لا تنتظر وحدة الأحزاب السودانية لإيقاف الحرب.. قد تأتي الأحزاب متأخرة كالعادة، وقد لا تأتي مطلقا (2)

 


 

حمد الناير
16 April, 2024

 

alnaierhamad20@gmail.com

حمد الناير

نعم، هنالك حركة سودانية عفية تتخلق في الاوساط المدنية ضد الحرب. أنها تتكون في أحلك ظرف يشهده الوطن، لكنها تطل في عنفوان وتحمل كل خصائص هذا الشعب الكريم قوى الشكيمة. وتدفع ثمنا غاليا على ايدى جهاز الأمن والاستخبارات العسكرية والدعم السريع. تمتد اوشاج القديم من تقاليدنا ومنظماتنا الموجودة اصلا احيانا لتسندها وتظل احيانا تلك الحركة المدنية يتيمة لإنشغال الاحزاب بقضايا السياسيات العليا.
هكذا ظلت الاحزاب تتصرف منذ سقوط رأس النظام في ابريل 2019. وللاسف، مع أيماني العميق بالنفوذ الاخلاقي العظيم للأحزاب على جماهيرها والتيارات القريبة منها، ارى انها كأنها وقعت في شراك من صنع نفسها او كأنها حبيسة مسار لا تستطيع الفكاك منه، فقد صار الإنشغال بقضية السلطة هاجس كل الاطراف - كأنما هنالك سلطة ملقاة على قارعة الطريق تنتظر من يلتقطها. كأنما أنتهي النضال اليومي الشاق لنيل سلطة الشعب على امره وعلينا فقط ان نختار الان أن نكون حكومة او معارضة.
رصد هذه الحركة المدنية وتسليط الضوء عليها يمثل ضرورة في الوقت الحالي بل أن الحديث عنها ورفع الصوت بالنقاش حولها قد يقود الى منافذ وحدة مدنية جديدة تجبر الاحزاب الى اعادة ترتيب اوراقها واولوياتها فقد صار الفعل المعارض فوقيا سلطويا تسيطر عليه الجودية والمؤتمرات والدبلوماسية والاعلانات في حالة تقدم/قحت. وتسيطر عليه من ناحية التغيير الجذري ضغينة التخوين والعزلة، وخطاب كأنه خطاب الفيئة الناجية، ووسم الآخرين بالخيانة وشراكة الدم. بلغ الأمر بالحزب الشيوعي، رأس التغيير الجذري، نفض يده من بعض قادته حينما حاول هؤلاء القادة مد جسور الحوار مع شريكين تاريخيين كحزب الأمة وحزب البعث في القاهرة.
لا شك أن النظام الحزبي السوداني في حوجة للإصلاح، لكن لا وقت لدينا لنرسله الى إصلاحية الآن فهو مكون هام ولازم من مكونات الحركة المدنية الديمقراطية السودانية ولا يمكن أن يتحدث أحد عن حركة مدنية ديمقراطية ناجحة وراجحة دون النظام الحزبي السوداني. نريده أن يصلح حاله في خضم نضاله من اجل السلام والديمقراطية في ظل هذه الحرب. نريده أن ينتبه أن روافد الحركة المدنية رغم الهجمة الشرسة على مشروع الديمقراطية بهذه الحرب بلغت اركان في المجتمعات السودانية لم تخطر على بال.
إنني ازعم أن السودان ومنذ انلاع الحرب يشهد في النضال ضد الحرب حيوية للحركة المدنية السودانية وتنوع منابعها لم يشهدها من قبل. وللمفارقة إن الحرب التي قصد منها وأد المدنية، بعثت المدنية في توهج باهر فالحرب لا تخرج أسوأ مافي المجتمعات كما يزعمون، بل تخرج أنبل ما فيها ودعني أبدأ رصدي بمبدعيينا:
• شهدت مدينة بورتسودان بعد شهرين فقط من اندلاع الحرب -يونيو 2023- عروض مسرحية ضد الحرب والدعوة للسلام. وشهدت ايضا معارض تشكيلية. بل نظم التشكليون ورشة عمل تشكيلية للهواة شارك فيها ابناء النازحين من الحرب موضوعها ضد الحرب ومع السلام. (توجد صور لهولاء الشفع اثناء الورشة نشرت في اندباندد عربية). علق فنان تشكيلي مرموق أن الرسوم جاءت حادة الخطوط كأنها اسكتشات والالوان كانت قاتمة كأن هؤلا اليفع يعبرون عن فقدهم لدفء الحي والجيرة وطبيعية الحياة.
• اقيم مهرجان المسرح الحر في كوستي في نفس الفترة على وجه التقريب بأعمل جريئة ضد الحرب. قدمت العروض المسرحية في مراكز ايواء النازحين من مدن السودان الاخرى.
• شهدت مدينة ود مدني عروض مسرحية عن الصحة النفسية للفارين من ويلات الحرب. ظهرت بين الدراميين السودانيين مصطلحات جديدة عن "مسرح الشدة" و "مسرح البنات".
• شهد الوسط الفني السوداني، وعندما تقول الوسط الفني في السودان فهي تعني منتجي الموسيقي ومبدعيها، اعمال عديدة ضد الحرب. هذا فعل مدني جدير بالاهتمام. أذكر منه أغنية الفنان محمد الكناني ضد الحرب "نحن بخير" والفنانة عائشة الجبل في اغنيتها "الحرب الضرب .. بيوت تتخرب." وغنت الاستاذة ايلاف عبد العزيز "بكرة الهم يفوتنا ، ونرجع بيوتنا والخرطوم أمان" وغير ذلك من الأعمال. اليس ذلك الفعل المدني؟
• عمل ناشط سوداني في منظمة بريطانية على نفض ارشيف رسومات اطفال ضد منذ حرب دارفور في اول الألفية ونجح في اقناع المنظمة بتمويلة ونشرة في كاتلوج.
• نشط اتحاد الدراميين في متابعة المفقودين بسبب الحرب من عضويته ونجح اخيرا في تحديد مكان فنانة مرموقة انفصلت عن اسرتها بعد اشتباكات في منطقتها. لم يتوان اتحاد الدراميين في الاتصال بكل طرف من الاطراف يخطر على بال واستعمل كل طاقات عضويته وتوزعهم الجغرافي والاثني ليحدد مكان الفنانة المفقودة ونجح.
• ابدع شعراء اماجد في وصف الحرب عرفوا تاريخيا بقوة العارضة في تمردهم على قوالب المدارس السياسية في تنميط الأدب ونأوا بأنفسهم عن السياسة. ولن اغامر بذكر احدهم فهم كثر. لكنه في نهاية الأمر، مهما يقولون عن الكارثة الوجودية، فعل مدني من الدرجة الاولى.
هذا عن مبدعي هذا الشعب وهزهم لشجرة الحركة المدنية الديمقراطية السودانية. دعني اتحدث عن فيئات اخرى من الحركة المدنية. وسأحصر حديثي عن نشاطها المدني فقط في شهر ابريل الجاري:
• اعلنت الكوادر الطبية في مركز (الجميع) لغسيل الكلي بالابيض التوقف عن العمل احتاجا على إعتقال جهاز الأمن ل 13 من الكوادر الطبية في يوم واحد لانهم فقط طالبوا بصرف مرتباتهم المحرومين منها لتسعة اشهر بما في ذلك فبراير ومارس وطالبوا بمدخلات من أجل المرضى. تم اطلاق سراحهم بعد ساعتين وربع.
• إعتقال شباب متطوعين ، بينهم ابنة قاصرة، في البرقيق بالشمالية اقاموا افطار احتفالا بذكري انتفاضة ديسمبر. استجابة لضغط الاهالي والقانونيين في المنطقة تم اطلاق سراحهم سريعا. شباب آخرين لم يتم اعتقالهم التقطوا لهم لقطات بهيجة وهم يخروجون من قسم البوليس في البرقيق.
• في ولاية وسط دارفور العاملين احتجوا على (اللكلكة) والاستهبال في صرف المرتبات من قبل كبار موظفي المالية الموجودين في ربك، النيل الابيض، وطالب العاملون بإقالة المدير العام بوزارة المالية ولجان صرف المرتبات.
• نقابة الصحفيين – هذه النقابة المنتخبة الجديدة وليست نقابة الانقاذ – تكافح هذه الايام وتصدر البينات لمناهضة القرارات الجائرة ضد ثلاث صحفيين هم شوقي عبد العظيم، ماهر الجوخ وصباح محمد الحسن اراد مجلس سيادة الامر الواقع اخراسهم.
• حملة اسمها (ساندوا السودان) ضد الحرب والمجاعة في السودان يشارك فيها تقريبا كل منفذ اخباري او صحفي سوداني يتمتع بالاحترام. بعضها فيما يلي: راديو دبنقا، سودان تربيون، صحفيون لحقوق الانسان (جهر)، صحيفة التغيير، سودان بكرة، صحيفة مداميك، شبكة اعلاميات سودانيات، التيار، دارفور 24، صحيفة الديمقراطي، إذاعة هلا 9.6، إذاعة (Pro FM 106.6) .
• محامو الطواري يناهضون الاعتقالات في سنجة والولاية الشمالية وكوستي وام درمان والخرطوم وعطبرة.
هذا غيض من فيض. الحركة المدنية السودانية بكل خير رغم الداء والاعداء. ولكنها تنتظر.
السودانيون قوم راسخون في الفعل المدني وحين تطيش الاشياء يقعدونها في الارض و"يقوموها" على حيلها. آن لاحزابنا أن تدرك ذلك. أن تدرك ان ميراثها التليد من هذا الشعب – من اسفل الى أعلى – وأن وحدتها لا تعدو أن تكون الا تتويج لما هو أكبر منها. هذا الشعب.

 

آراء