قِرَيِّبْ محمد راجِع.. الشاعر الذي قهر المستحيل

 


 

 


 (قصة معجزة)

كان راعياً للغنم ولم يلتحق بمدرسة حتى بلوغه سن الخمسين، وعمل خفيراً بجامعة ام درمان الإسلامية، ثم –يا للعجب– دخلها أستاذاً وعيناه تنظران بكل فخر وإعزاز الى كرسي الخفير الذي رفعه الى مقام الأستاذية. انها قصة نجاح باهرة ونادرة لهذا الشاعر المسن صاحب الذهن المتقد والطموح اللامحدود. وقبل أن نتعرض لهذه القصة المعجزة وهذا النجاح المدهش لهذا الشاعر الذي طرق أبواب المستحيل طرقاً عنيفاً وأحاله إلى واقع ملموس يلهم العبر و الدروس، نود أن نذكر أن لهذا الخفير قصة نجاح أخرى وفذة حققها قبل أن يحقق معجزته هذه. فقد كان وما زال هذا الرجل ملهماً وصاحب مواهب متعددة وملكة شعرية كبيرة، ولم يقف عمله الشاق حجر عثرة أمامه، ولم يكن ليشعر أبداً وهو العامل البسيط بين طلاب العلم بعقدة الدونية إنما أسلمه تصميمه لأحاسيس الندية والتفوق، فأخذ ينقب في خياله ويستوحي الصور فيحيلها إلى قصص رائعة سرعان ما تلقفتها الإذاعة السودانية لتجعل منها مسلسلات ذاع صيتها وجذبت المستمعين وبقيت في وجداننا لآمادِ طويلة ولم تزل ذكراها تجلجل في ذاكرتنا إلى الآن.. فمن منا لا يذكر مسلسلات (حظ أم زين) و(الهمباتة) و(عشا البايتات) و(غرام زينوبة) و(أنا أمك يا سند) و(البراق) و(عقدة الثأر) و(الخمجان (و(عودة الخمجان). هذه المسلسلات التسعة التي ألفها قِرَيِّبْ هذا العامل البسيط وبثتها الإذاعة صاحبتها أشعار صاغها هذا الخفير المجتهد، فمن منا لم يستمتع بها، ومن منا لم يهز رأسه إعجاباً بها، وقد اتخذ اللغة العامية والمفردة البدوية أداةً لهذا الإبداع الشعري والدوبيت إطاراً لتراكيبه وأساليبه الفنية مستفيداً من معاصرته لشعراء الدوبيت المتقدمين، حينما بلغ الدوبيت كمال نضجه الفني, واستزاد من فهمه لشؤون البادية وطبائع الأعراب فيها بفضل نبوغه واستيعابه العالي لتجارب الآخرين.
ومن يقرأ أشعاره التي صاحبت بعض مسلسلاته ويتملاها ربما انتابه شعور بأن الرجل قد مارس أعمال الهمبتة..! فقد صاغ قريب تلك الأشعار بصور أفصحت لنا عن جوانب مهمة من حياة الهمباتة وأوضحت لنا الكثير من سلوكهم وقيمهم.. يقول على لسان الهمباتي المحترف عوض الله احد أبطال مسلسله (حظ أم زين):
بَعدَ مَا قُمْتَ مِنْ بَيتُهمْ نَوَيتْ المَرْقه
عَليْ حَظْ الجَميلَة وتابْره مِي منحَرْقه
شُفتَ الخُصلة في اكتافا سَابله وزَرْقه
ضمِنت الرَجْعَة كَسْبَانْ كَانْ قَلِعْ كَانْ سَرْقه
وفي ذات المسلسل يقول على لسان عوض الله وهو يخاطب جمعه الذي يتدرب على أعمال الهمبتة على يديه:
دَيلَكْ نُوقْ هُمَّل يا ربْ نصِيبْ أم زَينْ
أَرَحْ يا جُمْعَه مَنِّعْ لي قُرَانِنْ زَينْ
نكاوشنْ عليْ الدَومَاتُو دَفَقَّنْ عَينْ
نكافِيبنْ طمَعْ طيبه ونَحِلّ الدَينْ
والناظر لهذه الأشعار لا بد انه واجد فيها روح الطيب ود ضحوية وطه الضرير وأساطين الهمباتة وشعرائهم الأوائل، وهذا الاستصحاب الروحي يؤكده مربعه الشهير الذي جاء أيضا في المسلسل المذكور على لسان عوض الله لما فيه من فتوة وفخر وحماسة.. يقول:
الهَمْبَاتَه نِحْنَا أَصْلَنَا مَعْرُوفينْ
بَلا حَقْ الرجال مَا عِنْدَنَا تعْيينْ
ما بنْدبّى ليٌهُو بِنْسُوقُو حُمْرَةْ عَينْ
بيْ مَوتْ بيْ حَيَاه لازِم نَرضي أمُ زَين
وشاعرنا قِرَيِّبْ الذي كان يرعى الأغنام في بوادي كردفان بدت على نفسه مع ثقافته الأولى محبة عميقة للبادية بكل عناصرها لذا نجح عندما عبر بأشعاره عن طريق ابطال مسلسلاته عن مشاعر الفراق والحب والأشواق ووصف الحبيبة عن طريق الثلاثية الخالدة في شعر الدوبيت وأقانيمها هي الشاعر والحبائب والمطايا، ساعده في ذلك إدراكاته العميقة وخبراته المتراكمة.
وكان قريب أذكى من أن يحصر أهدافه الشعرية فيما سقناه، فعندما شرفني بإهدائه لي مشروع ديوانه مخطوطاً (الجذور الأصل) لم أجد باباً في الشعر إلا وطرقه، وقد قال قريب في مقدمة الديوان المذكور إن للشعر دوافع لخصها شعراً احد الشعراء يقول:
ثمانية تجري على المرء دائماً
وكل امرئِّ لا بُدَّ يلقى الثمانية
سرورٌ وأحزان واجتماعٌ وفرقةٌ
وعسرٌ ويسرٌ ثم سقم وعافية
وقد وجدناه قد عبر في مشروع ديوانه عن هذه الثمانية التي لقيها في حياته الممتدة –بإذن الله- تعبيراً ملؤه الجودة والقوة.
شهد العام 1920م مولد شاعرنا قِرَيِّبْ محمد راجع بقرية مجهولة من قرى ريفي مدينة بارا بإقليم كردفان التي ارتاد مكاتيبها كخلوة الشيخ عوض وحلقات العلم بمسجدها ثم خلوة الشيخ تاج الدين بقرية أم دايوقة بعد أن هتف له هاتف من أعماق نفسه يدعوه لمغادرة قريته (معافى). وعندما توفي والده وجد هذا الصبي الصغير نفسه أمام مسؤولية حقيقية وهي إعالة أسرته الفقيرة، وكانت هذه المسؤولية سبباً إضافياً لمغادرته قريته (معافى) بحثاً عن سبل كسب العيش، وقد وقعنا على مربع شعري لقِرَيِّبْ يفصح لنا عن حقيقتين أولاهما الفقر الذي كان يقبض بتلابيبه، وثانيتهما انه عمل شرطيا لفترة قصيرة تحت إمرة المدعو ود صديق. يقول:
الفَوَّتْني البَلَدْ يَا سِتْ العُرُوض مَا هَيِّنْ
لا عِنْدي حُمَارْ ولا عنْزَاً ضَرِعْهَا مَحَيِّنْ
الخَلانيِ تِحِت وَدْ صِديقْ العَوَضْ متْْعَيِّنْ
نبيتْ القَوَا ونَصْبحْ مِنْ جَبَانْ مِدَيِّنْ
انتقل قِرَيِّبْ ليعمل صبي تاجر في حانوت صغير وبأجرة لم تتعد الخمسة
قروش بمدينة بارا، وقد اكسبه هذا العمل المزيد من المعرفة والخبرة بالكتابة والقراءة، إذ كان يحصر كتابه ما يرد إلى الحانوت وما يخرج منه من أصناف البضائع المختلفة، على انه لم ينس قريته (معافى) التي لم يكن وقع مغادرتها سهلاً على نفسه، فهي مرتع طفولته ومثوى أهله وأحبابه، وكان دائم الحنين إليها وكم بكت قوافيه وهو يذكرها، ولم تكن هجرته القسرية منها إلا لدوافع قوية فقد استشعر المسؤولية وانصاع لطموحاته التي امتلأت بها نفسه، غير انه كان يعلم أنه سليل أصل طيب وينحدر من أرومة كريمة مما يجعله محل احترام في قريته، إلا أن ذلك لم يغره بالبقاء فيها فقد كان يبحث بقوة عن مجد لا بد انه مصيبة فجعل أشعار الفخر بقومه تنويها في البقاء في قلوب أهله. يقول في قصيدته (الجذور الأصل) التي جاء عليها اسم مشروع ديوانه الشعري:
جذُورْنَا فَزَارَه وفَرعْنَاَ جُهَينَه
وحامِدْ جَدَّنَا مَا هُو دَهَمَبَّه ولا هُو وضَينَه
مِنْجامِل الرَفِيقْ ومَانَا طُلاَّبْ شَينَه
والفَايتَ الحِدُودْ أَصْبَعْنَا بِقْلَعْ عَينَه
ويقول في القصيدة ذاتها:
نْحنَا أَهل السَيَفْ والعِلِمْ ونحنْا أَهلْ الحِجَّه
أهلْ جلحة ام قرون وِنحنَا أهل أم قُجَّه
البحاولْ يكيدْنا ضَلّ ومَرَقْ بي الفجَّه
زيَ الشَاله مشهابْ وكوابُو الُلجَّه
بعد عامين قضاهما شاعرنا في ذلك الحانوت الصغير وتجوله بعد ذلك بين محطات أخرى في كردفان ساقته الصدفة إلى الخرطوم مرافقاً لجد أبنائه لمعالجته بمستشفى الخرطوم، فنفد ما عنده من مال ومن ثم بدأت المعجزة في نسج خيوطها، عندما اضطر للبحث عن عمل.
ولنترك قريب نفسه يحكي لنا عن بداية رحلته إلى المجد. يقول: "كنت اذهب لأعرض نفسي يومياً في سوق العمال بأم درمان ولكن دون جدوى، فما كان احد من المقاولين يختارني للعمل معه بسبب مظهري النظيف. وشاء القدر أن استأجرني احد العاملين بالشؤون الدينية للقيام ببعض الترميمات بمنزل قديم له يقرب من مستشفى التجاني الماحي، وبعد انتهاء العمل قال لي انه لا يمانع ان أردت الإقامة بالمنزل والقيام بحراسته وبالفعل قبلت العرض دون تردد. وبعد أيام قليلة جاءني ذات الرجل ليخبرني بأن هناك وظائف بجامعة أم درمان الإسلامية التي كانت قد افتتحت حديثاً ولكنه ابدى أسفه لأن هذه الوظائف تتطلب الإلمام بالقراءة والكتابة، وعندما أعلمته بأنني أتقن القراءة والكتابة اصطحبني مباشرة إلى مكاتب إدارة الجامعة، وهناك تم اختباري ومن ثم عينت خفيراً بالجامعة، وكان عملي يتطلب مني كذلك القيام بخدمة عشرين طالباً يقيمون بمنزل واحد براتب شهري قدره تسعة جنيهات، وواجباتي كانت تشمل التنظيف والطبخ والحراسة. وقد استفدت كثيراً من وجودي بين هؤلاء الطلاب بالمنزل، حيث كنت استمع إلى مناقشاتهم وهي عادة لا تبتعد عن الفقه والتفسير واللغة، وقد كانت لي خلفيات في هذه المجالات، كما كنت اطلع على مذكراتهم الدراسية أثناء غيابهم حتى أنني أصبحت أجاريهم في كل ما يثار من نقاش". ومن هنا بدأت خطوات قريب تتسع نحو المجد، اذ تمكن من الجلوس لامتحان الإجازة للالتحاق بمعهد ام درمان العلمي بعد ان انتظم بحلقات العلم التي كانت تقام بمسجد ام درمان الكبير، وكان قد تجاوز الخمسين من عمره وبعد عام من دراسته بالمعهد العلمي نال الشهادة الأهلية التي أهلته لدخول جامعة ام درمان الإسلامية طالباً وتخرج فيها بحلول العام 1978م وعمره يناهز الثامنة والخمسين، وكان هذا حدثاً التفتت اليه ادارة الجامعة ولفت نظر كبار المسؤولين في الدولة، فتعهده وزير الثقافة والإعلام المرحوم عمر الحاج موسى بالرعاية حتى تمكن وبدرجة الامتياز من الحصول على درجة الماجستير، وهي أول شهادة ماجستير تمنح من جامعة ام درمان الإسلامية وذلك عن بحث اعده بعنوان (تخريج احاديث ابو ذر الغفاري في مسند الإمام احمد)، وكان المناقش الخارجي للرسالة هو الشيخ الحسيني عبد المجيد هاشم، وكيل جامعة الأزهر، حيث لم يكن وقتها يوجد اساتذة متخصصون في ذات المجال بالسودان.
لم تقف طموحات هذا الشاعر النابه عند هذه الدرجة العلمية الرفيعة بل
استطاع ان يحرز شهادة الدكتوارة بدرجة الامتياز أيضاً عن أطروحته (توحيد وإثبات كتاب ابن خزيمة) ليعمل بعد ذلك في ذات الجامعة –التي كان يعمل بها خفيراً– استاذاً بقاعات محاضراتها وعالماً مرموقاً بين أروقتها ومحافلها ومنتدياتها وبذلك استحق اعجاب الجميع الذين اخذتهم الدهشة لإصرار هذا الرجل ومثابرته وقصة نجاحه المنقطعة النظير.
لم يكن منحه وسام العلم والآداب والفنون في العام 2003م من الدولة الا
تقديرا صادف أهله، وامتيازا وقع في صميم مكانه. وللبروفيسور قِرَيِّبْ
محمد راجع عدد من المؤلفات والبحوث العلمية وله اسهامات عامة كثيرة تجد عند المتلقين كل تقدير واحترام، كما ان شاعريته اضافت الى شخصيته ابعاداً جذابة جعلته محل اهتمام كل من له صلة بالأدب الشعبي، وسنقوم حالاً بإيراد بعض النماذج لنلقي مزيداً من الضوء على شاعرية هذا الرجل. يقول في الرثاء وقد فجع بموت صديقه يعقوب محمد علي:
عَلَيكْ الَرحْمَة تَغْشَاكْ دِيمَه يَا يَعقُوبْ
مَا شَرَقَتْ شَمِسْ ومَا تَمَّ لَيها غُروبْ
تَبَددْ لَيكْ ظلَام القَبر يَا المحَبُوبْ
وتَفتَحْ عَليكْ نَسيم الجَنَّة دُعاشْ وَهبُوبْ
وعن الفراق يقول في روعة آسرة من خلال مربع شعري صاحب مسلسله (عودة الخمجان):
طَوَّلتَ يَا الصِِهَيِّبْ مِنْ تَلَمُسْ غَارْبَكْ
وفَرقْنَا الدَهَرْ ما تْقوُلْ جَفْيتْ ومْحَارْبَكْ
فَارَقَتَ امْ هَيمْ والهَنبريب الضَارْبَك
وقَبَّلتَ تَاني ليْ رَهَدْ الدَبيبْ ومَضارْبَكْ
وقد أجاد قِرَيِّبْ استعمال الأدوات والألفاظ الشعرية متلمساً في ذلك منهج من سبقوه، فتجده قد خاطب الطير في مواضع الحنين والعشق والأشواق على لسان أبطال مسلسلاته. فيقول:
يَا طَيْر كَانْ مَشيتْ تَلْقَى أمْ عَكَايِفْ وَارْدَه
فِي بيرْ البُلُكْ والدُنْيَا صَيفْ مَا بَارْده
تَلْقَاهَا الدَهَوِكْ زَيْ الغَزَالَة الشَارْدَه
وَدِي سَلامِي لَيهَا والجَنَّة هِيلَكْ بَارْدَه
ويقول:
تَعَالْ يَا طَيرْ أَبْقَى لَيَّ قِرَيبْ
نوصِيكْ ليْ الريلْ المكانُو خَصِيبْ
مَا دَامَْ أَصْلَكْ مِبتِلي قَاعِدْ تَوَدي تجِيبْ
وَدي وَصاتي وارْجع قَبَال الشَمِس ما تغيبْ
الناظر لأشعار البروفيسور قِرَيِّبْ محمد راجع يدرك فيه فوراً ذائقة الشعر القومي في كردفان ونكهته الخاصة وطعمه المختلف، فهو يتسم بالعفوية المرفوعة على سرر التعابير البدوية الشامخة، والموضوعة على أكواب النبرة الكردفانية المحببة، وارتبط ارتباطا وثيقاً بالبيئة العامرة حيث كانت بوادي كردفان مرتعاً للأرائل ومسرحاً للغزلان ومأوى للأيانق الأصيلة، وعلى صفحات رهودها يسبح الوزين ويرقص، وعلى رؤوس أشجارها اليانعة والمثمرة تهدل الحمائم وتغني الأطيار، فكان حرياً بها ان تنجب لنا شعراء في قامة البروفيسور قِرَيِّبْ محمد راجع.
ظلت مسيرة هذا الرجل الشعرية وسيرته العلمية مستمرتين إلى الآن وقد بلغ الثامنة والثمانين من عمره –أطال الله بقاءه- وما زال قادراً على العطاء وإسعاد الآخرين وزرع الابتسامة على وجوهم، فقدرته لم تحدها أو تشلها ما أصابه مؤخراً من العمى وفقد البصر، فلا تزال بصيرته تبصر وقلبه يرى.
لماذا لا نتواضع على تكريم هذا الرجل تكريماً عالمياً يتلاءم وما حققه من معجزة، وحسناً فعل ابنه محمد وهو ينتج عنه فيلماً وثائقياً سنراه قريباً بإذن الله ولا تزال المشاورات جارية لاختيار الاسم المناسب له.
وكم كان عجيباً أن تسوقني خطاي في غير ذات مرة لصرح جامعة أم درمان الإسلامية ولا أرى أمامها تمثالاً لهذا الرجل يزاحم السحبَ.
اسعد العباسي [asaadaltayib@gmail.com]
\\\\\\\\\\\\\\
 

 

آراء