في تخلي الرئيس عن الجيش والمحاسبة والإنصاف … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك

 


 

 

 

من فوائد الانتخابات بحسب منظور علم الاجتماع السياسي أنها تولّد حراكا اجتماعيا يتمثل في تجمع الناس وتناولهم للشأن العام في مجالسهم وأماكن تجمعاتهم العادية في ميدان العمل أو الترفيه أو العبادة أو في اللقاءات الاجتماعية المختلفة مما يسكر حالة التحفظ التي قد تحيط بالحديث في الشأن السياسي وكل ذلك يساهم في ارتباط المواطن ببلاده وبقيمها التي يفترض أن يعكسها التدافع السياسي وبرامجه وأساليبه للفوز في الانتخابات. من الفوائد الأخرى التي تحدثها الانتخابات زيادة وعي الأفراد والوعي الجماعي بالشأن العام وبحياة وسيرة الأفراد الذين يتصدون للفوز بثقة الشعب وذلك من خلال عملية المضاهاة والتحميص والبحث عن الحقائق وتفنيد الحجج والمطالبة بتقديم الأسانيد.

 

من خلال متابعة ما ينشر في صحفنا نكاد لا نجد شيئا من الفضائل غير المباشرة المذكورة أعلاه لغياب المعلومة والتدقيق فيها بل على العكس من ذلك ربما أدى حراك الانتخابات إلى نشر الكثير من المعلومات المغلوطة وتكرارها حتى يظن الناس أنها الحقيقة وهذا أمر تسعى له الجماعات السياسية المنظمة في شكل أحزاب أو المؤقتة في شكل تحالفات انتخابية ولكن أجهزة الإعلام يفترض فيها أن تكون القوة الموازنة لمحاولة التضليل القاصدة بهدف الكسب السياسي.

 

وللتدليل على ما نقول فلنأخذ مثال قرار رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة السودانية، السيد عمر البشير بإعفاء المشير عمر البشير من وظيفة القائد العام للقوات المسلحة ومن خدمة القوات المسلحة وإحالته للتقاعد بكامل مخصصاته وفقا لقانون قوات الشعب المسلحة لعام 1976،  وجاء قرار الإعفاء تنفيذا على وجه التحديد لما ينص عليه قانونان هما قانون القوات المسلحة لعام 2007، وقانون الأحزاب السياسية لعام 2007، ولم ترد إشارة إلى الدستور أو قانون الانتخابات. وصرّح نائب رئيس المفوضية القومية للانتخابات بأن ليس في قانون الانتخابات ما يشترط التنحي عن الوظيفة لخوض الانتخابات مما جعل البعض يعتقد بأن البشير لم يكن مضطرا لإعفاء نفسه وإنما فعل ذلك تكرما منه وتفضلا وحرصا منه على التحول الديمقراطي ودليلا التزامه وحزبه الراسخ بتطبيق القانون كما سنرى في المقتبسات التي سترد في هذا المقال.

 

وعلى الرغم من وضوح هذه الحيثيات وضرورة أن يستند عليها الناس انطلاقا لإجراء أي تحليل أو استخلاص نتائج من هذه الخطوة جاء الكثير من التخليط والتشويش فيما أوردت الصحف ليس في أوساط عامة الناس ولكن في تصريحات بعض السياسيين والعسكريين وقيادات المجتمع وكان الاستثناء من هذا الخلط مقالين رصينين لخالد التجاني وحيدر المكاشفي نشرا بعد يومين من صدور القرار على صفحات جريدة الصحافة.

 

قرأت أكثر من تصريح يشير فيه صاحبه إلى استقالة البشير أو إعفائه نفسه استنادا على قانون الانتخابات على الرغم من عدم اشتراط القانون ذلك. ومما زاد من حالة البلبلة تصريح للدكتور مختار الأصم عضو مفوضية الانتخابات أفتى فيه بضرورة تخلي الفريق سلفا كير عن منصبه كقائد عام للجيش الشعبي حتى يتمكن من الترشيح في الانتخابات لرئاسة حكومة الجنوب ولم يوضح التصريح مرجعية ذلك الطلب ولماذا يصدر عن عضو في المفوضية وليس من رئيسها أو نائبه الذي صرح بعدم اشتراط قانون الانتخابات لذلك فيما رأينا؟ استمر اللغط أيضا عن بقاء الفريق سلفا كير في منصبه أو استقالته فهنالك من يقول بإمكانية بقائه وفقا لدستور حكومة الجنوب وهنالك من يريده أن يستقيل أسوة بالمشير البشير ولم نسمع من يطالبه بذلك ببساطة تنفيذا للقانون أي قانون الأحزاب السياسية لعام 2007 الذي ينطبق على الحركة الشعبية كما ينطبق على غيرها وهو الذي جعلها تسوي وضع الجيش الشعبي باعتباره جزءا من القوات المسلحة الوطنية وليس فصيلا مسلحا لحزب سياسي.

 

أجرت أربع صحفيات من جريدة الرائد استطلاعا مع بعض العسكريين ممن هم في الخدمة والمتقاعدين  وبعض السياسيين وعامة الناس عن رأيهم لخطوة تخلي البشير عن الخدمة في القوات المسلحة فجاء فيها: يرى اللواء يونس محمود (لعله الرائد يونس خطيب الإنقاذ الشهير في بداياتها) ولم يوضح لنا الاستطلاع إن كان من العسكريين العاملين أم المتقاعدين. يقول "الرائد يونس":" لقد تجاوب السيد الرئيس عمر البشير في هذه الخطوة فالدستور لا يجوّز للذين هم في الخدمة العسكرية دخول الانتخابات"، أما اللواء آدم سعيد فيرى في هذه الاستقالة أمرا عاديا لأن قانون الانتخابات، بحسب رأيه يلزم أي موظف دولة في القوات المسلحة  يريد الترشح أن يستقيل من عمله. ويقول لواء آخر (محمد عباس) وصفته الصحيفة بأنه محلل استراتيجي "إن أراد أحد الضباط ترشيح نفسه للانتخابات أو أي عمل سياسي آخر أن يترك عمله في القوات المسلحة قبل أن يشير إلى أن الرئيس البشير قد أعفى نفسه حتى يكون الجميع سواسية أمام القانون ولم يوضح لنا عن أي قانون يتحدث!.

 

أما الفريق طه دفع الله فقد أضاف بعد أن أشار إلى ضرورة التخلي عن الخدمة العسكرية من أجل الترشح إلى أن الرئيس البشير قد أعفى نفسه، في خطوة شجاعة، من منصب القائد العام محتفظا لنفسه بحق الترشيح لرئاسة الجمهورية وأضاف سعادة الفريق قراءة غير مسبوقة للإجراءات حيث قال: فإذا فاز حزبه فإنه سيقرر الرجوع إلى المنصب القديم من عدمه ثم أردف تلك الفتوى بقوله أنا أعتقد أن هذه الخطوة هي تطبيق مبدأ الشفافية والعدالة" هل ياترى يفكر معظم العسكريين بهذا الشكل؟ تعالوا الآن لنرى رأي السياسيين بعد أن رأينا رأي العسكريين.

  يقول السيد مبروك سليم مبروك رئيس حزب الأسود الحرة ووزير الدولة بوزارة الطرق والجسور "... أما بخصوص تنحي الرئيس البشير عن منصبه كقائد للجيش فهذا يمثل قمة الديمقراطية وهو دليل على التزامه بالدستور  والقانون". ويشاركه في أن الخطوة تدل على الحرص على الديمقراطية من الرئيس وحزبه السيد عبد الله مسار رئيس أحد فصائل حزب الأمة ووزير البيئة الذي يعتبر تحول الرئيس عن البزة العسكرية "انتقالا إلى مربع التحوّل الديمقراطي حتى يمثل الشعب في المرحلة القادمة في انتخابات حرة ونزيهة" ويؤكد السيد الشريف أحمد بدر الذي وصفته الصحيفة بالسياسي البارز على "أن هذه الخطوة دلالة واضحة على مصداقية المؤتمر الوطني في التحول الديمقراطي ويأمل أن تكون كل الأحزاب في مستوى المؤتمر الوطني" من حيث إيمانه في التحول الديمقراطي فيما يعني. ويقول السيد عبد الجليل الباشا رئيس حزب الأمة الإصلاح والتجديد، (هل هذا فصيل منشق عن حزب مبارك الفاضل الذي يحمل هذا الاسم؟) يقول الباشا "هذه الخطوة تعتبر تطبيقا لقانون الانتخابات واعتقد أنها فرصة في اتجاه تساوي الفرص بين المرشحين"

 

ويرى أحمد عبد الرحمن عضو مجلس شورى بالمؤتمر الوطني في التنحي تجسيدا للمساواة وتعزيز الفرص مع المنافسين حتى تكون المعركة "ملتزمة بالدستور والقوانين والتقاليد" ولم يوضح عن أي دستور أو قوانين أو تقاليد يتكلم.

 

ويرى أستاذ علوم سياسية اسمه أشرف أدهم أن الرئيس البشير قد حاول بهذه الخطوة أن يؤكد اتجاه حكومة الإنقاذ على التحول الديمقراطي، ويرى في هذا التحول شيئا عاديا قام به الكثير من الرؤساء الذين وصلوا للحكم عن طريق الانقلابات ثم تحولوا إلى ديمقراطيين قبل أن يضيف وربما ستكون هذه بعض الخطوات التي تؤدي إلى ميلاد السودان...) ولعل الصحفية هنا قد اقتطعت كلمة "الجديد" التي يقتضي السياق ورودها لأن السودان مولود، ولكن علينا أن نذكر أن الصحفية تتبع لصحيفة هي لسان حال حزب المؤتمر الوطني والسودان الحالي  في رأي تلك الجماعة هو بالطبع أفضل سودان ولا داعي للحديث عن سودان جديد أو قديم.

 

وكان لا بد من استطلاع آراء أهل الفن فعلق الفنان على مهدي عن التنحي قائلا " هذا يدل على قومية البشير وعلى حبنا له كمواطنين!" علامة التعجب من عندنا حيث أننا لم نفهم الصلة بين التنحي عن قيادة الجيش وقومية البشير وحب الجماهير له. ومن قطاع التجار قال التاجر عز الدين عابدين "غاية في الإبداع" ثم أضاف " كونه يتخلى عن قيادته للجيش ويصبح مواطنا مدنيا.. فهذا قمة الديمقراطية"

 

ومن عامة المواطنين ذكر المواطن آدم عبد الله من سوق صابرين (أين يقع هذا السوق؟ يجعلني اسمه أتعاطف مع من يتعاطون فيه!) قال المواطن الصابر بعد أن كال الكثير من المدح للرئيس وترشيحه " وهو رجل ذو أخلاق فاضلة كريم لذلك جرد نفسه من القيادة ليترشح مرة أخرى مثله مثل الآخرين" وبالطبع لا يمكن أن يكتمل الاستطلاع بدون استطلاع آراء الجنوب لأنه "ما في شمال بدون جنوب وما في جنوب بدون شمال وكلو هنا سودان".

حيث جاء في إحدى فقرات الاستطلاع: أيضا للجنوبيين كلمة... وحرت في كلمة "أيضا" في هذا السياق! رأي الجنوب عبر عنه جون دور القيادي بالمؤتمر الوطني الذي أضاف بعدا لم يسبقه إليه  الآخرون حيث قال " القرار حكيم بالنسبة للقوات المسلحة و"قانون الحزب"، نحن الآن اتجهنا للتحول الديمقراطي ولا بد أن يكون الرئيس بعيدا عن القوات المسلحة وهذا قرار حكيم وشجاع في نفس الوقت"

 

وبعد، فإن أطلنا في الاستشهادات أعلاه فلأنها دليل على ما ذكرنا في مقدمة هذا المقال من أن حراك الانتخابات قد يقود إلى نشر الأغاليط بدلا عن رفع وعي المواطن بذكر الحقائق ومضاهاتها. بالطبع هذه الاستشهادات جميعها من صحيفة حزبية هي صحيفة الحزب الحاكم وربما قامت بها محررات قليلات الخبرة ولكن لم نر في الصحف الأخرى استطلاعات مشابهة أو مقاربة للموضوع تقوم على البحث والتقصي باستثناء المقالين الذين ذكرنا قبلا.

 

السؤال البديهي المطروح هو لماذا خالف الرئيس عمر البشير وحزبه والرئيس سالفا كير وحزبه قانون الأحزاب السياسية وقانون القوات المسلحة منذ عام 2007 حتى يوم 12 يناير الماضي، هل قرأ السيد الرئيس هذين القانونيين قبل أن يوقع عليهما؟ هل كان يدري أنهما ينصان صراحة على تنحيه، لماذا يعتبر تطبيق القانون ببساطة حكمة ومنة وفضلا وكرما فيما رأينا. لا نتوقع أن تكون هنالك تبعات قانونية للمخالفة ولكن  هنالك مسؤولية سياسية لهذه المخالفة الصريحة للقانون في إطار الانتخابات، كيف يبرر أساطين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية هذه المخالفة وليست الوحيدة فتمديد أجل الحكومة بقرار منهما لم يكن له سند قانوني وتأجيل الانتخابات لم يكن له ما يسنده قانونا ويحدثوننا اليوم عن أن تاريخ الاستفتاء خط أحمر غير قابل للنقاش وجميع المواقيت الأخرى لم تحترم. كيف فات على مؤتمرات الحزبين مناقشة هذا الأمر وظل كل من الرئيسين رئيسا لحزبه جدد انتخابه دون الانتباه للقوانين.  وفي حالة الرئيس البشير أيضا هنالك تساؤل آخر كيف يبرر حزبه أن يكون رئيس الدولة وقائد الجيش هو رئيس مجلس إدارة لمؤسسة ربحية هي بنك أم درمان الوطني في سابقة لم تحدث في أي مكان آخر في العالم ولن يبرر تبعية البنك للقوات المسلحة أو مساهماتها فيه هذا الوضع غير الطبيعي.

 

يحدد قانون الأحزاب السياسية لعام 2007 في البند الثاني "لا يجوز للمذكورين أدناه المشاركة في عضوية أي حزب سياسي أو الانضمام إليه خلال فترة توليه لمنصبه، أفراد القوات النظامية، القضاة بالسلطة القضائية، المستشارون القانونيون بوزارة العدل، القيادات العليا في الخدمة المدنية، الدبلوماسيون بوزارة الخارجية" كم من هؤلاء هم حتى الآن في عداد وبين قيادات المؤتمر الوطني وقد يكون بينهم من هو مرشح في إحدى مستويات الانتخابات لا سيما وأن التماهي بين الحزب والدولة في إطار ما عرف بسياسية التمكين قد وضع عناصر الحركة ثم الحزب في جل مفاصل الدولة القيادية كم من وكيل وزارة أو مدير عام وهو عضو نشط في الحزب ويشغل منصبا أو يفاوض باسم الحزب ويتحدث باسم الحزب وليس الدولة. متى سيتنحى هؤلاء عن السلطة تطبيقا للقانون وليس تفضلا على الشعب السوداني وما هو رأي الغرماء الذين يخوضون الانتخابات في ظل هذه الظروف.

 

 ربما كانت الأسئلة أعلاه مرتبطة بشرعية النظام المكتسبة بعد اتفاقية نيفاشا ومسآلته أمام قوانين ما بعد الاتفاق، وقبل هذا وذاك يبقى السؤال الأكبر هو كيف يبرر لنا المؤتمر الوطني "سياسيا" وأخلاقيا على الأقل قيام ضابط من ملاك القوات المسلحة بقيادة انقلاب عسكري لصالح حزب سياسي في مخالفة صريحة لقوانين القوات المسلحة، و ما هو مبرر إعدام 28 ضابط حاولوا أن يسيروا على خطاه بمخالفة قانون القوات المسلحة الذي كان قد خرقه قبلهم بأشهر قلائل. فالمحاسبة التي نعني محاسبة سياسية في المقام الأول وربما كان إصلاح أمر الضباط الشهداء في حده الأدنى يتمثل في إطلاع ذويهم على أماكن قبورهم ودفنهم بما تقتضي الأعراف الدينية والكرامة الإنسانية ثم النظر في أمر مستحقاتهم وفقا لقانون معاشات ضباط القوات المسلحة الذي يكفل للقائد العام المتنحي تلك الميزات وعندها ربما صار للاستشهادات التي أوردنا مطولا في صلب المقال بعض معنى وربما رأى الناخبون في المشير المتقاعد عمر البشير شخصا غير العميد عمر حسن قائد انقلاب الحركة الإسلامية في 30  يونيو 1989.

 

Ussama Osman [ussama.osman@yahoo.com]

 

آراء