كالمستجير من الرمضاء بالنار!

 


 

 

 

aelhassan@gmail.com

منذ أن "ركب" دونالد ترمب سرج البيت الأبيض "ودَلْدَلْ" رجليه، بدأت ألاحظ أوجه الشبه المدهشة بين "نظام" - ولا أسميه "إدارة" كما يجب – ترمب، و"نظام" الإنقاذ (وهو أبعد ما يكون عن النظام)، على الإختلاف البيّن في التاريخ، والجغرافيا، والثقافة، والتقدم الاقتصادي، والمنعة العسكرية، والمكانة بين الأمم بين الولايات المتحدة والسودان. ولا أعني فقط التشابه في إنكار الحقائق، والتدليس، والجهل بالأصول الدنيا للحكم، والقرارات الفطيرة، والفجور في الخصومة، وتقديم المصالح الشخصية والحزبية على المصالح الوطنية، بل تتعدى أوجه الشبه كل ذلك لتشمل مجالات أكثر أهمية وأثرا.

قرأت مؤخرا كتابين أمريكيين لا جامع بينهما سوى تذكيري بالشبه بين "نظام" ترمب ونظام الإنقاذ. صدر اولهما قبل أسابيع بعنوان "المُهدد الخامس"، وهذه ترجمتي للعنوان "The Fifth Risk"، كتبه مايكل لويس وهو من أكثر الكتاب مبيعات وفق قائمة نيويورك تايمز، (وللكاتب عدد من المؤلفات التي لاقت رواجا). ويدور الكتاب عن الفترة الانتقالية بين رئاسة باراك أوباما وخلفه دونالد ترمب والتخبط والعشوائية التي صاحبت الإعداد الذي قام به ترمب وفريقه لتسلم حكم الولايات المتحدة، وتعيين كبار المسؤولين، وتسيير دولاب الحكومة الفدرالية التي يبلغ عدد العاملين فيها أكثر من مليوني موظف بميزانية سنوية تبلغ نحو 4,5 ترليون دولار أمريكي.

أما الكتاب الثاني فقد صدر في عام 2011 بعنوان "اختبار السايكوباتي/الجنون – رحلة عبر صناعة الجنون""– وهذه ترجمتي التقريبية لعنوان الكتاب بالإنجليزية Psychopath Test” The" - وقد كتبه الصحفي جون جونسون باسلوب صحفي جاد وفكه في نفس الوقت، كتب به عدة كتب رائجة عن مواضيع غريبة منها كتابه "الرجال الذين يحملقون في الماعز"، و "خارج المألوف: حكايات عن الجنون العادي" وكتب أخرى من نوع نفس النوع (قد نعود لبعضها مستقبلا).

لا يتسع المجال لعرض تفاصيل كتاب "المُهدد الخامس"، يكفي أن نقول أن فحوى الكتاب باختصار هو وصف الخراب الذي ألحقه ترمب بالخدمة المدنية (الفدرالية) في الولايات المتحدة نتيجة للإرتجال والجهل، والتعيينات العشوائية، والقرارات غير المدروسة، والإنحياز للأغنياء والشركات الكبرى، وتغليب أيديولوجية المحافظين الجدد المتطرفين الذي صاحب (ولا يزال) عملية الإنتقال (والإحلال) التي تمنح كل رئيس جديد الحق القانوني في تعييين الوزراء وكبار المسؤولين في الحكومة (نحو 4 آلاف، يخضع نحو ألف منهم لموافقة الكونجرس). ويتتبع الكاتب في تفصيل الآثار المأساوية المُدمرة التي تنتج حين يتولى أمر تسيير الحكومة أشخاص لا يعرفون كيف تعمل الحكومة، خاصة وأن معظم ما يواجه الحكومة الأمريكية (وأي حكومة أخرى) من مهام ومشاكل هي مسائل إدارية وعملية لا صلة لها بالإيديولوجيات وتتطلب كوادر متخصصة ذات خيرة ومعرفة والتزام بالمصلحة القومية للبلاد وشعبها. ألا يذكرنا ذلك بسياسة التمكين التي اتبعها نظام الإنقاذ طوال ما يُقارب ثلاثة عقود التي أقصى فيها النظام عشرات الآلاف من العاملين في كافة الوزارات والمصالح والجامعات، وأحلّ محلهم من تنقصه الخبرة والمعرفة (والأمانة المهنية والشخصية)، مما قاد إلى تقويض مؤسسات الدولة جميعها وإهدار مواردها وتدهور أحوال البلاد حتى شارفت مرحلة الإنهيار التام كما نرى اليوم.

انظر إلى تعيينات ترمب خلال العامين الماضيين التي اسند فيها المناصب الوزارية والعليا لأشخاص لا صلة لهم بالمهام الموكلة لهم، معظمهم من الصحفيين الموالين له أو من المليونيرات المحافظين أو من الناشطين في اللوبيات الداعمة للشركات والمصالح الخاصة (والأجنبية أحيانا)، وآخرها تعيين الصحفية السابقة في قناة فوكس الأخبارية هيزر نوارت، المتحدثة باسم وزارة الخارجية، مندوبا دائما للولايات المتحدة في الأمم المتحدة دون أي خبرة حقيقية في في العمل الحكومي أو في السياسة الدولية. وأنظر من الناحية الأخرى لتعيينات نظام الإنقاذ في المناصب الحساسة (وغير الحساسة) في الوزارات السيادية والفنية والخدمية التي أوكلت لفاقدي الخبرة والمعرفة من الحزبيين والموالين. والإختلاف الرئيسي بين التجربتين الكارثيتين هو أن تعيينات ترمب اقتصرت على بضعة مئات من المناصب العُليا، بينما شملت سياسة التمكين الإنقاذية نحو 70 ألفا من موطفي الحكومة في كافة المجالات والدرجات والمهن مما قاد بالطبع لتقويض الخدمة المدنية (والقوات النظامية) وتوقف دولاب العمل الحكومي وعجزه عن أداء أبسط واجباته ومهامه (وانظر للأزمات الغريبة التي تُمسك بخناق المواطنين، والحلول الغريبة التي خرجت بها الحكومة في مواجهة أزمة السيولة والخبز والوقود والأدوية، ناهيك عن مشاكل الحروب والأمن والتعليم والصحة وتهتك النسيج الاجتماعي والتنمية وغيرها).

كذلك لا يتسع المجال هنا لاستعراض الكتاب الثاني عن "اختبار الجنون" والبحث المُضني الذي قام به الكاتب في عدة دول، والحديث إلى عدد كبير من المختصين والمهتمين بتحديد سمات المجنون "السايكوباتي"، وخاصة بين السياسيين ورجال الأعمال، ومقابلة بعض "المرضى" في مستشفيات الأمراض النفسية الذين يخضعون لاختبارات دورية لتحديد حالتهم وما إذا كان تسريحهم يُشكل تهديدا على حياة الآخرين. وقد توصل الكاتب إلى أن هنالك قائمة من 12 سمة (تُسمى قائمة "هير" على اسم واضعها)، تُحدد من هو "السايكوباتي" عليها شبه إجماع من المختصين. وتشمل القائمة: الكذب المرضي (وأسميها متلازمة مُسيلمة)، وانعدام التعاطف والرحمة، والسطحية، وانعدام الشعور بالندم أو الذنب، وعدم تحمل مسؤولية العمل وإلقاء اللوم على الآخرين، وغياب الأهداف الواقعية طويلة الأمد، وعدم التروي، والنزعة الطفولية، والشعور بالعظمة (ميجالومانيا)، وسرعة الملل، و"الإستهبال" واستغلال الآخرين، والجاذبية (الكاريزما) السطحية. وهي صفات يشترك في معظمها "النظامان"، لا تحتاج لتدقيق النظر.

أما غياب التعاطف والرحمة بالضعفاء والأقليات والمرأة والمُعاقين والفقراء وغيرهم، فهي صفة ذميمة يشترك فيها النظامان، تعكسها، علىى سبيل المثال لا الحصر، سياسات وتعليقات ترمب المُستفزّة المُفتقدة للحساسية المتعلقة بضحايا نيران الغابات المُدمرة في كاليفورنيا، وضحايا العواصف في بورتوريكو، وضحايا الهجمات "الإرهابية" اليمينية على كنائس الأمريكان السود في كارولاينا ومعابد اليهود في بنسلفانيا، وسياساته تجاه طالبي اللجوء من دول أمريكا الوسطى ومن البلدان المسلمة، وتجاه الفقراء ومحدودي الدخل فيما يخص تيسير الحصول على التأمين الصحي، كما تعكسه تصريحات وسياسات أقطاب نظام الإنقاذ وهم يرون تردي الأحوال السياسية الاقتصادية والصحية والتعليمية، وعنت ومعاناة الغالبية العُظمى من السودانيين من الفقر والمرض وانعدام الأمن وغياب القانون، ومعاناة الملايين في معسكرات النزوح، ومعاناة ضحايا الفيضانات والكوارث الأخرى (وآخرها حريق سوق أمدرمان)، وهروب الملايين من الكوادر المُدربة والمُنتجة إلى (اي بلد يقبلهم)، وحلول النظام التي لا تخرج عن إلقاء اللوم على المواطنين، أو التشكيك في تدينهم.

أما الكذب المرضي (وهو الكذب الذي يعرف قائله أنه يكذب، وأن من يستمع له يعرف أنه يكذب، ورغم ذلك يواصل الكذب ويتساءل المرة تلو الأخرى: "هل حدث أن كذبت عليكم؟")، فلا داعي لإيراد الأدلة والبراهين على اتصاف النظامين به. يكفي فقط استعراض الكم الهائل من الأكاذيب التي تصدر من ترمب ومستشاريه ومؤيديه من الإعلاميين في وسائل الإعلام الأمريكية اليمينية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، واستعراض الأكاذيب الصادرة من قادة نظام الإنقاذ المتعاقبين والموالين لهم ووسائل إعلامهم التي لا تعرف الحياء. الاختلاف الوحيد بينهما هو أن كذب ترمب يجد، في جو حرية الصحافة وحرية التعبير المحمية بالدستور، من يرصده ويتصدى له على الفور، ويكشف مجافاته للحقائق بالبراهين والأدلة المُسجلة بالأرقام وبالصوت والصورة، بينما تظل أكاذيب (بل بُلغ) نظام الإنقاذ تبيض وتفرخ وتطير حتى لتكاد تغطي عين الشمس!

ختاما، عُدة أسئلة مُلحّة تطوف بذهني وأنا أكتب هذا المقال، أولها، هل دونالد ترمب مؤتمروطني/شعبي/حركة/جبهة إسلامية؟
ولماذا كُتب على أهل السودان دائما أن يبكوا على ما كانوا يبكون منه بالأمس؟
ولماذا كُتب عليهم دائما الاستجارة من الرمضاء بالنار؟
ألأنهم، يا تُرى، وكما قيل، خير أمة أُخرجت للنار؟

 

آراء