عَوَالم مُوازية: صُورٌ جانبيَّة لوجوهٍ سودانيَّة

 


 

 

(1)
في عالمٍ مُوازٍ للحرب الفعليَّة _متمثّلةً في القتل والسحل والقصف والاغتصاب- تحدث أشياءٌ أخرى. وتعبير العالم الموازي استلفته من صديقي أيمن سيف الدوسري، والذي يعيشُ ويعمل، مغترباً عن بيته في الخرطوم، في مدينة القضارف منذ سنوات ضمن فريق وكالات الأمم المتحدة للاجئين. يحكي عن الفعاليّات الثقافيَّة والليالي الأدبية التي ازدهرت في المدينة، ويعدد أسماء مجموعة شاسعة من الشعراء والفنانين والموسيقيين الذين نزحوا من الخرطوم إلى القضارف، ومنهم ارتدَّ إلى أصله هناك، كالتشكيلي عبد الله محمد الطيب (أبسفة)، وجميعهم ينشطون في إزكاء روح المبادرة وتقديم ما يستطيعون من جمالٍ لجمهورٍ تكالبت عليه الأحزان والمآسي، يكشطون طبقات الآلام ويَبعثون الأمل في النفوس، ودائماً بمشاركة الأطفال.

(2)
شاهدتُ فيديو عظيم ومؤثّر لفعاليّة نظمتها مجموعة من الفنانين والفاعلين الثقافيين كالأستاذة سحر صلاح، والفنان محمد مرزوق، والذي كان يُغطّي يده بدميةٍ تتحدّث –من خلاله- على مسرحٍ قماشيّ مُدبّرٍ بليل؛ ومجموعة هائلة من الأطفال يتحلّقون حوله، يُشاهدون بفرحٍ عارمٍ هذا المسرح المرتجل ويضحكون من قلوبهم. أعلاهم كانت حبال متشابكة تحملُ رسوماتهم على مشابك غسيل عاديَّة، مرّت عليها الكاميرا واحدة، ويبدو أنهم أنجزوها ضمن الفعاليّة واليوم الذي يبدو مَفتوحاً على كلّ حياة. لم أستطع أن أكبت دموعي والأطفال يختتمون الفيديو بإنشاد نشيد العَلَم بحماسٍ منقطع النظير! ورغم عدم إيماني بالأعلام وأناشيدها عادةً –إذ تبدو كإجماعٍ مَفروضٍ قسراً- إلا أنني شعرتُ بالفراغ داخل قلبي؛ شعرت بهواءٍ جارح وعدمٍ مسنون، إذ هم يغنون لعلمٍ لن يعود كما كان أبداً، ولكن البلاد عائدة، ربما يتغيّر إسمها ورسمها –بمنظور أسوأ المتشائمين المنتشرين على وسائل التواصل- ولكن النيلان سيظلّان يجريان، والشعوب التي تعيش حولهما ربما تُمحى من الوجود، ولكنني أرى جانبي وجوه السودانيين، الجانب الأسوأ الذي ظَهَر، والآخر الذي يحملُ دائماً مفاجآتٍ مُذهلة، ربما تُحطّم آمال المتشائمين العراض.

(3)
في عالمٍ مُوازٍ للحرب تَجري أحداثٌ ساخرة، ويعتذر الناسُ عن جهلهم، ويكتشف البعض أن المال، عملياً، لا قيمةَ له. عندما تتحدّث الأسلحة في برلمانات حيواتنا الفرديَّة والجماعيَّة، لا يتبقَّى أغلى من الروح وسلامة الجسد. كذلك يبدأ قصف الأسئلة عند بلوغ بر الأمان: والآن، ما الذي أفعله هنا؟ وهل هنالك فعلاً ما يُمكن أن يُسمَّى مُستقبلاً؟ ثم ما هو حال البقيَّة؟ الذين تُنجيهم أقدارٌ عجيبة من رصاصاتٍ طائشة تُصيب جماداً قريب.

(4)
ولكن، في عالمٍ موازٍ كذلك، كتب الشاعر حاتم الكناني في تقريره لصحيفة الإندبندنت العربيّة، عن مهرجان مسرحي رُحِّلت منصّة تنظيمِهِ من الخرطوم إلى مدينة كوستي بالنيل الأبيض : "استطاعت إدارة مهرجان "المسرح الحر"، وهو مهرجان يقام منذ العام 2011 في الخرطوم، إقامة الدورة الثامنة منه في مدينة كوستي في ولاية النيل الأبيض جنوب السودان. ورغم توسع مساحة الحرب في السودان، وخاصة الخرطوم، منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي، قُدِّمت خلال الفترة من 17 وحتى 22 يونيو(حزيران) الماضي، أربع مسرحيات خلال المهرجان عُرضت في أحد مراكز إيواء النازحين القادمين من الخرطوم. يقول الممثل شاكر حامد وهو نائب مدير المهرجان، في حديث لـ"اندبندنت عربية": "إن كانت لحرب الخرطوم من فضيلة، فهي تتمثل في انتقال النشاطات والمهرجانات الثقافية والفنية من العاصمة إلى حواضر البلاد الأخرى، والقضاء على استحواذها على معظم الفعاليات". -انتهى-
ملاحظة الفنان شاكر حامد هذه تستحق الانتباه الشديد، إذ ما سيُكتب عن هذه المحنة المتواصلة لا بدَّ أن يرى بدايات تشكّل المفاجآت الشعبيّة المُذهلة. أنا متفائل، ولكنني واقعيٌّ أيضاً؛ مُتفائل ربّما لجذورٍ فيَّ، فكريَّة مُستقاة من معارف الأستاذ محمود محمد طه، تُعرّف الجحيم بـ"المُعلِّم"، وأضيف من عندي: الرحيم. قد كان لا بدّ أن يَعبرنا جحيمٌ ما -كأهل خرطوم- مادام ظلّ مُشتعلاً فيما حولنا طوال حياتنا.

(5)
في عالمٍ موازٍ يكتب المُغيرة حسين حربية شِعراً (الطيور لا تُغادر، لتعود):
في هذه الحرب،
رأيت طيور الطفولة تعود،
ملونة وبريئة،
وتأكل من خشاشِ قَلبي؛
ربما عادت،
لأن الناس هجروا البيوت.

فقط من حينٍ لحين يُفزِعُها قصف المدافع،
وتلصُّص العابرين.

عادت خفيفة،
ولا تَحملُ أدنى ذكريات،
فقط الغناء القديم على شفتيها،
ورائحة البحر،
ولا تَفهَمُ مَكرَ البارود والرصاص.

الطيور حبيبة حين تعود؛
أوان البحر،
أو الحرب،
وتغني
وحيدة للبيوت المهجورة
والشجر المقصوف.
وَحدَها الطيور أشجع الأسماء التي تسكن المدينة، في الحرب.

نحن العصافير الجائلة في البرية
لا نثق بشيء أو أحد
تُفزِعُنا إيماءة مفاجأة؛ فنطير،
دون وجهة،
لأننا تعلمنا،
أن الحرب كلها موجهة ضد الطيور والعصافير.

يلوموننا،
أن عصافيرنا غيرَ ملوَّنةٍ كفايةً،
لا يزهو ريشُها حين تُحلِّق،
لا تطير بعيداً.
يقولون، حجمها صغير،
ولم تتعلم الرقص بعد؛
يسقط بيضها لأنها تبني أعشاشها في الفراغ
لا تحسن التزاوج
ولا تغرد سوى عند الضرورة.

يقولون؛
عصافيركُم شقية لأنكم بلا آلات موسيقية مُنَوَّعة
ونساؤكم بليدات في الحب
لا يحترفنَ طباخة العطور في المنازل،
ولا يربّين الورد والعصافير.

يقولون الكثير؛
ولا يعرفون أننا نربّي العطر والنساء والطيور في زاوية القلب
لنجنبهم الحرب
والأشجار اللاجئة
ونُطعِمُ العصافير من نَوَافذ الأنهار.

(7)
في عالمٍ موازٍ، رأيت تاجر البصل في الفيديو، مَغروزاً وسط تلالٍ من البصل الأحمر، وفي يدهِ "ملوة" كبيرة، ويعبث بيده الأخرى بالبصل المترامي أمامه ويعرض أسعاراً مخفّضة، ولكنّه، في نهاية عرضه السخي يقول: وللناس الجايين من الخرطوم البصل مجَّان، تَعَال شِيل بَصَل حَلَّتَك مجّان، كل يوم لو عايز، بالمجَّان". هذا هو الوجه المُخيف لبلاد السودان؛ هذه الوجوه التي تتكاثر في أوقات الشِدَّة والذُلِّ والهَوَان: صُورٌ جانبيَّة لوجوهٍ سودانيَّة.
_____
13/7/2023م

mamoun.elfatib1982@gmail.com
///////////////////////

 

آراء