عبدالفتاح البرهان (الحاكم بأمره) وجاذبية نظريات المؤامرة!.

 


 

 

ثلاثة أشهر على قيام البرهان بقلب الطاولة على الجميع، ولكنه منذ ذلك الحين لم يفعل شيئا سوى الاستواء فوقها يخطب في الناس. ثلاثة أشهر وصلت فيها البلاد إلى حالة اختناق حقيقية تجسدت في مستويات عدة. البرهان فعل ما فعل ثم لم يعد يعرف لاحقا ماذا يفعل. انقلب الرجل على الدستور وعلى مشهد سياسي بائس فتفاءل حمقى كثيرون خيرا، جرفهم توقُهم الشديد للتغيير فلم يتوقف معظمهم عند خرق البرهان للدستور واستحواذه على كل السلطات بلا حسيب ولا رقيب. قرر وحده ما الذي يُبقى من الدستور وما الذي يُلغي، مع أنه في مكالمته الأخيرة مع وزير الخارجية الأمريكية قال إن (الوثيقة الدستورية لم تعلّق بل تم فقط تجميد بعض موادها) فلم نعد نعرف ماذا نصدق ما يقال للسودانيين أم ما يقال للخارج؟!
إحدى أكثر النكات سماجة في التاريخ البشري، والبقري، هي أن البيان الأول الذي أصدره العميد عمر البشير لتبرير انقلابه في الثلاثين من يونيو 1989 ضد الحكومة المدنية المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي، تضمن انتقادا لارتفاع التضخم وغلاء الأسعار. ولكن أحدا لم يسأل ما الذي جعل البشير خبيرا اقتصاديا إلى ذلك الحد؟ كما لم يسأله أحد لماذا بقي في السلطة 30 عاما بينما تضاعف التضخم العشرات من المرات؟
لا أعرف ما هي كلية العلوم السياسية التي تخرج منها البرهان، ولكن لو عاد المرء ليقرأ نص البيان الذي أصدره البشير في ذلك اليوم المشؤوم، لوجد أن اللغة التي استخدمها البرهان في انقلابه يوم 25أكتوبر 2021، تستند إلى التبريرات والأساطير التي تقول إن الجيش، ولا أحد سواه، هو راعي الديمقراطية، وهو أمها وأبوها، وإنه لا مستقبل للسودان من دون أن يكون للجيش دور في حماية (فاطنة السمحة).
الدولة الآن هي البرهان والبرهان هو الدولة هذا أصدق ما يمكن أن يقوله أحد السودانيين للتعبير عن طبيعة المرحلة الحالية منذ أن قرر قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في 25 سبتمبر إسقاط الحكومة الانتقالية والانقلاب على الوثيقة الدستورية الصادرة عام 2019 ، مانحا نفسه سلطة الحكم بمراسيم لا شرعية وغير دستورية ولا تستند الى اي مرجعية قانونية اللهم الا قوة السلاح وذلك من إقدامه على عزل رئيس الوزراء وتعليق عمل دولاب الدولة السودانية وتولي مهام السلطة التنفيذية والتشريعية وحتى القضائية.
وصف يعيد إلى الأذهان المقولة الشهيرة المنسوبة للملك الفرنسي (لويس الرابع عشر) الذي حكم فرنسا بين 1661- 1715 والملقب بـ (الملك الشمس) حين قال: (الدولة هي أنا) حتى غدت مثلا شائعا للتعبير عن الافراط في الاستبداد. وإذا كان التاريخ العربي يحيلنا إلى من عرف باسم (الحاكم بأمر الله) الخليفة الفاطمي السادس الذي حكم من 996 إلى1021، فإن البرهان يجوز أن نطلق عليه دون تجن (الحاكم بأمره).
البرهان لم يكتف بسن وتفصيل المراسيم وحدها بل تفصيلها على مزاجه الشخصي، فأبقى على ما يريد ورمى بغيره، وإنما احتكر لنفسه أيضا تعديل الدستور والقانون وخاصة المادة المتعلقة بقانون الطوارئ ، البرهان اذا استمر هكذا سيتولى وسيغير النظام السياسي للبلاد. يحدث كل ذلك ودون وجود أية هيئة رقابية على ما سيفعله ودون إمكانية للطعن في أي مرسوم يمكن أن يصدره مع أن الله وحده سبحانه من لا معقّب لكلماته.
أما المجالات التي يمكن أن يفتي فيها بمفرده، وتصدر كقوانين باتة ونهائية، فقائمتها طويلة من الخدمة العامة والصحة والثقافة والاعلام والبيئة والجيش والأمن والمعاهدات الدولية والأحزاب والجمعيات والنقابات والقضاء والانتخابات والجنايات والضرائب والأداءات وحتى تعيين السفراء والمستشاريين بالخارجية يتحكم فيها ، بمعنى كل مناحي الحياة في البلاد تقريبا، حتى أن البعض علق ساخرا ما إذا كان العلم الوطني والنشيد الرسمي سيبقيان على حالهما أم لا.
واضح الآن أن الأمر لم يعد يتعلق بموضوع اجراءات تصحيحية للفترة الانتقالية كما يزعم الحاكم بأمره بل الأمر الآن يستوجب التصدي لـ (خطر داهم) يهدد الدولة، يجب وضع حد لحالة الفوضى والتسيب والفساد وانعدام المسؤولية التي تسببت فيها منظومة أو مؤسسة سودانية غير سياسية في ظل غياب حكومة معزولة بالقوة ومجلس سيادي (أراجوز) وبرلمان يسكن العنكبوت قاعاته ، تصرفات البرهان تثبت رغبته الجامحة للحكم الفردي.
كل ذلك شكّل صدمة لكل من توهّم أن ما قام به البرهان ليلة 25 اكتوبر من العام الماضي من حل الحكومة وتعليق صلاحيات رئيس الوزراء وتجميد العمل بالوثيقة الدستورية وفرض حالة الطواريء بالبلاد إنما جاء لمصلحة وطنية ضاغطة غفرت له تعسفه البيّن في اللجوء إلى حل الأزمة السياسية والأمنية الضاربة بالبلاد الآن . لقد أفاق كثير من هؤلاء الآن، وليس الجميع، على أن ذلك كان بعض الحق الذي يراد به كل الباطل.
لا شك في أن الوضع السابق كان مزريا ساهم كثيرون في مزيد تعفينه، ولا شك كذلك أن قوى الحرية والتغيير لم تنجح في شيء ، نجاحها في تأليب الناس ضدها بسبب انتهازيتها وحرصها على البقاء في الحكم، مهما كان الثمن. لقد انزلقت هذه القوى تدريجيا في نفس الممارسات الحزبية غير المسوؤلة من سوء تصرف ومحسوبيات ووضع اليد مع لوبيات الفساد وباروناته، ورفضهم وتجاهله للأصوات الداعية للإصلاح وتجاهلهم لتكوين مجلس النواب(البرلمان) واكمال بقية مؤسسات الانتقال وغير ذلك كثير، وكل ما سبق يفسر في البداية تهليل الكثير من السودانيين الحمقى ابتهاجا بالتخلص من قوى الحرية والتغيير هذه الرموز المكروهة للغاية الآن من قبل الشارع.
هذا الوضع انعكس الآن حتى على المشهد السياسي الحالي في البلاد فالمخاوف الجمّة التي أثارتها خطوات الانقلاب يجب أن تجعل معظم الأحزاب والقوى الثورية تعدل عقارب ساعاتها، إلا القلة ممن أعمى الكره الأيديولوجي قلوبهم وعقولهم. ومع أن عددا من الأحزاب أصدرت بيانات منفردة ومشتركة وصلت حد اتهام البرهان بأنه حاليا (فاقدا للشرعية) وكذلك إلى إنشاء تنسيقيات للتصدي لتطلعاته المخيفة في الانفراد بالسلطة إلا أنها ليست مستعدة، الآن على الأقل، لوضع اليد مع لجان المقاومة لوحدة القوى الثورية.
المطمئن نسبيا أن المجتمع المدني السوداني بدأ يستفيق ويتحرك، بعد مرحلة من الانتظار والضبابية وفقدان الثقة والأمل في البرهان، فنزل الناس إلى الشارع في المواكب وزادت جفرافية التظاهرات والمرجح احتجاجية اكبر كما قد تشهد المزيد من الزخم في المستقبل، كما شرعت الكثير من المؤسسات كالقضاء والنيابة ومنظمات المجتمع المدني في إصدار البيانات المشتركة المحذرة من مخاطر الانقلاب والمحاولة لشرعنة وتثبيت قواعد الحكم الفردي المطلق وويلاته في بلد تآمر عليه كثيرون، من الداخل والخارج، لإجهاض ثورته المتميزة المستمرة رغم كل العثرات. ومع أن تجمع المهنيين السودانيين بات أكثر انتقادا وحدة في بياناته المعارضة للانقلاب والداعية لاسقاطه وتسليم السلطة كاملة للشعب بعد فترة من المهادنة إلا أن تحرّكه الحقيقي في الشارع مع لجان المقاومة وبقية القوى المدنية المعارضة للانقلاب ملحوظ وينبغي عليه التركيز الشديد ولعب الدور الأهم لإحباط أي نزعة استبدادية أو محاولة للتقسيم ،لكن المؤكد أن الشارع وحده هو الذي سيكون اقوى طرف في القوى الرافضة مع قطاعات رمزية وازنة كالقضاة والمحامين وغيرهم.
أما أقوى المناهضين لقائد الانقلاب البرهان فيبقى بلا جدال هو الوضع الاقتصادي الذي بات بعض الخبراء يخشون عليه من مصير لبنان ، فعندما يصطدم الناس أكثر فأكثر بمزيد من التردي في المستوى المعيشي كارتفاع معدل التضخم وارتفاع الأسعار سيدركون وقتها أنه ليس بالانقلابات ولا بالشعارات والكلام الفارغ يعالج الاقتصاد أو يتم التصدي للفساد. كل الأمل أن يدرك الجميع ذلك سريعا دون أن تضطر البلاد إلى دفع ثمن غال كهذا. الشعب السوداني هو الخاسر الأول في كل ما جرى ويجري، فلا هو يريد العودة إلى الوضع السائد قبل 25 اكتوبر، سواء بشخوصه أو أحزابه ، ولا هو وجد ضالته في البرهان الذي صفق له البعض منهم فإذا به يريد أخذهم إلى خيارات وسيناريوهات لم تكن يوما همّهم ولا مبتغاهم. هذا الشعب، الذي يبحث عن العمل والعيش الكريم والأسعار المناسبة والخدمات المحترمة والتعليم الجيد والذي يريد كذلك استعادة هيبة الدولة والأمن ومقاومة كل أشكال الفساد والمحسوبية وانعدام العدل في مشاريع التنمية بين الجهات والفئات، يقف اليوم وقد خاب ظنه، في السابق واللاحق، حتى كاد يكفر بالسياسة والسياسيين بلا استثناء مع ما يحمله ذلك من مخاطر جمّة.
تحظى نظريات المؤامرة على الرغم من سخافتها بتأييد بين القادة العسكريين السودانيين. وأصبح نشر المعلومات المضللة للبسطاء من السودانيين الآخرين (الأمن القومي) دفاعا سياسيا أساسيا لسبب وجيه يشكّل السودانيين جمهورا متقبلا له. تجدر الإشارة إلى أنهم يتحدثون عن خطورة (اعتقاد) وجود تآمر، ومع أن الواقع تاريخيا وحاضرًا شاهد على وجود مؤامرات حقيقية، ولكن ذلك لا يُسوّغ لنا القبول بالإشاعات ونظريات المؤامرة، كونه نوع من الاعتقاد العقيم الذي لا يُفيد في شيء ويقود إلى نتائج عكسية، حتى لو جاء من قبل أطراف معارضة، نظرًا لأنه لا يستند إلى دليل، وبالتالي يعجّ باحتمالات الكذب. وراء كل نظرية مؤامرة دافع ذاتي، لا علاقة له بالمعطيات الموضوعية أو العلمية للموضوع الذي تدور حوله نظرية المؤامرة.
وإذا كان من الواضح أن من يصوغ نظرية المؤامرة حول موضوع ما، لا ينطلق من فراغٍ تامٍ، أي ليست كل معلوماته التي يسوقها كاذبة تماما، فإنه يستثمر ما يُمكن من المعلومات المتاحة، لينسج من الحقائق الصغيرة المتناثِرة كذبةً كبرى، ليبني صرحا من الأوهام، صرحا مُرصعا ببعض جواهر الحقيقة. فلا بد، في أي حكاية كاذبة، من حقائق مُسَاندة، ولكن هذه الحقائق المستخدمة لكسب ثقة البسطاء، يحدث أن يُضَاف إليها أضعافها من المعلومات الكاذبة أو المعلومات المُحوّرة، لتتلاءم مع (حكاية المؤامرة) التي يمنحها الخيال الجامح كثيرا من التشويق الذي سيستبد بألباب أولئك الحالمين الذين لا يملكون إرادة البحث الطويل والتحقيق العميق.
فمثلا ماهو مصير الزعيم النازي، أدولف هتلر، هل انتحر حقا أم تسلّل هاربا وعاش في مكان ما من هذا العالم، وخلّف أولادا وأحفادا، حتى مات حتف أنفه؟ هل هبط الإنسان فعلا على القمر؛ كما تقول وكالات الأنباء ومراكز البحوث الفلكية ومقررات التعليم، أم الأمر مجرد كذبة كبرى نسجها هؤلاء وهؤلاء لأمر ما؟
مَن اغتال رئيس الولايات المتحدة، جون كينيدي؟ (نُشر أكثر من ألف كتاب عن اغتياله 90 في المئة منها تدّعي وجود مؤامرة، من نائبه، أو من وكالة الاستخبارات الأميركية، أو من فيدل كاسترو، أو من مخابرات الاتحاد السوفييتي...إلخ) مَن قتل مالكوم إكس؟ مَن قتل مارتن لوثر كينغ؟ مَن وراء أحداث 11 سبتمبر؟ مَن قتل إسحاق رابين؟ هل مات ياسر عرفات مقتولا؟ ومَن قتله؟ هل مات مايكل جاكسون مقتولا؟
هذه نماذج لمواضيع ذات أصل واقعي، نُسِجت حولها كثير من نظريات المؤامرة. ليست المشكلة في الأصل الواقعي الذي يستلزم تفسيرا واقعيا مُتَساوِقا مع الأدلة الموثوقة والمعطيات العلمية للتفسير والتحليل، وإنما المشكلة في (الأوهام) التي تُحاول ردم (الفراغات المجهولة) في الحكاية، ومن ثَمَّ تنمية هذه الأوهام لتصبح غولا يلتهم الحقيقة من جذورها. فنظريات المؤامرة تقوم على (تخيّلات حكواتيّة) تستعين ببعض المعلومات المتاحة، ولكنها ـ في المجمل ـ لا أساس لها من براهين العلم وحقائق الواقع.
ليست المشكلة في نظريات المؤامرة بحد ذاتها، فهي إفراز لتوافر كثير من المعلومات لكثير من الناس، أي للناس الذين لا يملكون القدرة على تحقيقها وتحليلها، وإنما المشكلة أن هذه النظريات المؤامراتية تحظى بتصديق عدد كبير من الناس، ليس من الأوساط الشعبية المُهملة التي يتفشى فيها الجهل فحسب، وإنما، وبصورة أكبر، في الأوساط المتعلمة التي تكون أكثر عرضة للمعلومات المتكاثرة المتناثرة في مَدَى الوعي. لقد انتشرت وازدهرت نظريات المؤامرة خلال القرن العشرين وأوائل هذا القرن، لأن التعليم (الذي مَكَّن كثيرين من رصد وقراءة وجمع المعلومات) انتشر وازدهر، ولأن سوق الإعلام والأفلام المتخم بالحكايا ازدهر أيضا.
كان استخدام نظريات المؤامرة يُعتمد كدفاع للعسكريين السودانيين لتبرير إخفاقاتهم لفترة طويلة. ولكن في ظل غياب مصادر موثوقة والوصول المفتوح إلى المعلومات، فليس هناك ما يوقف صعود نظريات المؤامرة بين النخبة العسكرية في السودان. كما يقول محمد حسنين هيكل: (أصبح التفكير التآمري مشكلة وطنية)، حيث أصبح المثقفون والقراء عاجزين عن تغيير السرد. وفي السودان المعاصر، حيث يتم تسييس الحقائق، أصبح تبادل الآراء شبه مستحيل.
وحين يضاف إلى كل ما سبق، التجييش بين مختلف الفرقاء على مواقع التواصل الاجتماعي، واستقالة النخبة وقلة حيلتها وتقوقع بعضها وانتهازية بعضها الآخر، فإن الصورة تبدو قاتمة للأسف لاسيما مع وضع اقتصادي يخشى أن يلتف قريبا كالثعبان على الجميع، وهو الوضع الذي بدأ البرهان بالاصطدام به علّه يدرك أخيرا أن الدول لا تساس بالشعارات والأماني.
هل معنى ذلك أن الوضع في السودان بات ميؤوسا منه؟ لا أبدا هناك دائما طريقة للخروج من هذا المأزق، إذا ما توفرت الإرادة، فها هي تونس تجد طريقتها الخاصة في ذلك وها هو قيس يقرر النزول من الشجرة باتفاق، لا يرضي الجميع بالتأكيد، لكنه يظل أفضل من استمرار الانقلاب على الدستور. السودان ليس مجبر على المرور بامتحان دموي كالذي مرت به ليبيريا أو سوريا ولا التعرض لنفس الضغوط والتهديدات الدولية، حتى يرجع الجميع إلى رشدهم.
إذا ما ألقيت أيضا نظرة على ما يكتبه السودانيون في موقع (فايسبوك) الذي يدمنون عليه وفيه يعبّر الجميع تقريبا عن آرائهم وبعضهم عن أحقاده وعقده.كل صاحب رأي مخالف، يفلح في انتزاع التعبير عنه في هذا المنبر أو ذاك، داخليا أو خارجيا، يتعرض مباشرة إلى حملة (فيسبوكية) منظمة من أقلام (ذباب التدخل السريع) المعروف رموزها بالاسم والتي ارتضت أن تلعب دائما مثل هذا الدور، اقتناعا أو تزلفا لا يهم.
الآن، تغيّرت (قواعد الاشتباك)كثيرا مع هذا الانقلاب فبمجرد ما تكتب رأيا مناهضا له تنهال عليك فورا التعليقات التي ندر ما تردّ على الحجة بالحجة أو الرأي بالرأي وإنما تسارع فورا إلى كيل الشتائم وبأكثر الألفاظ بذاءة وغالبا ما تكون من تحت الحزام. أما إذا كنت سودانيا مقيما بالخارج فستجد نوعية أخرى من السباب تبدأ بالبلد الذي تقيم فيه لتنتهي في الغالب بأن ُيطلب منك الصمت لأنك خارج بلاد لم يعد يعنيك أمرها بل أنت خائن لها أصلا. المصيبة أنه حين يأخذك الفضول إلى معرفة بعض هؤلاء تتفاجأ أن من بينهم المعلم والأستاذ والموظف والطبيب!!
هذه الأجواء دفعت بالكثيرين ممن يرغبون في التعبير عن آرائهم المعارضة لوادي غير الذي يأخذ إليه البرهان وزمرته البلاد حاليا إلى حظر التعاليق على منشوراتهم في مواقع التواصل بعد أن بلغ انحطاطها مستوى لا يطاق.
لا شيء كسبه السودانيون بعد أكثر من ثلاث سنوات من الثورة سوى قليل من الحريات، وأساسا حرية الرأي والتعبير والصحافة، فماذا بقي لو صادرنا كل ذلك وعدنا لتكميم الأفواه وتجريم المختلفين مع السلطة الانقلابية وكأن هؤلاء المعارضين، الذين أتاحت لهم الثورة ما كانوا محرومين منه لعقود ولا أحد بإمكانه أن يمنّ به عليهم، ارتكبوا جريمة لا تغتفر مع أنهم لم يفعلوا سوى الإعراب عن وجهة نظر تخالف ما يسعى البعض إليه من عودة إلى الاستبداد و(الزعيم والمنقذ) الذين عادوا إلى الهتاف باسمه ورفع صوره يخالون سرابه ماء.
مؤلم القول إن مستوى الخطاب السياسي في السودان الذي انحدر إلى درجة مخيفة ليس غريبا عندما يوضع في سياق ما تعرفه البلاد منذ أكثر من ثلاثون عاما من تقهقر في كل الميادين، فعندما تتراجع الحريات و الاقتصاد ومعيشة الناس والتعليم والصحة والإدارة ونظافة الشوارع والمعاملات والمرافق العامة والخدمات وينعدم الأمن حتى داخل الحواري والاحياء والمنازل، وغيرها كثير، هل تتوقع أن يبقى السجال السياسي راقيا؟!. كل ذلك حوّل البلاد إلى بيئة طاردة لأبنائها ويكفي إلقاء نظرة على عدد الكوادر المختلفة التي غادرته أو التي ما زالت تنتظر أول فرصة لها للهجرة.
أحد الأصدقاء العرب اتصل بي حائرا ليقول: يا رجل ما هذا الذي يجري عندكم… لقد كنا رافعين رأسنا بكم!!؟. أجبته: لعله آن الأوان أن تُنزله ليرتاح قليلا… حتى إشعار آخر.
لا أحد يتحدث اليوم في السودان من مسؤولي الدولة إلا البرهان، وكلما تحدث زاد منسوب التوتر وسفك الدماء والقمع والضرب وهتك الأعراض، مع تعدد الجبهات التي يفتحها وآخرها مع الإعلام والقضاء، فضلا عن أخبار عن صراع أجنحة من حوله، خاصة مع لكل ذلك، لا يبدو السودان مع البرهان دولة استبدادية فقط، وبامتياز، بل هي كذلك استبدادية غريبة الأطوار!!. يمر السودان بمرحلة فارقة ويمكن أن تستثمر الأجواء الحالية بالمنطقة ليكون الرقم القادر على ضبط التوازنات المختلة.

mido34067@gmail.com
////////////////////

 

آراء