح التسوية بعد ما تعرض له من غدر وخيانة العسكر، وتساهل وتفريط قوي الحرية والتغيير، إلا انه يظل افضل الوسائل واقلاها كلفة وابداع من وجه نظري. ولكن يصبح السؤال هل الاشكال في التسوية ام في استغلال التسوية لمآرب اخري؟ وهنا دور لجان المقاومة كضامن لاي تسوية يتم اجراءها. وهذا ما يتطلب انفتاح هذه اللجان علي الحلول السلمية، بقدر انفتاحها علي الثورة السلمية. وكما ظل يعبر الاستاذ الرائع محمد عبدالماجد كل الطرق تؤدي للمدنية. فقط المطلوب وضعها كهدف استراتيجي وتنويع وسائل الوصول، وبما يناسب نوع العقبات وطبيعة (مصالح ومخاوف) من يعترض طريق الوصول (المؤسسة العسكرية ومليشياتها).
واخيرا
وطالما الحديث عن المبدعين في الداخل، فمؤكد ان رجل الاعمال اسامة داوود من رجال الاعمال المبدعين، غض النظر عن الراي الشخصي فيه، وذلك سواء من ناحية المنظومة والاساليب الادارية الحديثة التي يعمل بها، او من ناحية ابتكاراته لصناعات ومنتجات تلاءم البيئة المحلية، او من ناحية تنويع وتوسيع انشطته التجارية. ولكن ما لا يمكن اغفاله مصادر امواله، واثر علاقاته المشبوهة مع نظام الانقاذ السابق في تطوير ودعم اعماله واستثماراته، والاسوأ من ذلك علاقته المريبة مع محمد بن زائد كاكبر عدو للثورات العربية، واحقر مستغل لموارد وثروات البلاد الثائرة، باستخدام احط واخطر الوسائل (المليشيات المسلحة). وكل ذلك لدعم استثماراته واعماله المستقبلية دون المرور بالقنوات الشرعية وتحت شمس الشفافية (اي ضريبة النجاح المستحق، هي توافر شروط المنافسة العادلة وعدم الاستعانة بفساد الحكام).
ولكن ذلك لا يمنع تقديم مقترح للسيد اسامة داوود، بالتفكير في صناعة مشروب الشربوت المحلي بصورة تجارية بعد اجراء بعض التجارب والتحسينات واضافة قليل من المنكهات بما يجعله اكثر قبول ورواج. فهكذا جهد له عدة مزايا منها، اولا، تقديم اكبر خدمة لمنتجي التمور في الشمال، مما يساهم في تطوير وزيادة اساليب الانتاج عبر دعمها علميا وماديا وتقنيا، وكذلك يجنب المنتجين مخاطر التسويق واستغلال التجار وتدهور الاسعار، والمضاربة من اي جهات تستهدف اهم منشط زراعي وداعم اقتصادي لابناء الشمالية. وثانيا، هو مشروب صحي او ذو قيمة غذائية تفوق المياه الغازية. وثالثا، ككل نشاط صناعي له جوانب اقتصادية وتجارية، كخلق فرص للعمل والاستقرار الاجتماعي، خصوصا اذا ما تم انشاء المصنع في الشمالية (موقع الانتاج). ورابعا، مخلفات هذه الصناعة نفسها يمكن ان تستخدم كاعلاف تقدم للحيوانات. وخامسا، هو مشروب ديمقراطي يتناوله من (يشربون) ومن (لا يشربون)، فقط السلفيون يمتنعون. ودمتم في رعاية الله.

///////////////////////

 

آراء