في الاختلاف الثقافي: من وحي قضية معلمة اليونتي … بقلم: د. خالد محمد فرح

 


 

 

 Khaldoon90@hotmail.com

 أما وقد أسدل الستار رسمياً بحمد الله على قضية المسز جيبون جونز المدرسة السابقة بمجمع مدارس الاتحاد المرموقة بالخرطوم ، أو ما تعرف على نحو أكثر شهرة في السودان باليونتي تعريباً لها من قولهم Unity School ، وذلك بفضل القرار الرئاسي الحليم والحكيم الذي صدر في الأسبوع الماضي ، بينما ما يزال هذا الخبر وتداعياته تثير لغطاً واسعاً ، ويريق مداداً كثيراً على صفحات الصحافة الورقية منها والالكترونية على حد سواء ، فقد عنّ لي بهذه المناسبة أن أقول إنّني قد كنت أشعر منذ البداية أن هذه المسألة هي مسألة اختلاف وسوء فهم ثقافي ليس إلاّ ، وما كان ينبغي لها أن تخرج من سياقها ذاك إلى اعتبار أنها فعل قصدي متعمد أريد منه إزدراء مشاعر المسلمين في السودان وفي كل مكان بإطلاق اسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على دمية " دبدوب " التي يلعب بها الأطفال.
 وفي اعتقادي أنه ينبغي تصويب الجدل نحو السياق الثقافي والمعرفي الذي اكتنف هذه القضية وليس الإطار القانوني الذي تم النظر إليها من خلاله. فنحن لا نريد بهذا مساءلة القانون ولا مساءلة أولئك الذين طبقوه. إذ أنه طالما كان المجتمع السوداني مجتمعا متدينا بطبعه ، مع علمنا التام بتعدد أعراق أهله ونحلهم وأديانهم ، فإن ذلك يستلزم وجود قانون يجرم الإساءة لكافة العقائد الدينية ( وليس الدين الإسلامي وحده كما ذكر خطأ خاصة في بعض وسائل الإعلام الأجنبية التي تناولت الخبر). وبهذا يكون من يقول لأي شخص مسيحي مثلا في السودان ، مواطنا كان أو زائرا أو مقيما " ينعل صليبك " بقصد الإساءة إليه واقعاً تحت طائلة هذا القانون.
 فهذه هي فرنسا بلد الحريات وحقوق الإنسان ورائدة التنوير في العالم كما يقال ، بها قانون سار منذ سنوات يجرم ليست الإساءة إلى العقائد الدينية ذات القدسية المعروفة ، ولكن مجرد التشكيك في أية جزئية مهما صغرت مما نشر عن نتائج محاكمات نورنبرج الشهيرة حول جرائم النازي ضد اليهود في أوروبا. وهو ما يعرف بقانون " غيسو " نسبة لاسم أحد أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي ، كان قد بادر بطرح مشروع ذلك القانون. وفي كثير من يلاد الغرب يمكن للطفل أن يشكو أباه أو أمه ذا ما ضربه أحدهما تأديبا له ، فيحاكم بقانون عندهم يسمى Child abuse ، وذلك ما لا يمكن تصوره أصلاً في مجتمعاتنا. فغني عن القول إذاً ، أن أي مجتمع يسن القوانين التي تعكس خصائصه الاجتماعية والثقافية واهتماماته.   
 هذا ، وقد ازداد يقيني ببراءة المسز جونز من تعمد الإساءة عندما رأيت صورتها من خلال شاشات القنوات الفضائية ، وخصوصاً قناتي ال B.B.C وال C.N.N اللتين عرضتا بعض اللقطات من مشهد وصولها إلى مطار هيثرو واستقبالها بواسطة أفراد أسرتها، إذ أنني ألفيت فيها سيدة طيبة العينين ، مؤدبة وحيية ، و " زولة الله " ، وربما تكون " مسطّحة " تماما. أجل ، لم يكن في سمتها وطريقة حديثها ذلك اللؤم والفجور والوقاحة التي تكون عادة في مثل أولئك الذين من المتوقع أن تصدر منهم عمدا الإساءة لمخالفيهم في الرأي والاعتقاد وإيذاء مشاعرهم. قال تعالى "فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول " الآية.
 على أنه كان ينبغي خصوصاً على سيدة بريطانية مثل المسز جيبونز ، وقد كانت تعرف أنها مقبلة على العمل معلمة أطفال في بلد غالبية أهله مسلمون عرفوا بالتمسك الشديد بكل ما يتعلق بدينهم ، والحساسية المفرطة تجاه كا ما يحسون أنه يمثل ازدراءاً أو إهانة له ، كان يبغي عليها الاطلاع على نحو أكثر عمقا على كل هذه الجوانب حتى لا تقع فيما وقعت فيه. ومما لا شك فيه ، أن السيدة جيبونز – وهي بريطانية – وارثة لتراث ضخم في هذا المجال بحكم وضع بلدها كدولة مستعمرة سابقة للسودان. قالوا: كان بعض المفتشين الإنجليز يأمرون بجلد وسجن من يفطر عمدا في نهار شهر رمضان من المسلمين في السودان ( أم أن تلك كانت إحدى حيل و "حركات"  ومظاهر دهاء الإمبراطورية العجوز في تثبيت سلطانها على مستعمراتها عبر الظهور بمظهر الحادب على معتقدات أهلها وعدم استهدافها ؟ ).
 أما لماذا لم تر تلك المدرسة بأساً في إطلاق اسم بشر – وإن يكن اسم أشرف الخلق أجمعين ، وسيد ولد آدم كما نعتقد نحن وليس كما تعتقد هي بالطبع – على تلك الدمية أو ذلك الدبدبوب ، وهو قطعاً – أي الدبدبوب – شيء محبوب ومقدر لدى الأطفال ، فإن هذا هو من صميم ثقافتها. ذلك بأن للأوربيين مذهباً يخالف مذاهبنا في تسمية حيواناتهم المنزلية الأليفة من كلاب وقطط وببغاوات وسلاحف و " لغاويس " أخرى كثيرة ، بل في علاقتهم بتلك الحيوانات بصفة عامة. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا ما قلنا إن حب الأوروبي لكلبه أو لقطته ربما يفوق حبه لكثير من أقاربه من الدرجة الثانية على الأقل. وليس من النادر أن ترى رئيسا غربياً ، أو مرشحاً للرئاسة ، وقد حرص على نشرة صورة له ومعه كلبه أو قطته على نطاق واسع لكي يراها الجمهور ، موقنا بأن ذلك مما يزيد من شعبيته ويظهره بمظهر الشخص  الودود أو الحاني على الحيوانات.
 ويبدو أن الأوربيين بالفعل يطلقون على الحيوانات أسماء البشر. ولعل من قرأوا منا رواية جورج أورويل الذائعة الصيت Animals Farm أو " مزرعة الحيوانات " ، يذكرون أسماء: الخنزير نابليون ، والحمار بنيامين وهو اسم أصغر الأسباط أبناء يعقوب وشقيق يوسف عليهما السلام ، والنسر موسى أو Moses وهو اسم نبي كريم من أولي العزم من الرسل ، وهكذا.. وبالطبع فإننا لم نقرأ أو نسمع أن جورج أورويل قد اتهم بمعاداة السامية مثلا على صنيعه ذاك ، ذلك بأن السياق الثقافي في مجتمعه يسوغه له.
 وبهذه المناسبة أذكر أننا عندما ذهبنا لأول مرة إلى فرنسا لقضاء العام الدراسي 82\1983 في إطار برنامج للتعاون الأكاديمي آنئذ بين جامعة الخرطوم وجامعة Lyon II الفرنسية ، تصادف وجودنا هناك بوجود أخت سودانية أسمها عفاف كانت تدرس اللغة الفرنسية على نفقتها الخاصة. وكانت تجاور تلك الأخت في السكن  سيدة أمريكية طاعنة في السن. وكانت تلك العجوز الأمريكية تحتفظ في شقتها بأعداد هائلة من القطط مختلفة الأشكال والأحجام والألوان. ولما كانت تلك العجوز تعيش وحيدة بين قططها تلك ، وكانت عفاف – بعاطفتها وأخلاقها السودانية – تلاطف تلك السيدة ، وتؤانسها ، وتساعدها أحيانا ، فقد أحبتها تلك العجوز الأمريكية. ولما أرادت أن تعبر لها عن تلك المحبة وذلك التقدير ، أخبرتها ذات يوم أنها قد اقتنت قطة جديدة ، وأنها قد قررت أن تسمي تلك القطة الجديدة "عفاف " ، معلنة بصوت مرتعش بلكنتها الأمريكية: I think I will call it Afaf .!
 وخلال ذلك العام نفسه بفرنسا – والشيء بالشيء يذكر – كنا نتسامر ذات ليلة في غرفة صديقنا الدكتور أسامة عثمان الذي كان وقتها يحضر لنيل درجة الماجستير في اللسانيات والترجمة بذات الجامعة. وكان أخونا د. أسامة منذ أن عرفناه امرءاً كوزموبوليتانيا عولمياً (من العولمة) ، فلا غرو إذاً أن انضم منذ سنوات إلى العمل بهيئة الأمم المتحدة. فبينا نحن جلوس نتآنس  في غرفة أسامة إذ طرق الباب ودخل علينا شاب وفتاة من غوادلوب أو مارتنيك من أصدقاء أسامة ( من تمام آلة السوداني القح غير الكوزموبولتاني ألا يصادق أو يعادي إلا سودانيا مثله حتى يلقى الله..و لو عاش دهرا بهولنده أو كندا فتأمل !! ) ، وكان من بين الحضور زميل سوداني لأسامة كان قد دخل لتوه في طور من التدين والتنسك الشديدين. فلما بدأ ذلك الشاب وتلك الفتاة يصافحون من كانوا داخل الغرفة من الطلاب السودانيين ، قال أسامة للفتاة منبها لها بالفرنسية ، ومشيرا إلى زميله ذاك: " إنه لا يصافح الفتيات " ، فما كان منها إلا أن قالت: " أوه حسناً .. إنه يقبّلهن إذاً " Ah bon, il les embrasse alors ! .. فانفجرنا ضاحكين ، وفغرت المسكينة فمها تعجباً ودهشة من ضحكنا.    

 

 

آراء