لماذا أُفشلت مبادرة الطرق الصوفية وأهل الله

 


 

 



بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا أُفشلت مبادرة الطرق الصوفية وأهل الله

لجمع الصف الوطني في الماضي. فهل تنجح مبادرتها في المحافظة

على النسيج الإجتماعي في دارفور؟.

البروفيسور/ البخاري عبدالله الجعلي

بالرغم من أنه قد كان لهجرات القبائل العربية من الشمال إلى السودان ما كان لها في انهيار سلطة النوبة المسيحية وتحول المنطقة من دار الحرب إلى دار الإسلام إلا أن الأسلمة الحقيقية للمنطقة مردها إلى مبادرات وجهود أخرى تعود إلى شخصيات أو بالأحرى لمعلمين أتوا للسودان من أراضي الإسلام الأصل أو من شخصيات درست في تلك البقاع وتمكنوا من دخول السودان من الشرق لنشر الإسلام وسط السودانيين كما ذهب إلى ذلك البروفيسور هولت. وهو آخر مدير بريطاني لدار الوثائق (المركزية في السودان) والذي أصبح فيما بعد أستاذ التاريخ العربي في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن وهي أكبر وأعرق كلية لهذا النوع من الدراسات في العالم. ولعل أول تلك الشخصيات التي تمكنت من دخول السودان من الشرق هو غلام الله بن عايد وهو عربي يمني وصل للسودان عبر البحر الأحمر وانتهى به الإستقرار في دنقلا في حوالي النصف الثاني من القرن الرابع عشر وقد انصرف نحو تدريس القرآن الكريم وبعضاً من العلوم الدينية. وبعد قرنٍ من ذلك الزمان تقريباً وصل السودان معلم من نوعٍ آخر استقر به المقام في منطقة بربر وهو حمد أبو دونانا ويقال أنه كان متصوفاً شاذلياً شرع في نشر الإسلام بوسائل عدة من بينها نشر التصوف. وهكذا يمكن القول أن انتشار الطرق الصوفية ضارب القدم في تاريخ نشر الإسلام في السودان بل أن الفضل يعود لهم في نشره في أنحاء السودان المختلفة منذ عقود مضت وحتى الآن عن طريق الخلاوي.
والتصوف كما فهمناه وتربينا عليه ينطوي في جوهره على مفهومين واسعين أولهما (التجرد) وثانيهما هو (الخلوص) فكل شيء مرده إلى الله عزّ وجل وفي سبيل تحقيق ذلك تتعدد الوسائل والرؤى. ومن بين ذلك تأسيس الخلاوي لتحفيظ القرآن واقامة المعاهد لتدريس العلوم الشرعية. من جانب آخر شكلت الطرق الصوفية في السودان مؤسسة اصلاحية اجتماعية وطنية. وتاريخ السودان الحديث بل وحتى المعاصر يؤكد ذلك. ولكن بالرغم من ذلك فإن من المؤسف حقاً أن من بين ما يؤخذ على نظام الإنقاذ من مآخذ أخرى عديدة أنه قد عمل على تفتيت وشق الطرق الصوفية في السودان. فما التحق شيخ من شيوخ الطرق الصوفية بالرفيق الأعلى في ربع القرن الاخير إلا وعمل النظام على غرس الخلافات وسط البيوت الدينية باقحام نفسه لأسباب سياسية محضة في مسألة الخلافة وذلك بتبني هذا الإبن أو ذاك الأخ للخليفة المتوفي!!. وقد نجح النظام بذلك الإسلوب في تحقيق مآربه بكل أسف وسط العديد من البيوتات الصوفية بحيث انبثق عن المشيخة الواحدة في عدد من البيوتات الدينية خليفتان أو ثلاث أو حتى أربع خلفاء ولم ينجو من (المصيدة) إلى بيوتات قليلة. ونحسب أننا لسنا بحاجة لتسمية هذه الطرق وتلك البيوتات لاعتبارات نقدّرها. وبهذا الإسلوب طعنت بعض الطرق الصوفية في مقتل حيث تجزرت الخلافات وسط العديد من الطرق الصوفية والبيوتات الدينية المرموقة في السودان. وما كان لذلك أن يحدث لولا السياسات التي تبنتها الإنقاذ نحو الطرق الصوفية في السودان.
إن ما حدث في الخرطوم في الأيام القليلة الماضية في المجلس الوطني بأمدرمان وحضور الشيخ حسن الترابي للإحتفاء الذي حدث وانبثقت عنه ما عرف بمبادرة الطرق الصوفية وأهل الله لنزع فتيل أزمة دارفور، هو ما فرض علينا التنويه بأن الطرق الصوفية بالإضافة إلى أنها مدرسة دينية قرآنية توحيدية هي مؤسسة اجتماعية اصلاحية وطنية. ففي (كدباس) مقر الطريقة القادرية الجعلية التي أتى بها الشيخ عبدالرحمن الخرسان أحد تلاميذ الشيخ عبدالقادر الجيلاني للشيخ الجعلي الأكبر في أواخر القرن التاسع عشر على سبيل المثال، تنعقد مجالس الصلح حيث يعفو أهل المقتول عن القاتل حتى بدون دية وتحل المشيخة بذلك محل المحكمة الجنائية. وتعود المرأة طالبة الطلاق لبيت الزوجية بعد أن يعلن زوجها التوبة ويتعهد بالكف عن معاقرة الخمور، وقد يطلب الزوج من الشيخ أن يؤدبه بالجلد بالسوط تأكيداً لندمه عما حدث منه في الماضي فتكون المشيخة بمثابة قاضٍ للأحوال الشخصية. ويأتي أهل المرضى بمرضاهم حيث يجدون العلاج في مستشفى كدباس الحديث مقترناً بالعلاج الإيماني بالقرآن الكريم والدعاء والتوسل إلى الله العلي القدير بشفائهم فيرتاح ذوو المرضى من همٍ كبير. ولا يقتصر دور المؤسسة الصوفية على هذه الأدوار، بل هناك الدور الوطني الذي ظلت تلعبه الطرق الصوفية منذ فجر الحركة الوطنية في السودان. ويحسب للزعيم الخالد الأزهري عندما كان رئيساً للحزب الوطني الإتحادي وهو في طريقه لولاية نهر النيل خلال جولة انتخابية قولته المشهورة في احدى الليالي السياسية " إن القطار عندما غادر محطة الجيلي اسمعه وكأن عجلاته تقول كدباس كدباس كدباس".
وهكذا لم يكن غريباً عندما استشعرت الطريقة القادرية الجعلية المخاطر وقد أخذت تحدق بالسودان وأصبح أبناء الوطن الواحد يتقاتلون وتعقدت حياة العباد في البلاد، تحمل الشيخ الحاج حمد الجعلي عليه شآبيب الرحمة والغفران عبء تحريك أول مبادرة وطنية للوفاق في السودان بين أبناء الوطن الواحد درءاً للفتن وحداًَ للإقتتال في منتصف العقد الأخير من القرن الماضي. وبناء على ذلك الإستشعار قام بمبادرة مدروسة ومبحوثة. ولعل أبلغ شاهد ودليل على ذلك أنها لم تكن ثنائية ولا ثلاثية بل كانت مبادرة شاملة استهدفت جمع كل الفرقاء السياسيين على كلمة سواء في صعيد واحد للحوار والتشاور لانقاذ السودان مما آلت إليه أوضاع البلاد والعباد وماقد تؤول إليه كما هو ثابت الآن بكل أسف.
لقد تكونت المبادرة من مرحلتين أولهما الإطمئنان بأن كل الأطراف المعنية مقتنعة بمبدأ الوفاق الوطني وإذا ما تأكد ذلك يكون الإنتقال إلى الآلية التي تجعل كل الفرقاء وجهاً لوجه إذ لا يستقيم الكلام عن مضمون الوفاق إذا لم تكن الأطراف المستهدفة مقتنعة به من حيث المبدأ. وهكذا بدأ شيخنا مشروعه بدقة وفهم. فإلتقى بدايةً بالأستاذ سيد أحمد الحسين الذي أكّد له قبوله بالوفاق بالرغم مما عاني منه من معاملة قاسية بل وتعذيب من السلطة الحاكمة في الأبيض إلى الحد الذي أوشك أن يؤدي بيده الأخرى على حد تعبيره!! ثم التقى بخلفاء الختمية برئاسة خليفة الخلفاء المرحوم الشيخ حمد كمبال الذي كان زميلاً للشيخ الجعلي في معهد أم درمان العلمي. ونذكر أنه كان في حالة تأثر بالغ عندما قال لشيخنا بالحرف الواحد وكنا على ذلك من الشاهدين: "ليس لدينا كبير في داخل السودان الآن يا شيخنا غيرك". ثم التقى بأعضاء من المكتب السياسي للحزب الإتحادي الديمقراطي برئاسة المناضل المرحوم الحاج مضوي والأستاذ ميرغني عبدالرحمن الذين باركوا المبادرة وأعلنوا تأييدهم لها وقد تبع ذلك اجتماع آخر في منزلي. ثم انتقلنا للإجتماع بالسيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة في منزله بالملازمين الذي أكرم وفادته وأيده في جهوده. نقرأ في مذكراتنا أن الإمام الصادق قال له: " هذا البلد لديه كبار، أجمعونا جميعاً أنتم كبارنا في أي من مساجد الله  لنتحاور ونتناقش حكومةً ومعارضين لننقذ هذا البلد". والتقينا من بعد ذلك الشيخ حسن الترابي الذي أيد المبدأ بل وأصرّ على أن يغادر كاتب هذا المقال للمملكة العربية السعودية بصفة عاجلة لمقابلة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل طالما أن الشيخ الجعلي سيزامن سفره مع عودة أحد الاطباء إلى السعودية. ثم كان لقاؤنا مع الأخ رئيس الجمهورية الذي استضاف الشيخ الجعلي على افطار رمضان كان بسيطاً جداً، ومن ثمّ كان الإجتماع الذي حضره معه وزير الدفاع الحالي والأخ الفريق الدابي الذي كان رئيساً لجهاز الأمن آنذاك. وقد شكر الرئيس شيخنا على جهوده وأيد المبادرة. ونقرأ في مذكراتنا أنه قال لنا بالحرف الواحد "اقنع ناسك الإتحاديين"!!!. وقد لا يتصور القارئ أن المبادرة قد وصلت بعد جهد جهيد وبحث إلى منزل متواضع في الخرطوم كان يقيم فيه السيد/ أبيل ألير الذي أيد المبادرة بدوره بعد حوار طويل وطلب أن نأتي له بترجمة للمبادرة باللغة الإنجليزية وذاك ما قمنا به. وفي خلال هذه الفترة لم يكن ابن بربرالأخ كبج غائباً عن الأنظار. كما حرص شيخنا على مقابلة أستاذنا الشيخ الصادق عبدالله عبدالماجد المرشد العام للأخوان المسلمين آنذاك ولكن توعكه في ذلك التوقيت قد حال دون تحقيق تلك الرغبة.
وهكذا يمكن القول أن كل الأطراف الموجودة في داخل السودان قد تم الإلتقاء بها في اطار مبادرة الشيخ الجعلي للوفاق الوطني وأنها قد أيدت المبدأ وباركته. ولم يبق إلا الإجتماع بمولانا السيد محمد عثمان الميرغني. ولذالك الغرض سافرنا إلى المملكة العربية السعودية في معية شيخنا. ويحسب للسيد محمد عثمان أنه أصر أن يحضر هو للشيخ الجعلي في منزلته المتواضعة في جدة تكريماً وتقديراً وألا يحضر له الشيخ الجعلي. وهكذا كان السيد محمد عثمان الميرغني حريصاً دائماً على تقدير الأصول واحترام التقاليد المرعية وقد قام فيما بعد ذلك بتكريمه في منزلته. وبعد ليلة رمضانية دينية سياسية طويلة بدأت بتلاوة آيات من القرآن الكريم تخللتها مدحة نبوية وتساؤل منه عن صحيفة "الرأي الآخر" التي كنا أحد مؤسسيها وحوار طويل سياسي عميق انتهى بمخاطبة السيد محمد عثمان للشيخ الجعلي بقوله " أننا نقبل مبادرة الوفاق طالما أتت من الشيخ الجعلي. ولدينا شرط واحد أن يكون رئيس الجمهورية طرفاً مباشراً في المفاوضات!!!".
بهذا الحصاد الذي كلل بالقبول بالمبدأ عدت للسودان مستبشراً بأن ملامح إلتقاء الفرقاء في صعيد واحد قد لاحت في الأفق. وبدأت بالإلتقاء بالشيخ حسن الترابي حاملاً له قبول المبادرة من كل الأطراف. ثم التقيت بعد ذلك بالرئيس في المقر السابق لمجلس الوزراء وكان وحيداً. شرحت له كل الجهود التي قام بها الشيخ الجعلي منذ البدء وحتى عودتي من المملكة العربية السعودية ولقائي بالشيخ حسن الترابي. وللتاريخ نقرأ في مذكراتنا أن الرئيس قال لنا بالحرف الواحد "أنه ليس متطرقاً ولكنه ابن نهر النيل ويعرف كدباس جيداً منذ صغره ويحب الشيخ حاج حمد الجعلي ويحفظ له أنه شيخ (الطريقة الوحيد) في السودان الذي لم يطلب منه شيئاً اطلاقاً لا لنفسه أو لأسرته". وانتهينا على أن أعود للسعودية لأنقل للسيد محمد عثمان موافقة الرئيس بأن يكون مشاركاً شخصياً في أي ملتقى يتم الإتفاق عليه لتحقيق الوفاق الوطني وقد صدر خبر رسمي بذلك اللقاء أذاعه تلفزيون السودان. وسعدت كل السعادة بذاك الإنجاز في سبيل الوطن ولكن سعادتنا لم تدم طويلاً بكل أسف، فبعد أقل من 24 ساعة من تلك المقابلة صدرت تصريحات من السلطة الحاكمة والمسيطرة على كل مقاليد الامور تنفي أي توافق مع المعارضة و (الطائفية) سواء كانت في الداخل او في الخارج!!! وكان ردنا الفعلي والمباشر أن قمت بإبلاغ شيخنا في المملكة العربية السعودية بإغلاق هذا الملف. وهكذا وئدت أول محاولة جادة في دبلوماسية الطرق الصوفية وأهل الله لجمع الصف الوطني وما زال السؤال الملح بالنسبة لنا حتى الآن هو: لماذا وئدت السلطة الحاكمة تلك المبادرة وتراجعت عنها بالرغم من أنها قد أيدتها وأعربت عن حماس شديد للمضي فيها لوضعها موضع التنفيذ؟
خلاصة القول إن ما يحاول هذا المقال طرحه والتذكير به أن ثمة مبادرة مبحوثة ومدروسة قد قام بها الشيخ الجعلي في منتصف العقد الأخير من القرن الماضي. وقد بذل فيها جهداً كبيراً واجتماعات عديدة مع كل الفرقاء لجمعهم في صعيد واحد. وأن المثير للدهشة والحيرة أن السلطة قد واقفت على أرفع مستوياتها على ذلك وعندما حان قطافها أجهضتها على نحو ما زال محيراً للمجتمع السياسي في السودان. والآن وقد تبدت في الأفق ملامح مبادرة جديدة للطرق الصوفية وأهل الله، فهل يكتب لها التوفيق لانقاذ النسيج الإجتماعي المشتت والمبعثر والذي تمزق في دارفور وتشتت وتبعثر في كل أنحاء السودان بل تشتت وتمزّق السودان ذاته، أم سيكون مصيرها الإفشال والتفشيل بذات الطريقة المحيرة التي وئدت بها مبادرة الشيخ الجعلي بعد أن لاحت في الأفق ملامح نجاحها. وربما يمتد السؤال إلى أبعد من ذلك ليشمل ما إذا كان مصير مبادرة الحوار التي يطرحها رئيس الجمهورية الآن سيكون مآلها نفس مصير مبادرة الشيخ الجعلي؟ مجرد سؤال يفرضه الواقع الذي نشاهده في خشبة المسرح السياسي هذه الأيام في السودان.

teetman3@hotmail.com

 

آراء