للمَرَّةِ الأَلْفِ: بِدُونِ تَعْليمِها: حُقُوقُ الإِنْسَانِ .. هَبَاءٌ منثورٌ! .. بقلم/ كمال الجزولي

 


 

 

(1)
تُصاب الفيالق المدنيَّة النَّاشطة في الدِّفاع عن حقوق الإنسان في البلدان العربيَّة، كما في سائر بلدان العالم الثَّالث، بصدمة هائلة، حين تتأمَّل حصادها، بعد دهر من البذل الشَّاق، فلا تجد بين يديها سوى صفر كبير! وقد يحصر البعض السَّبب، فقط، في المقاومة الشَّرسة التي يبديها جهاز الدَّولة العربيَّة، غير أن هذا غير دقيق تماماً. فمع أن المعلوم من أولويَّات وظائف هذا الجِّهاز إعاقة مثل هذا النَّشاط، إلا أن ذلك ليس بالسَّبب الأوحد، ولا الأخطر. فهناك، قبل ذلك، المناهج العقيمة التي يقوم عليها عمل هذه الفيالق نفسها، فضلاً عن افتقارها إلى البُعد الجَّماهيري، رغم لافتات الدِّعاية الضَّخمة التي تزعم الاهتمام بهذا البُعد، وتروِّج له، ومع ذلك ما تنفكُّ نفس الجَّماهير تنظر إلى عوائق جهاز الدَّولة كما لو كان أمراً طبيعيَّاً، وإلى جهد هذه الفيالق كما لو كان بعض أشغال "صفوة" المثقفين وحدهم!
وكنَّا، في سياق تناول سابق لهذه القضيَّة، قد اعتبرنا هذا القصور بمثابة "كعب آخيل" الحقيقي في بنية هذا العمل، وحدَّدنا أنه يتبدَّى، بالأساس، في الضَّعف الملازم لـ "تعليم" هذه الحقوق، ليس، فقط، بالمدلول المدرسي النِّظامي، بل في معنى إثارة الاهتمام العام بهذه الحقوق، وإشاعة "الوعي" بها وسط القطاعات الشَّعبيَّة على أوسع نطاق. فلئن كانت هذه "الحقوق"، بالنِّسبة لـ "المحكومين"، هي المقابل الموضوعي لـ "السُّلطة"، بالنِّسبة لـ "النِّظام"، فإن "الوعي" بـ "ضرورتها" يمثِّل، إذن، المعول الأساسي لمجابهة انتهاكات هذه "السُّلطة"، حالة كونها مقرَّرة فوق أيِّ اعتبار لـ "الحرِّيَّة"؛ إذ "الحريَّة"، في حقيقتها، هي "وعي" هذه "الضَّرورة"، وليس ثمَّة مَن هو أقدر على التَّصدي لانتهاكات "الحاكم" غير "المحكومين" أنفسهم، في ما لو "وعوا" هذه "الضَّرورة". فالتَّصدِّي، إذن، للدِّفاع عن حقوق الإنسان، انطلاقاً من "معرفة" وثيقة بها، يعتبر فرض عين على كلِّ فرد. وبحسب الباقر العفيف فإن "حرِّيَّات النَّاس أثمن من أن يؤتمن عليها الآخرون، وثمن حرِّيَّة كلِّ فرد هو دوام سهره على حراستها؛ وهنا تكمن أهميَّة تواتر التَّوصيات، من مختلف المؤتمرات والفعاليَّات، على "تعليم" هذه الحقوق بالمعنى الواسع.
الشَّاهد أنه، بدون  معالجة هذا القصور في عمل فيالق حقوق الإنسان، يصعب توقُّع أيِّ مردود يكافئ بذل هذه الفيالق، بكلِّ ما يتطلب هذا البذل مِن جسارة، وما يقتضي مِن تضحيات.       

(2)
سوى أنه ينبغي ألا يُفهم أن الاهتمام بهذا الأمر غائب، في الوقت الرَّاهن، وبالمطلق، عن عمل هذه الفيالق. إذ المشكلة ليست في الغياب، بل في الحضور الذي هو إلى "الصَّفويَّة" أقرب. إذ ما جدوى كورسات مكرَّرة تُنظم، بنفس كتلوجات المناهج الخواجاتيَّة نقل مسطرة، وفي الغالب لنفس المتدرِّبين، المرَّة تلو المرَّة، لتُعبَّأ بها استمارات التَّقارير الدَّوريَّة للمانحين؟! وإذن، فلا بُدَّ من إصلاح هذه الوضعيَّة الشَّائهة التي لا تخلف سوى الانطباع الخاطئ بأن حقوق الإنسان شأن يخصُّ "النُّخبة" فقط. في هذا الاتِّجاه، وبقدر الحاجة للدَّفع نحو إدراج هذه الحقوق في برامج "التَّعليم النِّظامي" التَّقليديَّة، العامَّة والخاصَّة، ثمَّة حاجة، أيضاً، لابتداع مناهج تناسب البيئة الثَّقافيَّة، بغرض تضمينها خطط الثَّقافة الجَّماهيريَّة، وكورسات محو الأميَّة، وبرامج السِّينما المتجوِّلة، وعروض المسارح الأهليَّة، وأنشطة العطلات الطلابيَّة، ومختلف أعمال لجان الثَّقافة المتنوِّعة بأندية القرى، والفرقان، والأحياء الشَّعبيَّة، بما فيها صحافة الحائط، وكتيِّبات الجَّيب، ورسومات الكاريكاتير، والبوسترات الجِّداريَّة، وحتَّى التَّسلية في أخفِّ صورها، فضلاً عن الأعمال الدراميَّة، والأحاديث، والأغاني، والمسابقات التي يجري تقديمها عبر وسائط الاتِّصال الجَّماهيريَّة المستقلة، كمحطات وقنوات الراديو والتِّلفزيون الخاصَّة، والكثير، إلى ذلك، مِمَّا يمكن ابتاعه كي يحقِّق تسليح الأجيال الناشئة، وأوسع القطاعات الشَّعبيَّة، بـ "المعرفة" الوثيقة على هذا الصَّعيد. ولا شكَّ أن للفيالق نفسها، في ذلك، دوراً مقدَّراً.

(3)
ومع وجوب عدم إغفال ميل الأنظمة، بطبيعتها، إلى مناوئة مثل هذه المشروعات، مِمَّا يستوجب اعتبارها ساحة صراع أكثر منها مساراً سلساً، إلا أنه ليس من الحكمة، أيضاً، إغفال الرَّغبة الصَّميمة التي يجدر التَّعويل عليها لدى كلِّ دولة في الانتساب إلى "العصر"، ومقتضياته، ونفورها المتأصِّل من الاتِّصاف بـ "التَّخلف" المرذول، في عالم يزداد تقارباً، وتعاوناً، وتأثيراً متبادلاً، وترتفع فوقه، أكثر فأكثر، شعارات "الدِّيموقراطيَّة"، على كلا المستويين الرَّسمي والشَّعبي. ولعلَّ هذا، بالذَّات، هو أكثر ما يفسِّر تسابق معظم الدُّول إلى انتحال "الدِّيمقراطيَّة"، والتَّمسُّح بها، ولو شكلاً، وتضمين دساتيرها أسس وقواعد المشاركة في الحكم، والإحالات المسهبة إلى سلطة الشَّعب، وهلمَّجرَّا. وبما أن مبادئ "الدِّيموقراطيَّة" لا تنفصل عن مبادئ "حقوق الإنسان"، بالمعايير الدَّوليَّة، حيث هما وجهان لعملة واحدة قيمتها الحقيقيَّة هي "المواطنة المتساوية"، فقد أضحى ذلك، في عالم اليوم، بمثابة المعيار الأساسي الذي تقاس به، وتوزن، عصريَّة الدَّولة المعيَّنة، وجدارتها بالمشاركة في العلاقات الدَّوليَّة الحديثة، الأمر الذي يفضي معكوسه إلى حرج سياسي وتشريعي للدَّولة، وربَّما عزلة غير محتملة.  لذا لم يعُد من الممكن لأيَّة دولة أن تجاهر بمعاداة "حقوق الإنسان"، بينما تواصل، في ذات الوقت، ممارسة الادِّعاء العريض بالانتساب إلى "الدِّيموقراطيَّة".  

(4)
وربَّما كان من أبلغ دلائل الجَّهل المعيب بهذه الحقوق في البلدان العربيَّة أن العلم بوجود "ميثاق عربي لحقوق الإنسان" يكاد ينحصر، بالتَّبعيَّة لما سلفت الإشارة إليه، وسط نخب المثقَّفين وحدها، رغم مرور أكثر من عقد من الزمن مذ تمَّ اعتماد هذا الميثاق في القمة العربيَّة السَّادسة عشر بتونس، في 23 مايو 2004م، كالولادة المتعسِّرة من فوق عقود من المعاناة، دَعْ الجَّهل بالمشكلات التي ما فتئت، لسنوات أخرى، تحيط بتطبيقات هذه الحقوق وفق المعايير الدَّوليَّة، ما دعا الفدراليَّة الدوليَّة لحقوق الإنسان، بالتعاون مع المنظمة العربيَّة لحقوق الإنسان، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والمبادرة المصريَّة للحقوق الشَّخصـيَّة، إلى عقـد مؤتمـر إقليمـي، في القاهـرة، ما بين 16 ـ 18 فبراير 2013م، بعنوان "جامعة الدُّول العربيَّة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني: تحديات على الطريق"، بمشاركة نحو 50 منظمة مجتمع مدني وطنيَّة، وإقليميَّة، وعالميَّة، وممثلين لجامعة الدُّول العربيَّة، وخبراء حقوقيين من الاتحاد الأفريقي، ومنظمة الدُّول الأمريكيَّة، والمجلس الأوربي، وهيئات الأمم المتحدة، ودَعْ، كذلك، العلم بمشكلات  إنشاء محكمة عربيَّة لحقوق الإنسان اقترحتها مملكة البحرين، حيث أعلنت المنظمات الأربع الدَّاعية لذلك المؤتمر، في اجتماعها مع الأمين العام للجَّامعة، عن معارضتها لإنشاء هذه المحكمة، ما لم تتم الاستجابة لشروط محدَّدة، على رأسها إعداد قواعد عمل تلتزم المحكمة، من خلالها، بالمعايير الدَّوليَّة، الأمر الذي يتطلب، ابتداءً، إصلاح الميثاق العربي نفسه؛ غير أن ذلك، للأسف، لا يشكِّل أولويَّة في جدول اهتمامات الجَّامعة في الوقت الرَّاهن. ومن ثمَّ ما تزال هذه المشكلات وغيرها عالقة في أفق حقوق الإنسان التي ما تنفكُّ تُنتهك، في العالم العربي، كلَّ يوم، بل كلَّ ساعة. وليس ما يُشاع أحياناً عن تحسُّنها سوى محض استبشار بالخير!

(5)
ويكتسي أهميَّة خاصَّة، في إطار نشر هذا العلم في البلدان العربيَّة، إدماج هذه الحقوق ضمن برامج الدِّراسات الجَّامعيَّة التي توفِّر، بالإضافة إلى المعرفة الأكاديميَّة الوثيقة، البيئة البحثيَّة الملائمة لترقية هذه المعرفة، ومناهج الانفتاح بها على المجتمع، لبناء رأى عام منيع ضد أيِّ انتهاك لهذه الحقوق.
لقد حازت الجَّامعات الأوربيَّة قصب السَّبق في هذا المضمار، من حيث إدراج حقوق الإنسان ضمن مقرَّراتها، من ناحية، وتوثيق صلاتها مع المجتمع من ناحية أخرى، ممَّا أثمر وعياً شعبيَّاً عامَّاً مهَّد لإبرام اتفاقيَّات، وإنشاء مؤسَّسات، كـ "اتفاقيَّة روما لحماية حقوق الانسان 1950م"، و"اتفاقيَّة جنيف الرَّابعة 1949م" لحماية المدنيِّين في زمن الحـرب، و"المحكمة الأوربيَّة لحقوق الإنسان" في ستراسبورغ، و"معهد جنيف للقانون الإنساني" تحت إشراف الصَّليب الأحمر الدَّولي، و"المعهد الدَّولي لحقوق الإنسان" بكليَّة القانون بجامعة ستراسبورغ.
أما الاهتمام الرَّسمي العربي بهذه الحقوق فلم يبدأ إلا بعد هزيمة يونيو 1967م، حيث عقدت الجامعة العربيَّة مؤتمراً للقانون الدَّولي الإنساني، أعقبته بتخصيص جوائز، عام 1969م، لأفضل الدِّراسات. ورغم اهتمام اتِّحاد المحامين العرب، كمنظمة مدنيَّة، بهذه الحقوق، منذ بواكير تأسيسه عام 1944م، إلا أنه لم يلتفت لضرورة "تعليمها" إلا خلال ربع القرن الماضي. ولعلَّ ذلك هو السَّبب في شُحِّ التَّجارب النَّاضجة على مستوى  الجَّامعات والمعاهد العليا العربيَّة.
وهكذا، ما يزال ضروريَّاً جعل الدَّور التَّنويري لهذه الجَّامعات، والمعاهد، ومراكز الدِّراسات، وغيرها، جوهراً لعمليَّة "تعليميَّة" تعمُّ المجتمعات العربيَّة كلها، فتفجِّر "الوعي" المطلوب بحقوق الإنسان، وبالإشكاليَّات المطروحة في أفقها، وبالمداخل الصَّحيحة لفضِّها.

***


kgizouli@gmail.com
////////

 

آراء